“الحرب بيننا يا حياة”.. تغريبة العاملي عباس جعفر الحسيني

تُمثّل رواية "الحرب بيننا يا حياة" لعبّاس جعفر الحسينيّ، وثيقةً سرديّةً تتجاوز حدود الحكي الفنّيّ لتتحوّل إلى أرشيفٍ حيٍّ للذّاكرة الجماعيّة اللّبنانيّة. لا تُقْرَأُ الرّواية بوصفها نصّاً أدبيّاً فحسب، بل بوصفها نصّاً ينصت إلى المجتمع وهو يتكلّم عبر شخوصه، أزمنته، وأمكنته؛ شهادةً على ضياع جيلٍ، وتسجيلاً لتحوّلاتٍ بنيويّةٍ عميقةٍ أصابت النّسيج الاجتماعيّ عبر حقبتين متداخلتين: بدايات الحرب الأهليّة اللّبنانيّة حتى اجتياح العام 1982، وحصار العراق عام 2000.

في هذا التّقاطع الزّمنيّ، يرسم الحسينيّ تغريبةً عائليّةً – اجتماعيّةً يمكن أنْ تُسَمَّى عن حقٍّ “تغريبة الحسينيّ” أو “تغريبة العامليّ”، تتكثّف فيها طقوس النّزوح والفقدان، وممارسات البقاء تحت وطأة الخراب؛ فيغدو السّرد نفسه أداةً لقراءة المجتمع، لا مجرّد مرآةٍ تعكسه.

أنثروبولوجيا العائلة والنّزوح 

يتّخذ البحث عن الأمّ في الرّواية موقع القلب من هذا الجسد المتشظّي؛ فالبطل يلهث في رحلة بحثٍ عن أمٍّ حالت الحرب وآثارها بينه وبينها. لكنّ هذا البحث يتجاوز مستوى الشّخص ليطال الرّحم الأوّل، المنبع الثّقافيّ والهويّاتيّ الذي تمزّق تحت عنفٍ منظّمٍ. الأمّ هنا ليست فرداً في شجرة العائلة بقدر ما هي صورةٌ مكثّفةٌ للوطن، للأرض، للّغة الأولى، للذّاكرة الجماعيّة التي تشظّت تحت وطأة النّيران.

بهذا المعنى، تتحوّل الحكاية العائليّة إلى تغريبةٍ جماعيةٍ، العائلة وحدةٌ صغرى للجماعة اللّبنانيّة، وانفصال الابن عن الأمّ يعيد إنتاج انفصال الأفراد عن الجماعة، والمناطق عن بعضها، والذّاكرة عن نفسها. النّزوح في الرّواية لا يبدو انتقالاً جغرافيّاً من بيتٍ إلى آخرٍ، بل فكّاً متدرّجاً للبنى الاجتماعيّة التّقليديّة، من الشّياح وعين الرّمانة إلى النّبطيّة والمريجة، وصولاً إلى بيروت الغارقة في أهوالها، تتشكّل خريطة تماسٍ لا ترسم حدود الحرب فقط، بل ترسم حدود الممكن اجتماعيّاً وثقافيّاً.

الأمكنة هنا ليست أسماءً على خريطةٍ؛ كلّ حيٍّ فضاءٌ لذاكرةٍ وطقوسٍ يوميّةٍ وعلاقات قرابةٍ وجوارٍ. ومع كلّ موجة نزوحٍ، تُقَوَّضُ هذه العوالم الصّغيرة، فيتعرّى الجسد الاجتماعيّ من طبقةٍ أخرى من طبقاته الواقية.

