عادة التكفير.. علّة الفكر الديني (10)

من مسلّمات الفكر الديني أنّ من يؤمن بعقيدة معيّنّة لا يمكنه أن يتقبّل عقيدة أخرى، خصوصاً إذا كانت معاكسة لما يؤمن به. لكن علّة الفكر الديني هي في تجاوز الحقّ في الردّ على الآخرين ودحض ما يؤمنون به، والإندفاع المفرط إلى تكفيرهم عند حصول خلاف بين العقائد وصولاً إلى إلغائهم من الوجود.

عادة التكفير في الإسلام هي من الأمور التي شاعت منذ نشوء الدعوة مع النبي محمّد، واستعرت بعد وفاته. هناك عادة تكفير أعداء النبي أو بعض أتباعه الذين عاندوه. وبعد موته، نشبت الخلافات بين المسلمين وكفّر بعضهم البعض، واستعار كثير من فقهاء الإسلام عادة تكفير المشركين في جزيرة العرب وعمّموها على العالمين.

إذا نظرنا في القرآن مثلاً (وهذا جهد أكاديمي لا يشير بالضرورة إلى ما آمن به المسلمون ومارسوه)، نجد أمثلة كثيرة عن التكفير. أضف إلى ذلك أنّ “ك-ف-ر” هو من أكثر الجذور استخداماً في القرآن. وإذا أحصينا تعابير أخرى تدلّ على الكفر، مثل الشرك والنفاق – مثلاً، “قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكَينَ” (سورة الأنعام 14)، “وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (سورة الفتح 6)، “وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً” (سورة الفتح 13)، إلخ. – نكون أمام نوع من التكثيف القرآني في تكفير الآخرين.

سؤال بحثنا هذا هو هل التكفير في هذه الحالات هو عبارة عن مبالغة في التعبير أمّ تعبير بياني (مُبيّن للأمور)؟ شامل أمّ محدود؟ مبرم ونهائي أمّ تكتيكي ومرن؟ وهل يدلّ على تكفير عملي (أي بالممارسة) أم نظري (على الورق) ومؤجّل؟

لنأخذ مثلاً آيات سورة “الكافرون”:

“قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ. لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”.

والآيتان 19 و20 من سورة “آل عمران”:

“إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ. فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ، وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ، وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ”.

يمكن وصف هذا النوع من التكفير بالقاطع والنهائي من جهة، لكنّه من جهة أخرى هو تكفير نظري ومؤجّل بمعنى أنّه لا يطالب المؤمنين بمعاقبتهم: “لكم دينكم ولي ديني” و”وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ”.

لكن في أمثلة أخرى، نجد الأمر مختلفاً، كالآيتين 5 و6 من سورة “التوبة”:

“فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ”.

القرآن يستخدم التكفير لأسباب مختلفة ومتناقضة، ولا يبدو أنّه يربطه بممارسة واضحة يطلبها من المؤمن تجاه الكافر. بل أكثر التكفير مبالغ فيه وإنفعالي، ومعظمه مؤجّل، بمعنى أنّ حساب الكافرين عند الله (في الآخرة أو في يوم الحساب)، أو بمعنى إمهال الكافرين مزيداً من الوقت

تبدو بداية هذا المقطع وكأنّها أمر إلهي بيّن، مبرم، وشامل في كيفيّة معاملة الكافرين، يتطلّب ممارسة معيّنة في حقّهم: “فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ….”، لكن في الجزء الثاني من الآية 5 (المعروفة بـ”آية السيف”) والآية 6 نجد تراجعاً عما سبق: “إِن تَابُواْ… فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” و”َإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ… ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ”، وهذا يشير إلى تكفير مبالغ به، إنفعالي، محدود، تكتيكي، تأجيلي، ولا يشير إلى معاملة حاسمة تجاه الكافرين.

ويمكن أن نسأل أيضاً عن هدف التكفير؟ هل هو وسيلة أم غاية؟ هل يهدف إلى إرهاب الكافر أم حثّه على الإيمان والتوقّف عن الكفر؟ هنا أيضاً، لا نجد إنسجاماً في الخطاب القرآني. مثلاً، في المقطع السابق، يبدو وكأن عمل بعض الفرائض (“فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ…”) يزيل صبغة الكفر. لكن الآية 6 لا تشير إلى أي فرض. وفي أماكن أخرى، مثل الآية 29 من سورة التوبة (المعروفة بآية الجزية)، لا يبدو أنّ هدف التكفير هو الحثّ على الإيمان:

“قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ”.

والملفت للإنتباه في هذا المقطع من سورة التوبة هو ما يبدو أنّه تكفير مباشر لبعض أهل الكتاب (المسيحيّون واليهود). لكن القرآن لا يطالبهم بتاتاً أو يشترط عليهم أن يتوقّفوا عن الكفر أو يصحّحوا أيّاً من معتقداتهم الكافرة، بل عليهم فقط أن “يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ”. إذاً، لا يبدو التكفير في هكذا حالات وكأنّه وسيلة بل غاية بعينها، بمعنى أنّ النصّ القرآني يستخدمه أو يشير إليه في عباراته للفصاحة ومن دون أن يربطه بهدف يتعلّق بالإيمان.

إقرأ على موقع 180  هل يصبح طريق ويستفاليا العربية والمشرقية سالكًا؟

وهناك أمر آخر في موضوع التكفير في القرآن. هل هو تكفير للكلّ أمّ فقط لعدد بسيط من أتباع ديانة أو معتقد معيّن؟ لنأخذ مثلاً الآيات 29-32 من سورة التوبة:

“وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ”.

نفهم من هذا المقطع أنّ اليهود كفروا لأنّهم قالوا “عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ”. وعلينا أنّ نتوقّف هنا لنسأل هل اليهود حقّاّ قالوا بعُزير ابن الله (بغضّ النظر عن هويّة هذا العزير)؟ الجواب هو قطعاً لا، على الأقلّ لا نجد أي دليل عند الأكثريّة العظمى من اليهود الذين كانوا موجودين في زمن النبي محمّد أنّهم قالوا بهذا الشيء. إذاً، إستخدام القرآن هو استخدام بلاغي للتكفير يجعله يعمّم الخطاب، بينما ما يعنيه هو جمعُ ضئيلُ من اليهود.

ومن هنا علينا السؤال إذا كان القرآن دائماً يستخدم عبارات تشير إلى الكلّ بينما هو يعني البعض فقط؟ وإذا كان هذا صحيحاً، يمكن القول إنّ عادة تعميم التكفير نوع من سوء الفهم للقرآن.

في الخلاصة، يبدو أنّ القرآن يستخدم التكفير لأسباب مختلفة ومتناقضة، ولا يبدو أنّه يربطه بممارسة واضحة يطلبها من المؤمن تجاه الكافر. بل أكثر التكفير مبالغ فيه وإنفعالي، ومعظمه مؤجّل، بمعنى أنّ حساب الكافرين عند الله (في الآخرة أو في يوم الحساب)، أو بمعنى إمهال الكافرين مزيداً من الوقت. هذه الجدليّة نجدها كثيراً في القرآن (وتنطبق على مواضيع كثيرة غير التكفير)، وإن دلّت على شيء فهو على حجم المشاكل والمصاعب التي تواجهنا إذا أردنا أن ننظر في الخطاب الديني ونكتشف طبيعته وأهدافه.

 

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هَرِمنا.. في إنتظار جيل عربي أكثر حكمة