المعادن الأرضية النادرة: النفط الجديد في السباق الصيني الأميركي!

شهد القرن العشرون تنافسًا عالميًا على موارد الطاقة التقليدية، وفي مقدمتها النفط. أما القرن الحادي والعشرون فيشهد سباقًا من نوع جديد، يتمحور حول المعادن الأرضية النادرة، وهي مجموعة من العناصر التي باتت تمثل الركيزة الأساسية للصناعات التكنولوجية المتقدمة والطاقة المتجددة. ومع تصاعد التوترات التجارية والتكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، أصبحت هذه المعادن محورًا استراتيجيًا في التنافس الاقتصادي العالمي.

تتألف المعادن الأرضية النادرة من سبعة عشر (17) عنصرًا معدنيًا، من بينها النيوديميوم، اللانثانوم، الديسبروسيوم، والتيربيوم. وبرغم أن هذه العناصر ليست نادرة من حيث الوجود في القشرة الأرضية، إلا أن استخراجها ومعالجتها الاقتصادية يتطلبان تقنيات معقدة واستثمارات عالية، ما يجعلها من الموارد الاستراتيجية ذات الحساسية العالية في سلاسل الإمداد العالمية. وتتميز هذه العناصر بخصائص فيزيائية وكيميائية استثنائية، مثل المغناطيسية القوية، والقدرة على إصدار الضوء، والمقاومة الحرارية، ما يجعلها مكوّنًا أساسيًا في عدد واسع من التطبيقات الصناعية والتكنولوجية.

وتدخل المعادن الأرضية النادرة في مجموعة من الصناعات الحيوية، أبرزها الآتي:

  • الطاقة النظيفة: تستخدم عناصر مثل النيوديميوم والبراسيوديميوم في صناعة المغناطيسات الدائمة لتوربينات الرياح ومحركات السيارات الكهربائية.
  • الإلكترونيات الدقيقة: يُستخدم اليوروبيوم والتيربيوم في شاشات العرض وأجهزة الإضاءة الحديثة (LED).
  • البتروكيماويات: يُوظَّف السيريوم واللانثانوم في عمليات تكرير النفط وتلميع الزجاج.
  • الدفاع والفضاء: تدخل عناصر مثل الساماريوم والديسبروسيوم في صناعة السبائك المقاومة للحرارة والمستخدمة في الطائرات العسكرية والصواريخ وأنظمة التوجيه.

ومع التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر والرقمي، من المتوقع أن يشهد الطلب على بعض هذه المعادن نموًا مضاعفًا بحلول عام 2030.

التوزيع الجغرافي والإنتاج العالمي

برغم توافر هذه المعادن في مناطق عدة حول العالم، إلا أن الإنتاج الاقتصادي يتركز في نطاق محدود.

  • الصين تحتل الصدارة عالميًا بنسبة تقارب 65% من إجمالي الإنتاج، ويُعد منجم «بايان أوبو» في منغوليا الداخلية من أكبر مناجمها.
  • الولايات المتحدة تأتي في المرتبة الثانية بنحو 15% من الإنتاج، عبر منجم «ماونتن باس» في كاليفورنيا.
  • أستراليا تسهم بنحو 10% من خلال شركة «ليناس» الرائدة في هذا القطاع.
  • دول أخرى مثل ميانمار وفيتنام وروسيا.

هيمنة الصين وقدراتها

تتجاوز الهيمنة الصينية حدود التعدين إلى المراحل الأكثر أهمية في سلسلة القيمة، وهي عمليات الفصل الكيميائي والمعالجة الصناعية، التي تمثل جوهر صناعة المعادن النادرة. وتسيطر الصين على نحو 90% من طاقة التكرير والفصل عالميًا، ما يمنحها موقعًا احتكاريًا في هذا القطاع الاستراتيجي. هذا التفوق لم يأتِ مصادفة، بل نتيجة سياسات صناعية طويلة الأمد تبنتها بكين منذ تسعينيات القرن الماضي، شملت دعم الإنتاج المحلي، وتطوير البنية التحتية الصناعية، والسيطرة على تقنيات المعالجة المعقدة. وقد مكّنها ذلك من بناء منظومة إنتاج متكاملة تمتد من استخراج الخام إلى تصنيع المكونات عالية القيمة مثل المغناطيسات الدائمة والبطاريات.

تمتلك الصين اليوم أكبر قاعدة تصنيع للمغناطيسات الدائمة في العالم، وهي مكونات أساسية في السيارات الكهربائية والروبوتات وتوربينات الرياح. وبهذا، أصبحت الصين لا تتحكم فقط في إمدادات المواد الخام، بل أيضًا في المراحل التصنيعية النهائية ذات القيمة المضافة الأعلى، ما يمنحها ميزة استراتيجية في الاقتصاد الصناعي العالمي.

محاولات التنويع والإمداد البديل

في المقابل، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تقليل الاعتماد على الصين من خلال تطوير مصادر بديلة وسلاسل توريد مستقلة حيث تعمل شركة MP Materials الأميركية على إعادة تشغيل منجم «ماونتن باس» وتوسيع قدراته في التكرير المحلي بينما تواصل شركة Lynas الأسترالية دورها كمزود رئيس خارج الصين. كما تستثمر كندا وغرينلاند والاتحاد الأوروبي في مشاريع استكشاف جديدة وتطوير تقنيات إعادة التدوير. وبرغم هذه الجهود، تشير التقديرات إلى أن تحقيق اكتفاء ذاتي في هذا المجال سيحتاج إلى سنوات طويلة واستثمارات ضخمة، نظرًا لصعوبة المعالجة والتحديات البيئية المرتبطة بها.

البعد الجيوسياسي وسباق الموارد

تحولت المعادن الأرضية النادرة إلى أداة استراتيجية في التنافس بين الصين والولايات المتحدة. ففي ظل الحرب الجمركية المتبادلة، برزت هذه المعادن كورقة ضغط حساسة، حيث يمكن لأي تقييد في صادرات الصين أن يؤدي إلى اضطرابات في سلاسل الإمداد العالمية، خصوصًا في قطاعات السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والإلكترونيات الدقيقة. هذا الوضع خلق اعتمادًا متبادلًا معقدًا: فالولايات المتحدة تتصدر الابتكار التكنولوجي، فيما تهيمن الصين على الموارد والعمليات التصنيعية الضرورية له، وهو ما يعمّق الطابع الاستراتيجي للعلاقة بين الجانبين.

في الخلاصة؛ تعكس قضية المعادن الأرضية النادرة تحول مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الموارد التقليدية إلى الموارد التكنولوجية. فالدولة التي تملك القدرة على التحكم في هذه العناصر تمتلك مفتاح التقدم الصناعي المستقبلي. ومع استمرار التحول نحو الطاقة النظيفة والتقنيات المتقدمة، سيزداد دور هذه المعادن في صياغة التوازنات الاقتصادية والجيوسياسية على مستوى العالم.

لقد كان النفط في القرن الماضي رمزًا للهيمنة الاقتصادية، أما في هذا القرن، فقد تكون المعادن الأرضية النادرة هي النفط الجديد الذي يرسم ملامح النفوذ العالمي المقبل.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  لماذا بايدن جيد لإسرائيل أكثر من ترامب؟
فوّاز يوسف غانم

كاتب أردني متخصص في الاقتصاد السياسي والاجتماعي

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  بدء العد العكسي لإنتهاء حرب اليمن