عين الطّفل.. الإثنوغرافيا البريئة للخراب 

تختار الرواية أنْ تمرّ بأحداثها عبر عَيْنَيْ طفلٍ لم يختر موقعه على خطوط التّماس، لكنّه وجد نفسه شاهداً عالقاً في قلب النار. هذه النّظرة الطّفوليّة تشكّل نوعاً من “إثنوغرافيا بريئةٍ”: راصدٌ صغيرٌ يسجّل ما يراه دون أنْ تثقل رؤيته شعارات الكبار أو أيديولوجيّاتهم. ما يلتقطه الطّفل من تفاصيلٍ صغيرةٍ ـ صوت الانفجار الأوّل، رائحة الغبار بعد سقوط بيتٍ، فراغ الكرسيّ الذي كان يجلس عليه الأخ الأكبرـ يتحوّل مع الزمن إلى ذاكرةٍ داميةٍ، تحفظ ما يفلت عادةً من السّجلات الرّسميّة.

الطفل ليس ضحيّةً سلبيّةً؛ إنّه أشبه بباحثٍ ميدانيٍّ فطريٍّ، يتابع تحوّلات البنية الاجتماعيّة من موقع الجسد الصّغير المعرّض للخطر، البيوت التي تهدم، الوجوه التي تغيب، الشقيق البكر الذي تخطفه الحرب ويترك جرحاً لا يندمل. عبر هذا الرّصيد من المشاهد، تتكوّن أمامنا مادةٌ كثيفةٌ عن طقوس الفقدان، الحداد الجماعيّ، وآليات التّكيّف النّفسيّ والاجتماعيّ مع موتٍ يتحوّل إلى جزءٍ من المفردات اليوميّة.

الزّمن المتداخل.. ستراتيغرافيا الذّاكرة 

يبني الحسينيّ روايته بأسلوبٍ سرديٍّ سينمائيٍّ؛ الكاميرا السّردية تتنقل بين الأمكنة والأزمنة في حركة تقطيعٍ ومونتاجٍ، فتتشابك بدايات الحرب الأهليّة اللّبنانية مع زمن حصار العراق عام 2000. هذا التّداخل لا يخدم التّشويق فحسب، بل يحاكي طبيعة الذّاكرة الجماعيّة نفسها، ذاكرةٌ لا تتحرّك في خطٍ مستقيمٍ، بل تُرسّب طبقاتٍ زمنيّةٍ فوق بعضها، كما في طبقات الجيولوجيا.

كلّ طبقةٍ زمنيّةٍ في النّص تحمل رواسب حربٍ أو نزوحٍ أو خسارةٍ؛ ومع عودة السّارد من زمنٍ إلى آخرٍ يتكشّف لنا أنّ العنف ليس حادثةً منفصلةً، بل بنيةً متواصلةً تعيد إنتاج نفسها بأقنعةٍ مختلفة وفي جغرافيّاتٍ متباينةٍ. الأسلوب السّينمائيّ، بما فيه من تقطيعٍ، وزوايا نظرٍ، ولقطاتٍ قريبةٍ وبعيدةٍ، يمنح الرّواية بعداً بصريّاً يجعل القارئ “يرى” الحرب لا يقرأ عنها فقط. وهكذا يقترب النّصّ من شكلٍ من أشكال الأنثروبولوجيا البصريّة، حيث تتحوّل الصورة المتخيّلة إلى أداةٍ لفهم الأجساد في حركتها، والبيوت وهي تنهار، والوجوه وهي تتبدّل تحت ضغط الخسارات.

طقوس الخذلان والوفاء

تقدّم الرّواية “رحلةً مريرةً مع النّزوح والخذلان”، لكنّ هذه الرحلة لا تُروى في المجرّد؛ بل تتجسّد في تفاصيل الثّقافة المادّيّة للحرب. البيت المهدّم ليس إطاراً للحدث، بل كيانٌ اجتماعيٌّ منكوبٌ، جدرانٌ تحمل آثار صورٍ أُزيلت على عجلٍ، أثاثٌ مقلوبٌ، أبوابٌ خلعت من أماكنها. هذه الأشياء المهملة تشهد على تفكّك البنية الأسريّة والاجتماعيّة، مثلها مثل الوجوه الغائبة التي تترك ثقوباً في ذاكرة المكان.

