بين الصهيونية والإسلام السياسي.. هل ضاعت العلمنة؟

شهد العالم في السنوات الأخيرة تصاعدًا في الاستقطاب بين تيارين متقابلين: الصهيونية والإسلام السياسي. ومع بروز هذين التيارين على الساحة الدولية والإقليمية، تبدو العلمانية - التي مثّلت يومًا ركيزة سياسية وفكرية في دول كثيرة - وكأنها في حالة تراجع ملحوظ.

الصهيونية، وبرغم أنها تُقدَّم غالبًا كحركة قومية يهودية، تملك تاريخًا استعماريًا وعنصريًا واضحًا، وقد تسببت منذ نشأتها في مآسٍ كبيرة لشعوب عديدة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، فإن الصهيونية اليوم تتوسع فكريًا خارج إطارها اليهودي التقليدي، لتجد لها أنصارًا في التيارات اليمينية الأوروبية، وفي بعض دوائر المحافظين والإنجيليين في الولايات المتحدة، وكذلك بين قوميي الهند ومؤيدي رئيس الوزراء ناريندرا مودي، وفي بعض الأوساط العربية – أحيانًا بشكل غير معلن – التي ترى في إسرائيل نموذجًا للقوة والنجاح الاقتصادي والتفوق التكنولوجي!
هذا التوسع لا يقوم على فهم دقيق للتجربة الإسرائيلية، بل على ربط تبسيطي بين “التقدم” و”الغرب” و”الصهيونية”، متجاهلًا أن قيام إسرائيل اعتمد أساسًا على القوة الاستعمارية وتفوق جماعة عرقية/دينية على غيرها، وهو ما يذكر كثيرًا بالنماذج العنصرية التي عرفها القرن العشرون.

البديل المطلوب هو علمنة حقيقية: لا تعادي الدين، ولا ترتبط حصريًا بقضايا الجندر والمثلية، ولا تهادن الصهيونية، بل تقدّم نموذجًا إنسانيًا عقلانيًا للدولة الحديثة

والصهيونية هنا لا تعني بالضرورة الديانة اليهودية حصراً. فقد رأينا مؤخرًا، بالتزامن مع حرب غزة، كيف أن عشرات الآلاف من اليهود في العالم باتوا معارضين لسياسات إسرائيل، وبعضهم أصبح معارضًا للصهيونية كفكرة، ولمبدأ قيام دولة إسرائيل، ويدعو إلى تفكيكها.. ولنا في فوز رئيس بلدية نيويورك زهران ممداني خير مثال عندما صوّت له نحو 33% من يهود هذه المدنية الأميركية التي تستضيف أكبر جالية يهودية في العالم من بعد إسرائيل.

في المقابل، تتعاظم قوة تيارات الإسلام السياسي، عربيًا ودوليًا، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. فبعد عقود من القمع والملاحقة، نجحت هذه التيارات في بناء لوبي سياسي وإعلامي مؤثر في أوروبا والولايات المتحدة، مدعومًا بشبكات مهاجرين ومساجد ومؤسسات مجتمع مدني. ويجد الكثير من أبناء الجيلين الثاني والثالث من المسلمين في الغرب في الإسلام السياسي هوية جامعة تمنحهم إحساسًا بالانتماء، خصوصًا في ظل تنامي الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر.
كما ساهمت أحداث إقليمية – مثل الربيع العربي؛ صعود حماس ودورها العسكري في الساحة الفلسطينية؛ الحرب السورية، وتراجع الأنظمة العلمانية في المنطقة – في تعزيز جاذبية خطاب الإسلام السياسي الذي يرى فيه الكثيرون مشروعًا بديلًا بعد إخفاق نماذج الدولة الوطنية العسكرية أو الفاسدة.

بهذا المعنى، يبدو أن الصهيونية والإسلام السياسي تحولا إلى قطبين يحتلان حيزًا وازنًا في الواقعين الإقليمي والدولي، وثمة تجاذب بينهما تضيق معه مساحة العلمنة التي انتعشت في القرن العشرين مع صعود الدولة الحديثة.

