سوريا الجديدة.. العلويّون بين إرث الحرب والبعث وتحدّيات الدّولة الناشئة (2)

يُمثّل الشّمال الغربيّ السّوري، ولا سيما محافظتي اللّاذقيّة وطرطوس وأجزاء من ريفَيْ حمص وحماه، حالةً خاصةً في المشهد السّوري الجديد. هذه المنطقة التي تشكّل الكتلة السّكانيّة الأكبر للطّائفة العلويّة كانت تاريخيّاً قاعدةً أساسيّةً للنّظام السّابق، ودفعت كلفةً بشريّةً واجتماعية كبيرةً خلال الحرب السورية (2011-2024). ومع سقوط نظام بشّار الأسد وبروز حكومةٍ انتقاليّةٍ جديدةٍ في دمشق، تبلورت إشكاليّةٌ مركّبةٌ في علاقة الجماعات العلويّة بالدّولة السّورية الجديدة.

ارتبط حضور العلويّين في مؤسّسات الدّولة والأجهزة العسكريّة بصعود حزب البعث ثم حكم آل الأسد، حيث تركّزت مفاصل أمنيّةٌ وعسكريّةٌ حسّاسةٌ في أيدي شخصياتٍ تنتمي إلى هذه البيئة، إلى جانب نخبٍ من طوائف ومناطق أخرى. في المقابل، ظلّ الرّيف السّاحلي يعاني من اختلالٍ تنمويٍّ نسبيٍّ مقارنةً ببعض المدن الكبرى، مع اعتمادٍ واسعٍ على الانخراط في الجيش والأجهزة الأمنيّة كمصدر دخلٍ وفرص عمل. وخلال الحرب السورية، برز أبناء هذه المناطق في صفوف القوّات النّظاميّة والميليشيات الرّديفة، ما أدّى إلى خسائر بشريّةٍ مرتفعةٍ انعكست على البنية الاجتماعيّة للعائلات والقرى. وإذا كانت ظروف الحرب قد أدت إلى نزوح ملايين السوريين في بلدهم وخارجه، فإن الكتلة العلوية وجدت أبواب الخليج العربي والغرب مقفلة بوجهها وبالتالي حرمتها من تنويع مواردها، بعد أن شحّت الموارد السورية إبّان الحرب.

مقام الرياحي في بلدة الصفصافة بمحافظة طرطوس

في العام 2025، يتراءى لنا أن مناطق السّاحل خاضعةً شكليّاً لسلطة الحكومة الانتقاليّة في دمشق، لكنّها عمليّاً تشهد تداخلاً بين نفوذ الدّولة الجديدة وبقايا شبكاتٍ أمنيّةٍ–اقتصاديّةٍ تشكّلت خلال سنوات الصّراع لا بل قبلها. إذ ما تزال بعض التّشكيلات السلطوية السّابقة، أو ما تفرّع عنها من مجموعاتٍ نفوذ محلّيّة، حاضرةً بأشكالٍ مباشرةٍ وغير مباشرة، سواءً في أعمال الحراسة المحلّيّة أو في شبكات الاقتصاد غير الرّسميّ. يضاف إلى ذلك استمرار الوجود العسكريّ الرّوسي في قاعدتي حميميم وطرطوس، ما يمنح المنطقة خصوصيّةً إضافيّةً داخل المعادلة الوطنيّة العامّة. ولا يجب أن نُغفل أن الأحداث الدامية التي شهدها الساحل السوري تركت جرحًا نازفاً من جهة وأضعفت الثقة بين السلطة الجديدة وغالبية الناس الذين ينتمون إلى الطائفة العلوية من جهة ثانية.

وتتجسّد الإشكاليّة الأولى في علاقة العلويّين بالدّولة الجديدة في ملف الأمن والعدالة الانتقاليّة. فجزءٌ من أبناء هذه الجماعة يُعبّر عن قلقٍ من أن تتحوّل عمليّة محاكمة ومحاسبة المرحلة السّابقة إلى استهدافٍ جماعيٍّ بحكم الارتباط الرّمزي بينها وبين النّظام السابق.. ويتمثّل التّحدي أمام الدّولة الانتقاليّة هنا في كيفية رسم حدودٍ واضحةٍ بين المسؤوليّة الفرديّة والانتماء الطّائفيّ أو المناطقيّ، ووضع آلياتٍ قانونيّةٍ شفافةٍ تضمن العدالة دون خلق شعورٍ بالعقاب الجماعيّ أو الإقصاء.

وعلى المستوى السّياسي، تطرح مسألة التّمثيل والاندماج تحدّياتٍ إضافيّة. فتُصَوَّرُ مناطق السّاحل في بعض الخطابات السّياسيّة والإعلاميّة بوصفها “معقل النّظام السّابق”، ما يخلق أحياناً انطباعاً بأنْ انتقال السّلطة تمّ بعيداً عنها، أو على حسابها. في المقابل، تُطْرَحُ في النّقاشات الوطنيّة أسئلةٌ حول شكل النّظام السّياسيّ الجديد، وما إذا كان سيعتمد مركزيّةً مشدّدةً أم لامركزيّةً موسّعة. بعض الآراء في بيئاتٍ مختلفةٍ ترى في اللّامركزيّة ضمانةً لتمثيلٍ أوضح للمناطق، بينما تتحفّظ أطرافٌ أخرى خشية تحوّلها إلى قاعدةٍ لظهور كياناتٍ شبه منفصلة. في هذا السّياق، تنظر شرائح من أبناء السّاحل إلى أيّ صيغةٍ لامركزيّةٍ بوصفها احتمالاً أكثر واقعية لتأمين قدرٍ من الطّمأنينة السّياسية، في حين تعتبر بيئة الحكم الجديد مثل هذه الطّروحات ونتائجها مقدمة لتقسيم سوريا وتمزقها.