الشقيق المخطوف يغدو علامةً على جيلٍ ضائعٍ؛ شابٌّ ممحوٌّ، لا يُعرف له قبرٌ ولا سيرةٌ مكتملةٌ. في المقابل، تتشكّل في الرّواية طقوسٌ خفيّةٌ للوفاء، ذِكْرً أسماء الغائبين، التّمسّك بحكاياتهم، إعادة سرد المشاهد نفسها كأنّها تعويذةٌ ضدّ النّسيان. وسط تنوّع الموضوعات والمشاهد، تبقى خيطيّة الوفاء مشدودةً؛ وفاءٌ يشكّل مقاومةً ثقافيّةً بقدر ما هو عاطفيٌّ، لأنّه يحول دون أنْ تبتلع الرّوايات الرّسمية أصوات الأفراد وتجاربهم الخاصّة.

السّرد كممارسةٍ ثقافيّةٍ 

اللّغة في “الحرب بيننا يا حياة” ليست قناةً حياديّةً لنقل الأحداث؛ إنّها فضاءٌ تُعَادُ فيه صياغة الهويّة وتُخْتَبَرُ فيه حدود الذّاكرة. الحسينيّ يكتب بلغةٍ تمزج بين الشّعريّة والتّوثيق، بين الاعتراف الشخصيّ والملاحظة الاجتماعيّة؛ فيخرج نصٌّ هجينٌ يعكس بدوره هجينيّة المجتمع اللّبنانيّ، المعلّق بين أزمنةٍ متداخلةٍ وأمكنةٍ متجاورةٍ ورواياتٍ متعارضةٍ.

إقرأ على موقع 180  "المنازلة الكبرى".. ممر إلزامي للشرق الأوسط الجديد؟

السّرد السّينمائيّ هنا يتحوّل إلى نوعٍ من “أداءٍ سرديٍّ”: لا يُحْكَى النّص ببرودة المؤرّخ، بل يُعْرّضُ ويُشَاهَدُ ويُعَاشُ. القارئ لا يبقى متلقيّاً خارجيّاً، بل يصبح شاهداً يُسْتَدْعَى إلى قلب المشهد. بهذا الأداء، يتجلّى السّرد كممارسةٍ ثقافيّةٍ كاملةٍ، عبره تُنْطَقُ الهويّات، تُخْتَبَرُ القيم، وتُعَادُ صياغة المعنى الجماعيّ لما حدث ويحدث.

الحرب كحدثٍ أنثروبولوجيٍّ

الحرب في هذه الرّواية ليست خلفيّةً مكانيّةً أو زمنيّةً، بل قوةٌ شاملةٌ تعيد تشكيل كلّ مستويات الحياة. تفقد العائلة أمّها وأخاها الأكبر، فيختلّ توازنها الدّاخليّ؛ تتعرّض الأمكنة لسلسلةٍ من حركات النّزوح، فينتقل السّرد من حيٍّ إلى حيٍّ ومن مدينةٍ إلى أخرى؛ يتشظّى الزّمن بين ماضٍ حربٍ أهليّةٍ وحاضر حصار؛ وتتبدّل اللّغة نفسها لتستوعب الصّدمة وتعايشها.

هذا التّغلغل في كل البنى يحوّل الحرب من حدثٍ استثنائيٍّ إلى بنيةٍ دائمةٍ تسكن تفاصيل اليوميّ. الطّفل الذي يرى الخراب أولاً بعين الدّهشة، يعود لاحقاً ليتعامل مع مشاهد مماثلةٍ كجزءٍ من روتينه المعتاد؛ وهنا يبرز أخطر تحوّلٍ، تطبيع العنف. حين يفقد المجتمع قدرة الدّهشة والاستنكار، يصبح قابلاً لإعادة إنتاج الدّائرة نفسها، لأن ما كان مفارقاً ومروّعاً يتحول إلى “طبيعيٍّ”، إلى ما يُنْتَظَرُ ويُعْتَادُ.