في الدول العربية، نرى هذا التراجع جليًا. ففي لبنان، يتزايد الحضور الديني والمذهبي بكل مسمياته في السياسة والشارع والأكل والشرب والتعليم والإعلام، وتتعاظم الانقسامات المذهبية داخل الأديان نفسها. وفي سوريا، يتقدم دور الإسلام السياسي في قيادة تجربة “سوريا الجديدة”، فيما تبتعد الأحزاب الكردية في المنطقة – برغم علمانيتها التقليدية – عن خطاب العلمنة لمصلحة الخطاب القومي. أما في العراق واليمن، فتصعد القوى الدينية من شيعية وسنّية على السواء، من المرجعيات الدينية في النجف ورموز العشائر في الأنبار وغيرها من المحافظات إلى الحوثيين وحزب الإصلاح. وفي مصر وتونس، وبرغم تراجع حركة “الإخوان المسلمين” رسميًا، يبقى الإسلام السياسي مكوّنًا حاضرًا في الوعي العام. كذلك في تركيا، شكّل صعود رجب طيب أردوغان وتحولاته بعد انقلاب 2016 ضربة كبيرة لإرث العلمانية الأتاتوركية. وفي إيران، كرست الثورة الإسلامية نموذجًا جديدًا من الإسلام السياسي الذي بات يملك نفوذًا فكريًا عابرًا للحدود.

لكن جزءًا مهمًا من مسؤولية تراجع العلمانية يعود إلى التيارات العلمانية نفسها. فهذه التيارات بقيت في الغالب أسيرة النموذج الغربي للعلمنة، ولم تقدّم تفسيرًا محليًا مقنعًا يراعي خصوصية المجتمعات العربية والإسلامية المحافظة في المنطقة. بل ارتبطت – في المخيلة الشعبية – بقضايا يعتبرها الجمهور مستفزة أو غير ملائمة، مثل المثلية والجندر وبعض البرامج التربوية الوافدة من الغرب، وغالبًا بفعل تمويل خارجي فرض أولوياته.
وبدل التركيز على جوهر العلمنة: دولة القانون، المواطنة، المؤسسات المدنية، المساواة بين المواطنين، فصل الدين عن السياسة والدولة، استقلالية القضاء، انشغل جزء من العلمانيين بمواضيع هامشية جعلت الناس تنفر من العلمنة وتحمّلها مسؤولية “تفكيك المجتمع” أو “إضعاف الدين”.

العلمنة لم تختفِ، لكنها تراجعت في ظل ضجيج الاستقطاب الدولي. وإعادة إحيائها تتطلب خطابًا جديدًا وجرأة في إعادة التفكير، بعيدًا عن الشعارات الغربية الجاهزة وعن التحالفات السياسية المؤذية، سواء الصهيونية أو الإسلاموية

اليوم، ومع عودة “صراع الحضارات” إلى الواجهة، وظهور ثنائية عالمية قوامها الصهيونية من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى، تبدو العلمنة في موقع دفاعي. لكن الأمر لا يعني نهايتها، بل يفرض إعادة صياغتها على أسس أكثر وطنية وأخلاقية وقانونية تراعي الواقع المحلي. كما تحتاج العلمنة إلى إعادة إحياء في أوروبا، خصوصًا في فرنسا والولايات المتحدة، حيث يتزايد النفوذ السياسي للتيارات الدينية، وتترسخ تحالفات بين الصهيونية وبين قطاعات دينية محافظة داخل الكنائس الإنجيلية.

إقرأ على موقع 180  الدولة ليست "هُم" في مواجهة.. "نحنُ"!

والبديل المطلوب هو علمنة حقيقية: لا تعادي الدين، ولا ترتبط حصريًا بقضايا الجندر والمثلية، ولا تهادن الصهيونية، بل تقدّم نموذجًا إنسانيًا عقلانيًا للدولة الحديثة.
المطلوب علمنة قادرة على مخاطبة الأجيال الجديدة – خصوصًا المسلمة منها في الغرب – وتقديم خيار ثالث بينها وبين الإسلام السياسي، بما يساعد على اندماجها الطبيعي في المجتمعات التي تعيش فيها. وهذا مهم جدًا في ظل التوقعات بأن يصبح الإسلام الديانة الأكبر عالميًا خلال نصف قرن ولا سيما في أوروبا حيث تنتشر جاليات عربية وإسلامية بات معظمها يدين بالولاء لحركات إسلامية.

في المحصلة، العلمنة لم تختفِ، لكنها تراجعت في ظل ضجيج الاستقطاب الدولي. وإعادة إحيائها تتطلب خطابًا جديدًا وجرأة في إعادة التفكير، بعيدًا عن الشعارات الغربية الجاهزة وعن التحالفات السياسية المؤذية، سواء الصهيونية أو الإسلاموية.

Print Friendly, PDF & Email
بلال الخوري

كاتب سياسي، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  خطر المفاهيم العنصرية للهوية اليهودية في العقيدة الصهيونية (1)