السلفيون الحركيون في لبنان.. حماية مصالح الجماعة وتجنب النظام (3)

يُستمدّ مصطلح السّلفية من لفظ «السَّلَف الصالح»، أي الجيل الأوّل من المسلمين (الصحابة والتابعين وتابعيهم)، الذين يُنظر إليهم بوصفهم النموذج الأسمى للفهم الصحيح للدين. في الأدبيات السلفية، يُقصَد بالسلفية «الرجوع إلى الكتاب والسنّة بفهم السلف الصالح»، أي تجريد المعتقد والعبادة والسلوك من كل ما يُعدّ «بدعة» أو «انحرافًا» طرأ عبر العصور. في الجزء السابق حددنا ثلاث مدارس سلفية: السلفية الجهادية، السلفية الدعوية، والسلفية الحركية. في هذا الجزء نتحدث عن الأخيرة.  

سعى السلفيون الحركيون في لبنان إلى الإفادة من النظام الطائفي التوافقي لخدمة مصالح السنّة، متخذين موقعًا وسطًا بين الدعوة السلفية التقليدية والدعوة الجهادية الرافضة. فاعتبروا النظام اللبناني نظامًا وضعيًا هشًا يعيد إنتاج الولاءات الطائفية، لكن غياب البديل العملي وضعف التنظيم السياسي دفعهم إلى اعتماد خطاب مزدوج لخّصوه بقولهم: “نحن لا نؤمن بالطائفية، لكننا نعيش في نظام طائفي وعلينا حماية جماعتنا”!

حكمت هذه النظرة الازدواجية علاقتهم بالبيئة اللبنانية، فجمعوا بين العمل الاجتماعي والخدماتي من جهة، والتنافس الفكري مع تيارات إسلامية أخرى من جهة ثانية، وصولًا إلى أزمة وجودية تعمّقت بعد عام 2005 (استشهاد رفيق الحريري) مع تغيّر الموازين السياسية وضعف المرجعية السنّية التقليدية. وعلى الأرض، أنشأوا مدارس ومعاهد شرعية وأطلقوا برامج دعم اجتماعي للفقراء والأيتام، ما منحهم حضورًا شعبيًا خصوصًا في المناطق المهمّشة. وقدّموا أنفسهم بديلًا للفساد الحزبي والطائفي، مع الاحتفاظ بخطاب دعوي واضح. وفي المقابل، دخلوا في منافسة دعوية مع “الإخوان المسلمين” الذين يتهمونهم بالميوعة العقائدية، بينما يضعهم “الإخوان” في خانة “الجمود”. كما توترت علاقتهم بالحركة الصوفية بسبب رفضهم لشعائرها وممارساتها.

في مرحلة ما بعد العام 2005، بدأ السلفيون يظهرون بالنسبة إلى بعض الأوساط السنّية كبديل محتمل للهوية الجماعية السنّية، فلم تعد السلفية مجرد خطاب وعظي، بل تحولت إلى مساحة تعبئة اجتماعية ودينية في مواجهة الشعور بتراجع الدور السنّي وصعود القوى الشيعية والمسيحية في الدولة (وفق منظور بعضهم). وينظر بعض السلفيين إلى النظام الطائفي باعتباره لا يحقق العدالة للسنّة بل يُنتج نفوذًا مذهبيًا لا يُمثل “الأمة” ولا يتسق مع منهج الشريعة. وهذا ما جعل خطاب هذا التيار الدعوي يتراوح بين النقد العلني والمبطّن من دون الدعوة لإسقاط الدولة أو مواجهتها عسكريًا.

وبرغم أنّ بعضهم يرى الدولة ضرورة لضمان الأمن ومنع الفوضى، إلا أن حضورهم في السياسة بقي محدودًا، فلم يشكلوا حزبًا وازنًا، وتجنّب عدد منهم المشاركة الانتخابية خشية الوقوع في “السياسة الملوّثة”، مع تسجيل حالات انخراط ظرفية ودعم انتخابي لقوى سنّية أخرى في محطات محددة كمرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، وذلك تعبيرًا عن امتعاض من ضعف التمثيل السنّي.

أنتج هذا الموقف حالة دائمة من التردد بين العمل الدعوي والحاجة إلى التأثير السياسي، ما دفع شريحة من الجيل الجديد إلى اعتماد مقاربة أكثر واقعية وانفتاحًا دون التخلّي عن المرجعية الشرعية. وهذا يعكس أنّ السلفية في لبنان ليست كتلة موحدة بل متعددة التيارات والخيارات، وغير منفصلة عن تحولات المشهد السنّي، تهميشًا أو بحثًا عن مرجعية جامعة. مع التذكير بأن الدعوة السلفية ولدت بوصفها حركة دينية تربوية، ثم مالت نحو التسييس والعسكرة في بعض مراحلها، قبل أن تتجه تدريجيًا إلى إعادة تأكيد الدور التربوي الدعوي.