أرشيف الشّهادات الحيّة 

تُعرّف الرواية نفسها بأنّها “شهادةٌ حيّةٌ على ضياع جيلٍ، وصوت طفلٍ ظلّ يسائل الخراب فينا جميعاً”. هذا التّعريف لا يصف وظيفة النّص فحسب، بل يكشف بنيته العميقة، الرّواية أرشيفٌ للشّهادات الحيّة، أرشيفٌ لا يقتصر على تسجيل الوقائع الكبرى، بل يصطاد الانفعالات والانكسارات الصّغيرة التي تشكّل جوهر التّجربة الإنسانيّة.

التّفاصيل التي يختزنها الطّفل ثم تستيقظ معه بعد سنواتٍ كـ”ذاكرةٍ داميةٍ” ـ نبرة صوتٍ، حركة يدٍ، رائحة مكانٍ ـ هي الكنز الأثمن في هذا الأرشيف، لأنّها تكشف الطّرق الخفيّة التي تتسلّل بها الحرب إلى غرف النّوم، موائد الطّعام، العلاقات بين الإخوة، وإلى الأحلام والكوابيس.

بهذا الحفظ الدؤوب للتّفاصيل، يمارس الكاتب عملاً مضادّاً للنّسيان المنظّم؛ فيواجه محاولات “غسل” التّاريخ من آثار العنف، ويرفض أنْ تتحوّل معاناة جيلٍ كاملٍ إلى هامشٍ في تقاريرٍ سياسيّةٍ أو سرديّاتٍ رسميّةٍ مصقولةٍ.

الرواية كأنثروبولوجيا تطبيقية 

تقدّم “الحرب بيننا يا حياة” نموذجاً نادراً لما يمكن أنْ يُسمّى بالأنثروبولوجيا الأدبيّة؛ فالنّصّ الرّوائيّ يتحوّل إلى مختبرٍ حيٍّ تُرَى من خلاله التّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة في مجتمعٍ أنهكته الحروب. عبر عين الطّفل الشّاهدة، والسّرد السّينمائيّ المتشظّي، والتنقّل بين الأزمنة والأمكنة، يبني الحسينيّ نصّاً يصلح لأن يُقْرَأَ كمرجعٍ لفهم أثر الحرب على البنى العميقة للعائلة والمكان واللّغة والذّاكرة.

الرّواية لا تكتفي بتسجيل الخراب المادّيّ؛ تغور في الخراب النّفسيّ والاجتماعيّ، في تفكك الرّوابط الأسريّة، في تشظّي الهويّة، وفي الآليات الصّغيرة للمقاومة والبقاء التي يبتدعها الأفراد والجماعات وهم يحاولون العيش تحت سقفٍ مهدّدٍ. من هنا يكتسب النّصّ بعداً تطبيقيّاً؛ فهو لا يصف فقط، بل يسعى إلى زحزحة وعي القارئ، ودفعه إلى تأمّل تجربة الحرب بما هي تجربة مجتمعه هو، لا تجربة آخرين بعيدين.

في النّهاية، تُبقي الرّواية أسئلتها معلّقةً، كيف يمكن لمجتمعٍ أنْ يتعافى من هذا الكمّ الهائل من الخسائر؟ كيف يُعَادُ ترميم نسيجٍ اجتماعيٍّ تمزّق إلى هذا الحدّ؟ وكيف تتحوّل الذّاكرة الجماعيّة من عبءٍ يثقل الحاضر إلى رافعةٍ لبناء مستقبلٍ أكثر عدلاً وسلاماً؟

هذه الأسئلة، التي يتركها النّصّ مفتوحةً أمام القرّاء والباحثين والمجتمع، هي ما يجعل “الحرب بيننا يا حياة” روايةً حيّةً تستمرّ في إنتاج المعنى والدّلالة، وتبقى قابلةً لقراءاتٍ جديدةٍ كلّما تبدّلت أجيال القرّاء وتغيرت خرائط الحروب والذّاكرات.

(*) رواية “الحرب بيننا يا حياة” للكاتب عباس جعفر الحسيني، 228 صفحة، صادرة في خريف العام 2025، عن “دار المصوّر العربيّ” في بيروت.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إسرائيل إلى أيام قتالية، تصعيد أم حرب مع لبنان؟