زهران ممداني.. ظاهرة جديدة في التاريخ الأميركي

فوز زهران ممداني في انتخابات عمدة ولاية نيويورك كرّس ظاهرة تستحق المتابعة. بدءاً بالهوية والمواصفات والانتماء وكل المسار الذي جعله يُقارع الأقوياء في حزبه الديموقراطي كما خصومه في الحزب الجمهوري، وصولاً إلى دخوله مبنی بلدية إحدى مدن العالم الأكثر غنى، صناعياً وتجارياً ومالياً وثقافياً وسياحياً وترفيهياً.

لا أحد كان يعرف من هو زهران ممداني قبل شهور قليلة من فوزه. لمع اسمه في مدينة المال والأعمال؛ المدينة التي تُعتبر رمز القوة الناعمة للولايات المتحدة والتي تحتضن “وول ستريت”؛ المدينة التي تضم أكبر عدد من المليارديرات في العالم؛ المدينة المصنفة بين المدن الغنية في العالم. مدينة المال والأسهم والسندات.

من هو زهران ممداني ابن الأربعة وثلاثين عاماً؟

هُو، كما يُردّد، ليس المرشح المثالي “لكنني مسلم اشتراكي ديموقراطي وأرفض الاعتذار عن أي من هذه (الصفات)”. وزاد في خطاب الفوز أمام جمهوره: “نيويورك مدينة المهاجرين وبُنيت بواسطة المهاجرين وتدار بقوة المهاجرين، واعتباراً من هذه الليلة يقودها مهاجر”.

في قراءة أولية للمصطلحات التي تضمنها خطاب ما بعد الفوز يظهر جلياً أنه يتباهى بهوياته: “مسلم”، “اشتراكي”، “ديموقراطي”، “مهاجر”، وهي مصطلحات جدلية حسّاسة وساخنة تتجاذبها التيارات والأحزاب الأميركية المختلفة، ولا سيما في ضوء قرار الرئيس دونالد ترامب بتضييق الخناق علی المهاجرين والاستمرار في خطته وبرامجه الاقتصادية التي أدت الی مستويات قياسية من التضخم والبطالة وغلاء المعيشة. خططٌ وبرامج أدت إلى جعل نسبة التأييد لترامب في أدنى مستوياتها، إذ تجاوزت الفجوة السلبية بين المؤيدين والمعارضين حاجز العشر نقاط مئوية، وفقًا لمؤشر “ريل كلير بولينج”، الأمر الذي يُمكن أن يؤثر سلباً على انتخابات التجديد النصفي في خريف العام 2026، ويتزامن هذا التراجع مع الإغلاق الحكومي الحالي الذي أصبح الأطول في التاريخ هذا الأسبوع، بعدما تجاوز الأربعين يوماً.

الخطاب الاجتماعي

قال زهران ممداني في خطاب الفوز: “سوف نحاسب أصحاب العقارات السيئين لأن أمثال ترامب في مدينتنا اعتادوا علی استغلال المستأجرين من دون محاسبة، سننهي ثقافة الفساد التي سمحت للمليارديرات أمثال ترامب بالتهرب من الضرائب واستغلال الاعفاءات الضريبية.. سوف نقف إلی جانب النقابات وندافع عن حقوق العمل.. وكما يعلم ترامب، عندما يتمتع العمال بحقوق قوية يصبح أصحاب العمل الذين يستغلونهم صغاراً جداً بالفعل. سنقاتل من أجلكم لأننا منكم”.

هنا ينبري السؤال الآتي: من هم هؤلاء الذين كان يخاطبهم ممداني؟ وهل خاطب عموم الشعب الأميركي أم فقط قاعدته في نيويورك؟

هذا سؤالٌ مهمٌ لأن الوسط الاجتماعي الذي تحدث معه ممداني هو الوسط الذي أوصله إلى منصب عمدة نيويورك. إنّه جيل “Z” وجيل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً. هذه القوة الخارقة التي لا تقرأ الصحف ولا تشاهد القنوات التلفزيونية ونشرات الأخبار، لا “فوكس نيوز” ولا “سي. إن. إن”. إنهم يملكون وسائل التواصل الاجتماعي والجهاز السحري الذي استطاعوا عبره خلال أقل من ستة أشهر تغيير المعادلة الانتخابية وإبعاد ديناصورات السياسة، من جمهوريين وديموقراطيين، علی حد سواء.

نجح الشاب في مخاطبة عقول الجيل الجديد. طرح خلال حملته الانتخابية أفكاراً كتلك التي يحلم بها الشباب وهم يناضلون لأجل وظيفة مفقودة أو مسكن بسعر أو ايجار عادل أو نقل عام مجاني إلی حد كبير.. طرح أيضاً أن تكون حضانة الأطفال شبه مجانية.

ظاهرة سياسية

زهران ممداني ظاهرة سياسية أخلاقية بكل معنى الكلمة. قاوم جماعات الضغط الإسرائيلية.. كان لافتاً للانتباه أن أغلب يهود نيويورك من فئة الشباب وقفوا إلى جانبه. تعاطف مع فلسطين ووقف ضد المذبحة التي ينفذها الجيش الإسرائيلي ضد سكان غزة.. كافأهم ترامب بقطع ميزانية الجامعات التي وقفت ضد إسرائيل مثل جامعة هارفرد.

نحن نتحدث عن نيويورك، المدينة التي شهدت أفظع المشاهد في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. لم يناصره الديموقراطيون في حين حاربه الجمهوريون كما الدولة العميقة التي جنّ جنونها وسعت بشتی الطرق لابعاده واقصائه عن المسرح. مسارٌ جديدٌ لكنه بلا مآلات محددة. لم يكن الضيف المناسب للجمهوريين غير أن الديموقراطيين الذين انتمی لهم بدوا أيضاً محرجين لأن 70 – 80 بالمئة من شباب هذا الحزب تأثروا بما يحمل من أفكار وتصورات وخطاب سياسي واقتصادي جديد لأنه جدّد الأمل بالتغيير، بعدما صار الحزب الذي ينتمون إليه غير قادر على تجديد نفسه وقياداته.

من جهته، يعتقد دونالد ترامب أن النظام السياسي الأميركي وأدبياته يجب أن يتغيروا بما يخدم مستقبل الولايات المتحدة. ويُؤخذ على ترامب أنه لم ينجح في استمالة شريحة الشباب التوّاقة للتغيير في المجتمع الأميركي..

في المقابل، وبرغم دينه الإسلامي الذي من شأنه أن يُدغدغ عواطف المسلمين، إلا أن خطاب ممداني كان بعيداً كل البعد عن التعصب والمذهبية والانغلاق.. خاطب العقول والآمال قبل القلوب والمشاعر.

قد يتصور البعض بأن الكاتب يُبالغ في الحديث عن زهران ممداني لكن الرأي العام الأميركي نفسه يبدو مشدوهاً في التعامل مع ظاهرة يصعب أن تمر مرور الكرام. ظاهرةٌ ستخضع للتدقيق والتمحيص من مراكز الأبحاث وأساتذة علم الاجتماع والسياسة والميديا.. لأجل محاولة رصد ما سيكون لها من انعكاسات مستقبلية علی المجتمع الأميركي.

إقرأ على موقع 180  لبنان: نوّاف سلام رئيساً مكلفاً.. بإدارة أزمة التأليف!

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  بايدن يتخلص من نتنياهو أم يغرق في "حروب أبدية"؟