وبرغم توسعها الدعوي والمؤسساتي، لا تمثل السلفية القوة السنّية الرئيسة، سياسيًا أو عسكريًا، ولا تمتلك تمثيلًا حزبيًا أو نيابيًا بحجم الأحزاب الكبرى. لكنها أصبحت فاعلًا ثقافيًا واجتماعيًا في بعض البيئات السنّية، وبخاصة في الشمال والبقاع، مع تنامي دورها في إنتاج أشكال من الاستقطاب الهوياتي. كما تعاني من تباينات داخلية حادة بين دعاة التربية والتعليم وأنصار العمل الجهادي أو السياسي المباشر، إضافة إلى الجدل حول التمويل والارتباطات الخارجية ولا سيما الخليجية.

ويقع التحدي الجوهري في كيفية التوفيق بين المحافظة على النقاء العقائدي والابتعاد عن الحزبية وبين التعامل مع واقع سياسي طائفي يفرض المشاركة بدرجات مختلفة. فالنظام الطائفي يمنح السلفيين مساحة تعبير داخل البيئة السنّية من دون منحهم موقع قيادة مستقلة، ما يجعلهم في موقع “الاعتراض الأخلاقي” الذي لا ينخرط بالكامل ولا ينسحب نهائيًا. وقد زادت الأزمة عمقًا مع تقلص الارتباط المرجعي بخطاب الخليج الذي كان عنصرًا تأسيسيًا في شرارة شرعيتهم الرمزية. ومع انتقال دول الخليج من التشدد العقدي إلى خطاب أكثر براغماتية وانفتاحًا، سقط جزء من السند المرجعي للسلفية اللبنانية، فوجدت نفسها أمام ضرورة إنتاج خطاب محلي ينسجم مع الدولة الوطنية بدل الاعتماد على الخارج.

في الفكر، أدى التحول الإقليمي إلى إضعاف مركزية “النَصُّ القطعي” بوصفه المرجع الوحيد، وبرزت لغة تتحدث عن المقاصد والمصلحة والتدرج، ما فتح المجال لتصورات إصلاحية لا ترى في الاجتهاد تهديدًا للثبات العقائدي. وفي البنية السياسية، تتحرك السلفية في فضاء محكوم بالمحاصصة الطائفية حيث تتحول الهويات الدينية إلى شرعية إدارية أكثر منها مشروعًا اجتماعيًا شاملًا. وهذا وضعها أمام مأزق، وجعلها تطرح على نفسها السؤال: هل تكون ضميرًا أخلاقيًا للطائفة أم حزبًا دينيًا محدود التأثير؟

وفي ظل تراجع الدعم الخارجي وتبدل مزاج الشارع السنّي بعد أفول “الحريرية السياسية”، تبدو السلفية الدعوية صاحبة قدرة كامنة على إعادة التموضع، إذا ما تحولت من الاحتجاج المبدئي إلى تقديم حلول واقعية تتصل بالفقر والبطالة والحرمان المناطقي، وطورت مفهوم “المسؤولية الأخلاقية المدنية” بدل الاكتفاء بالنقاء الشعاراتي. وعندها يمكن أنْ تتحول إلى عنصر اطمئنان داخل الطائفة، وشريك طبيعي مع بقية المكونات، بدل أنْ تبقى مرآة للقلق والمخاوف.

إقرأ على موقع 180   عبقرية الجغرافيا اللبنانية.. كارثية السياسة اللبنانية!

وبذلك، يظل المستقبل مفتوحًا بين خيارين: الانكماش داخل العمل الخيري بفعل الضغوط الأمنية وفقدان المرجعية، أو خوض تحوّل معرفي ومؤسسي يجعلها جزءًا من العقد الاجتماعي اللبناني. وفي النهاية، ما لم تدرك الحركة أنّ الطهورية المفرطة قد تؤدي إلى عزلة سياسية واجتماعية، ستظل أسيرة نوستالجيا دينية في مجتمع لا يمكن أنْ يستمر إلا عبر التعدّد والتسويات.

(*) راجع الجزء الثاني: السلفيون في لبنان: دعويون، جهاديون وحركيون

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حُكم ناديا جدايل.. درع قضائي لبناني للمتظاهرين