زمن التحولات الكبرى.. القلعة الأميركية ـ الأوروبية تتصدع (2)

في الجزء الأول من هذه المقالة، تم التأكيد على أهمية إطلاق ورشة فكرية واسعة تتناول مفاهيم جديدة لمقاربة السياسة والاقتصاد والبيئة والعلاقات الدولية، وذلك في سياقات انكفاء "عالم قديم" وانبلاج "عالم جديد"، وفي الجزء الثاني، نتطرق إلى مسار تراجع الهيمنة الغربية مقابل صعود قوى إقليمية ودولية جديدة.

لقد عرف النظام الدولي في العقود الأخيرة تطورات كبرى وأساسية تحمل في طياتها تفسيراً جزئياً لما لحق بالنظام العربي من أزمات جمعت بين الاضطراب والتأزم والتوتر والانفصال؛ وربّما سياسات العولمة الاقتصادية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي تسببت بإضعاف هيبة الدولة على النطاق الكوني، وشجعت الهُويات الإثنية والعرقية والدينية، ليست بعيدة عن انفصال جنوب السودان على سبيل المثال، ودفع الاتجاهات الانفصالية للحركة القومية الكردية إلى مقدّم الأجندة الدولية، وإن كانت المسؤولية الرئيسية عن هذه الظاهرة تعود إلى فشل السياسة الرسمية العربية في التعامل مع مسألة الأقليات القومية أو الإثنية، مع اعتقادنا بوجوب التأكيد على أهمية الالتزام بالقانون الدولي الذي يحفظ حقوق الأقليات ومنها الحكم الذاتي.

كان لافتاً للإنتباه أن العولمة المتوحشة تلازمت مع نشر فكرة “نهاية الأيديولوجيا” محرّكاً للعمل السياسي، وبالتالي صارت الهُوية العربية للنظام تحتل درجة ثانوية في اهتمامات بعض النخب العربية الحاكمة أو النافذة التي وقعت تحت إغراء السياسات النيوليبرالية، أو حاولت أن تجد مصلحة لها في شرق أوسط يُراد له أن يتّسع للعرب وإسرائيل في آنٍ معاً.

جدلية الصعود والهبوط

من التحوّلات الرئيسية في آليات عمل النظام الدولي، أن انهيار الاتحاد السوفياتي وبالتالي اختلال ميزان القوى لمصلحة الهيمنة الإمبريالية الأميركية، يُفسح المجال للغزو الأميركي للعراق، قبل عشرين سنة، من دون أي مبرّر شرعي أو قانوني سوى الزعم بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وذلك للعمل على تفكيك مكون أساسي وفاعل في النظام العربي وتمهيد الطريق لاحتلال هذا البلد، وسط تواطؤ دول عربية وازنة ساندت الخطوة الأميركية التي ستؤدي إلى ولادة الدويلة الكردية في شمال العراق، واختراق إيران لنسيج العلاقات العربية ـ العربية.

ظهرت مؤشرات على ميزان قوى متغيّر عالميّاً، جراء تصدّع قلعة الهيمنة الأميركية ـ الأوروبية أمام تقدّم أدوار روسيا والصين والهند وإيران وتركيا والسعودية وجنوب أفريقيا والبرازيل

ومن التحوّلات هذه أيضاً، وإن بفارق زمني يُحسب له حساب، أنّ دولة مثل الصين كانت تُعتبر من دول الصف الثاني عالمياً أو من القوى الناشئة، تصعد إلى موقع متقدم على قمة الهرم الدولي؛ وأنّ القطب الأميركي الذي كان مُهيمناً هيمنة كاملة خلال فترة محدودة، يحاول بلا جدوى أن لا يترك للقوة الصاعدة سوى تلك الفسحة التي قد تعوّض تراجع مكانته وتراجع فاعليّته، أو يحاول تأخير هذا المسار الحتميّ للصعود.

لكن ما يهمنا في جدلية الصعود والهبوط هذه بين أميركا والصين، أنها قد تُوفّر تفسيراً استراتيجياً لاتجاه الولايات المتحدة تحويل المحور المركزي لسياستها الخارجية من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا/الباسيفيك، وذلك في وجه التهديد المتصوّر للعملاق الصيني الخارج من القمقم، علماً بأنّ هناك اتجاهاً داخل المؤسسة الحاكمة الأميركية يدافع عن فكرة أن روسيا هي التي تمثّل “العدو الرئيسي” وليس الصين؛ كما يمكن أن تفسّر عملية فك الارتباط التدريجية للولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط.