أمّا اقتصاديّاً–اجتماعيّاً، فيواجه الشّمال الغربيّ مجموعةً من التّحديات المتراكمة. فقد تضرّرت القطاعات التّقليديّة في السّاحل، مثل السّياحة والزّراعة والصّناعات الصّغيرة، بفعل الحرب والعقوبات وتراجع الاستثمارات. كما أنّ اعتماد عدد كبيرٍ من العائلات على رواتب العسكريّين وأجور الانخراط في اقتصاد الحرب خلق هشاشةً مع تحوّل البنية الأمنيّة وفقدان الظهير الاغترابي. ويضاف إلى ذلك ملف الجرحى والأسر التي فقدت معيلين في الحرب، ما يضع عبئاً إضافيّاً على مؤسّسات الدّولة الجديدة في ما يتعلق بالتّعويضات والخدمات والرّعاية الاجتماعيّة.

ويبرز أيضًا ملفّ عودة النّازحين واللّاجئين إلى مناطق مختلطةِ في ريف حمص وحماه واللّاذقية، وهو ملفٌّ يتداخل فيه البعد القانونيّ (الملكيّة والعقارات) مع البعد الاجتماعيّ (المخاوف المتبادلة والذّاكرة المرتبطة بسنوات العنف). ويمكن القول إن إدارة هذا الملفّ بشكلٍ متوازنٍ إحدى عناصر بناء الثّقة بين هذه المناطق وبقيّة البلاد، ومن شأن ذلك أن يُؤثّر في مسار العلاقة بين الجماعات العلويّة ومؤسّسات الدّولة الجديدة.

وفي ضوء هذه الإشكاليّات، تواجه الحكومة الانتقاليّة عدّة خياراتٍ عمليّة. فمن جهة، يتطلّب مسار إعادة بناء مؤسّسات الدولة تبنّي مقاربةٍ منظَّمةٍ للعدالة الانتقاليّة، تستند إلى مبدأ المسؤوليّة الفرديّة، وإلى إنشاء آليات تقصّي حقائق وجبر ضررٍ وتعويضٍ للضّحايا، بعيدًا عن التّعميم أو التّسييس الطّائفي. ومن جهةٍ ثانية، يبدو إصلاح القطاع الأمنيّ والعسكريّ عاملاً حاسمًا، عبر دمج العناصر من مختلف المناطق، بما فيها السّاحل، ضمن عقيدةٍ وطنيّةٍ جامعة، مع تفكيك الشّبكات التي تأسّست على الولاءات الضّيّقة أو المصالح الاقتصاديّة.

وعلى المستوى التّنمويّ، يمكن أنْ يسهم توجيه استثماراتٍ عامّةٍ وبخاصّة نحو الرّيف السّاحلي في تخفيف إرث اقتصاد الحرب، وتحفيز انتقال الشّباب من الانخراط الأمنيّ إلى أنشطةٍ إنتاجيّةٍ مدنيّة. وقد توفّر مشاريع في مجالات الزّراعة الحديثة، والصّناعات الغذائيّة، والخدمات اللّوجستيّة والمرافئ، بدائل واقعيّةً عن شبكات التّهريب والاقتصاد غير النّظامي التي ترسّخت خلال سنوات الصّراع.

إقرأ على موقع 180  إثنا عشر يوماً هزّت سوريا.. من "المايسترو"؟

وسياسيّاً، تعدّ مشاركة نخبٍ محلّيّةٍ من أبناء هذه المناطق في المؤسّسات الدّستوريّة والانتقاليّة عاملاً مساعداً على دمج هذه الجماعات في صياغة الخيارات الوطنيّة المشتركة، بدل حصر دورها في موقع المتلقّي لقراراتٍ مركزيّة. وهذا يتطلّب من الدّولة الجديدة الانفتاح على مختلف الفاعلين السّياسيّين والاجتماعيّين في السّاحل، وتشجيع أطر تمثيلٍ مدنيٍّ–حزبيٍّ تتجاوز الإرث الأمنيّ الذي طبع العقود السّابقة.

ولا يمكن إغفال دور الفاعلين الخارجيّين في هذا السّياق، خصوصًا روسيا، التي يحتفظ وجودها العسكريّ بأثرٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ على معادلة الثّقة بين سكّان السّاحل والدّولة المركزيّة. كما أنّ بعض القوى الإقليميّة والدّوليّة قد تميل إلى استثمار هواجس هذه الجماعات أو غيرها في مشاريع نفوذٍ خاصّةٍ بها، ما يزيد من أهمّيّة بلورة سياسةٍ وطنيّةٍ متماسكةٍ تُقَلِّصُ من قابليّة هذه البيئات لأن تكون ساحة تنافسٍ إضافيّة.

وفي المحصّلة، تتسّم علاقة الجماعات العلويّة في الشّمال الغربيّ بالدّولة السّورية الجديدة بدرجةٍ عاليةٍ من التّعقيد، نتيجة تداخل العامل التّاريخي مع معطيات الحرب والانتقال السّياسيّ. وستؤثّر كيفيّة إدارة ملفات الأمن والعدالة والتّمثيل والتّنمية في هذه المنطقة بشكلٍ مباشرٍ في شكل الدّولة السّورية المقبلة، وفي قدرتها على بناء عقدٍ اجتماعيِّ شاملٍ يُبْقي الانتماءات الفرعيّة ضمن إطارٍ وطنيٍّ مشترك، ويحدّ من احتمالات الانكفاء أو التّوتّرات المستمرّة في هذه الجغرافيا الحسّاسة.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الإنتظار اللبناني أسرع طريق للإنهيار.. والإنفجار