ولا يغيّر في دينامية هذا الاتجاه، أن تلجأ الإدارة الأميركية إلى تدابير تكتيكيّة في شرق سوريا سعياً لإقامة جدار عازل عن الحدود العراقية بهدف احتواء تمدّد النفوذ الإيراني؛ بل أميل إلى الاعتقاد أن دفع المواجهة مع إيران إلى مستوى غير مسبوق، لا يعود إلى ما تمثله من تهديد للمصالح الأميركية فحسب، بل أيضاً إلى عملية الترابط الوثيق بين بكين وطهران في مجال التسلح وتطوير صناعة النفط.

لكن عملية فك الارتباط هذه وما تُثير من هواجس لدى حلفاء أميركا في المنطقة، لا تعني التخلي عن المصالح الأميركية الاستراتيجية، في الشرق الأوسط وفي مقدمها التزام أمن إسرائيل وحمايتها وتأمين تفوقها الاستراتيجي، وصولاً إلى الانحياز الكامل ـ وفق النسخة الترامبية ـ إلى جانب السياسات والخيارات الإسرائيلية في شأن القدس والاحتلال والاستيطان، علاوة عن التهديد بإعادة النظر في التسوية النووية مع إيران، وهو الأمر الذي يوضح بعض الشيء لعبة التوازن الأميركية في النزاع السعودي القطري وانتعاش نزعة التدخل المباشر في الشؤون الإقليمية، بين حين وآخر، كما هي حال المساهمة المحدودة في الحرب ضد “داعش”، وبعدها عملية الجدار العازل عن الحدود العراقية في شرق سوريا بواسطة وحدات كردية حليفة بذريعة احتواء “الخطر الإيراني”.

“مبدأ أوباما”

خلال العقد الأخير أخذت الزعامة الأميركية للعالم الغربي تتراجع لأسباب داخلية وخارجية في آن واحد، وقد جسّدت إدارة باراك أوباما ظاهرة التراجع وفقدان السيطرة على المنظومة الغربية بحيث وُصفت السياسات المتّبعة من هذه الإدارة بالضعيفة والمتردّدة، بل الفاشلة. مثلما يرى الباحث جيلبير الأشقر الذي يُسجّل أن “مبدأ أوباما” الذي يستند إلى صيغة القيادة من الخلف (Leading from behind) إنما يعود إلى الانتكاسات الأميركية في المنطقة، فضلاً عن تراجع التفوق الأميركي عالمياً. واعتبرت هذه السياسات في ترجمتها العربية ومنها التخلي عن حماية معسكر الاعتدال العربي (مصر وتونس والسعودية) عاملاً مؤثراً في انتكاسات إدارة جورج بوش الإبن في العراق وأفغانستان وتداعيات السياسة الإسرائيلية في حربي لبنان (2006) وغزة (2008)، والأزمة المالية العالمية التي هزّت العولمة.

إقرأ على موقع 180  هيل يُلزم لبنان بمعادلة هوف الحدودية.. والمرسوم "إلى الجارور"!

في المقابل، ظهرت مؤشرات على ميزان قوى متغيّر عالميّاً، جراء تصدّع قلعة الهيمنة الأميركية – الأوروبية أمام تقدّم أدوار روسيا والصين والهند وإيران وتركيا والسعودية وجنوب أفريقيا والبرازيل. وكشفت حملة الانتخابات الرئاسية بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، ثم سردية ترامب ومعاونيه، عوارض التحلل الذي ضرب بنية الدولة والمؤسسة الحاكمة في واشنطن.

الدور الذي لعبته روسيا في الأزمة المُفضية إلى الحرب في أوكرانيا وإعادة ضم شبه جزيرة القرم وحوض الدونباس إلى المجال الجيوسياسي الروسي، ثمّ دورها الغالب في الأزمة السورية، فضلاً عن شبكة تحالفاتها مع الصين وتركيا وإيران من جهة، وعلاقتها المستجدة بالسعودية ومصر والعراق وإسرائيل، وحتى علاقتها المعقدة بالولايات المتحدة في سوريا من جهة ثانية، يُظهر أن روسيا كانت الدولة الكبرى التي عرفت كيف تُقارب الظروف والشروط التي تمليها موازين القوى العالمية والإقليمية، وتالياً اعتمدت استراتيجية متناسقة نسبيّاً. ولذلك يمكن القول إن روسيا باتت تحتل موقعاً في التوازنات الدولية الجديدة، غير المستقرة، يمنحها نوعاً من التفوق التكتيكي الذي لا يخفي في أي حال نقاط ضعف بنيويّة إقتصاديّاً وإستراتيجيّاً.

حرب وجودية

الفكرة التي كانت سائدة لدى نشوب حرب أوكرانيا (2022) أن أوكرانيا سوف تُسحق عسكرياً بينما تنسحق روسيا اقتصاديّاً، وجاءت تطورات الحرب لتبيّن أن أوكرانيا لم تنسحق عسكريّاً ولو خسرت قطاعاً من أراضيها، في حين تماسكت روسيا اقتصاديّاً بدليل ارتفاع قيمة الروبل إزاء الدولار واليورو. أما الخطأ الذي ارتكبه خبراء الكرملين فهو الاعتقاد أن المجتمع الأوكراني الذي يواجه حالة تحلل ديموغرافي سوف ينهار على وقع الصدمة الأولى، لكن تبيّن خلافاً لذلك أن مجتمعاً في حالة تحلّل يمكن أن يجد نمطاً جديداً من التوازن عندما يتم رفده بموارد مالية وعسكرية خارجية وتحديداً أطلسية. وليس سرًّا أن روسيا تخوض حرباً دفاعية واستباقية لكون أوكرانيا صارت عملياً عضواً في حلف الأطلسي منذ 2014، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يكون مقبولاً من روسيا لاعتبارات تتعلق بأمنها الاقليمي شرق أوروبا.

حصيلة التوازنات الدولية في سياق أزمة انتقالية تشهد تراجعاً للهيمنة الغربية، لا يمكن بموجب النظرية السيستامية إلا أن تلقي بثقلها على المنطقة العربية ـ الإسلامية، التي عرفت منذ 2010 – 2011 ثورة إقليمية شاملة ظلت بعيدة عن توقعات مراكز الأبحاث والاستخبارات الغربية

أكثر من ذلك، تُعتبر الحرب الأوكرانية بالنسبة إلى روسيا بمثابة مسألة وجودية، وهي كذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لأن مجرد صمود الاقتصاد الروسي يُهدّد استمرار النظام الامبريالي الأميركي. ذلك أن احتمال تجاوز الاقتصاد الروسي عقبة العقوبات بفضل الصين، في الوقت الذي تبدو الاقتصادات الأوروبية مُنهكة تحت وطأة التضخم والاختناقات، يعني أن سيطرة النظم النقدية والمالية الأميركية قد تنهار ومعها القدرة الأميركية المجانية على تمويل العجز الهائل في الميزان التجاري.

وعلى هذا النحو يكون النزاع قد انتقل من حرب اقليمية محدودة إلى مواجهة اقتصادية شاملة بين الغرب مجتمعاً من جهة، وروسيا المتّكئة على الصين من جهة أخرى.

مرحلة إنتقالية

ثمّة تساؤلات متزايدة حول حالة التخبّط التي تعانيها السياسة الأميركية، مثلما أظهرت توجهات إدارة جو بايدن في مناسبة قمّة جدة (تموز/يوليو/2022)، واستعادة مفهوم “القيادة من الخلف” عبر الحلفاء الأوروبيين، لرفع التحدي الروسي على مسرح المواجهة في أوكرانيا. وهذه الحالة التي سبق لها أن أصابت سياسة إدارة بوش الابن عندما ربطت بين العراق والإرهاب واعتبرتهما أولوية إستراتيجية، إنما تترك المجال مفتوحاً لاستعادة روسيا دورها كقوة عالمية كبرى، مثلما تخدم الصين لكي تصبح الدولة الكبرى الثانية عالمياً بفضل طاقتها الاقتصادية الهائلة، وتمسكها بحرّية التجارة والعولمة المفتوحة، ناهيك عن إستعدادها للعب أدوار سياسية في مسارح لم يكن معهوداً لها أن تتحرك فيها مثل الشرق الأوسط (الإتفاق السعودي ـ الإيراني) والمسرح الأوروبي (المبادرة الصينية لحل الأزمة الأوكرانية).

ولا نقع في المغالاة إذا قلنا إن حصيلة التوازنات الدولية في سياق أزمة انتقالية تشهد تراجعاً للهيمنة الغربية، لا يمكن بموجب النظرية السيستامية إلا أن تلقي بثقلها على المنطقة العربية ـ الإسلامية، التي عرفت منذ 2010 – 2011 ثورة إقليمية شاملة ظلت بعيدة عن توقعات مراكز الأبحاث والاستخبارات الغربية؛ وأسفرت هذه الثورة عن متغيرات وانقلابات وحروب في عدد من الدول مثل مصر وتونس واليمن والعراق وسوريا؛ ثم طغت على التقلبات السريعة وغير المسبوقة في موازين القوى ظاهرة الثورة المضادة الزاحفة وسط الفوضى وفقدان السلطة المركزية على وحدة أراضي الدولة ومقومات بقائها في بعض البلدان العربية نتيجة تضافر انفجار التناقضات الداخلية مع تصاعد التدخل الخارجي.

(*) الجزء الأول: زمن التحولات الكبرى.. إستقطابات ما بعد الحرب الأوكرانية

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ما بعد (كوفيد-19).. ركود إقتصادي ومجاعة