السّلفيون في لبنان: دعويون، جهاديون وحركيون (2)

يُستمدّ مصطلح السّلفية من لفظ «السَّلَف الصالح»، أي الجيل الأوّل من المسلمين (الصحابة والتابعين وتابعيهم)، الذين يُنظر إليهم بوصفهم النموذج الأسمى للفهم الصحيح للدين.. وفي الأدبيات السلفية، يُقصَد بالسلفية «الرجوع إلى الكتاب والسنّة بفهم السلف الصالح»، أي تجريد المعتقد والعبادة والسلوك من كل ما يُعدّ «بدعة» أو «انحرافًا» طرأ عبر العصور.

من هنا، يُمكن القول إن السلفية ليست مذهبًا فقهيًا بالمعنى التقليدي، بل منهج معرفي وتأويلي يسعى إلى تنقية الدين من التأويل الكلامي والفلسفي والتصوفي الذي ساد بعد القرون الأولى. ويقول ابن تيمية في كتاب «درء تعارض العقل والنقل»: «كل ما خالف نصوص الكتاب والسنّة فليس بعقل صريح، بل هو جهل وظنّ».. وهذه المقولة أصبحت مُرتكزًا إبستمولوجيًا للسلفية الحديثة.

يمكن تتبّع الجذور الأولى للفكر السلفي بدءًا بحركة الحنابلة في القرنين الثالث والرابع الهجريَّين، حين قاوموا النزعة العقلانية للمعتزلة، مؤكّدين على النقل مقابل العقل. ثم أعاد ابن تيمية (661–728هـ) صياغة المشروع السلفي في إطار دفاعي جدلي، فحوّله من مجرّد موقف فقهي إلى منظومة فكرية متكاملة ترفض المنطق الفلسفي وتربط الإصلاح الديني بالإصلاح الاجتماعي والسياسي.

في العصر الحديث، نهضت السلفية على يد محمد بن عبد الوهاب (1703–1792) في الجزيرة العربية، ثم محمد عبده ورشيد رضا في المشرق، حيث تحوّل المنهج السلفي إلى أداة لإحياء الأمة الإسلامية في مواجهة الاستعمار والانحطاط، قبل أن يتشظّى إلى اتجاهات متعددة، إصلاحية، دعوية، جهادية، وعلمية.

السلفية الحديثة في العالم الإسلامي تمثل ظاهرة فكرية واجتماعية في آنٍ معًا، إذ تتراوح بين الدعوة إلى نقاء العقيدة والتزام النص، وبين التحوّل إلى حركة اجتماعية أو سياسية تسعى لإعادة بناء المجال العام وفق قيمها. وتتفق الكثير من الدراسات على أنّ السلفية في صيغتها الحديثة نتاجُ تلاقٍ بين مشروع الإصلاح الديني الوهابي وبين السياقات المحلية في بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا. في هذه البيئات، لم تكن السلفية مجرد تيار عقائدي، بل أداة للتعبئة في وجه الاستعمار والعلمانية!

النواة الصلبة للفكر السلفي

يمكن تحديد أبرز سمات المنهج السلفي المعاصر كما يلي:

  1. المصدريَّة النصية: اعتماد القرآن والسنّة مصدرين وحيدين للتشريع والمعرفة الدينية، مع رفض التأويل الكلامي والقياس المنطقي غير المنضبط.
  2. التحاكم إلى السلف: اعتبار فهم الجيل الأول مرجعية مطلقة لكل اجتهاد لاحق.
  3. موقف سلبي من البدع والتصوّف: يرى السلفيون أن الممارسات الصوفية والمذهبية تُفسد صفاء التوحيد.
  4. مفهوم التوحيد الشامل: ليس فقط الاعتقاد بوحدانية الله، بل رفض كل أشكال «التحاكم لغير الشرع»، بما في ذلك القوانين الوضعية.
  5. ثنائية الولاء والبراء: وهي البنية العقدية التي تُنظِّم علاقة المسلم بالمجتمع والآخر، وتُحدِّد دوائر الانتماء والخصومة.
  6. الطاعة والسلطة: في المنهج الكلاسيكي، تلتزم السلفية بطاعة وليّ الأمر ما لم يأمر بمعصية، وهو ما يُفسِّر لاحقًا انقسامها إلى مدارس: دعوية مطيعة، وجهادية متمرّدة.

هذه القواعد تشكّل «النواة الصلبة» للفكر السلفي الذي سيتخذ في لبنان، كما في غيره، تعبيرات محلية مختلفة وفق البيئة السياسية والطائفية والاجتماعية.

السلفية في لبنان

لبنان، بتنوّعه الديني والسياسي والثقافي، شكّل بيئة فريدة للتيار السلفي. فبينما قامت الحركة السلفية في الخليج على أساس عقدي–دولتي، ظهرت في لبنان في بيئة هامشية مضطربة تعاني من تهميش سياسي واجتماعي، وبخاصةً في بيئة الشمال والبقاع السنية كما في المخيمات الفلسطينية.

ظلّ الحقل الديني السّني في لبنان متأثرًا بالمؤسسة التقليدية (دار الفتوى، الأزهر)، إلى أن بدأت الأفكار السلفية تتسرّب عبر طلاب العلم العائدين من السعودية والمدينة المنورة منذ أربعينيات القرن الماضي.

في هذا السياق، أسّس الشيخ سالم الشهّال في الأربعينيات «جماعة المسلمين»، متأثرًا بمجلة “المنار” لمحمد رشيد رضا، وبكتابات ابن باز والألباني. انطلق نشاط الشهّال من المساجد والتعليم الشرعي، ثم تطور إلى جمعيات مثل “الهداية والإحسان” التي تأسست رسميًا عام 1988، قبل أن تُحلَّ سنة 1996 بقرار حكومي بتهمة «إثارة النعرات». وقد مثّل الشهّال الجيل الأول لما يمكن تسميته بالسلفية اللبنانية التقليدية، التي ركزت على الدعوة والتعليم ومحاربة البدع، من دون انخراط سياسي مباشر.

وقد انتشرت الدعوة السلفية تدريجيًا في مناطق السنّة المهمّشة من الشمال إلى صيدا والبقاع، وتبدّى للجمهور أكثر من تيار سلفي:

السلفية الدعوية: يُمثلها العلماء والدعاة الذين يرون أنّ التغيير يبدأ بإصلاح العقيدة قبل السياسة، وشعاراتهم الأساسية: التوحيد، الالتزام بالسنّة، نبذ البدع، والابتعاد عن الأحزاب ورفض العنف. وتنتمي هذه السلفية فكريًا إلى المدرسة الألبانية..

السلفية الجهادية: نشأت في تسعينيات القرن الماضي، متأثرة بتجربة الجهاديين الأفغان والفكر القطبي. ترى هذه السلفية أنّ الدولة اللبنانية «نظام طاغوتي» لأنّها لا تحكم بالشرع، وأنّ الجهاد ضدها أو ضد خصومها السياسيين مشروعٌ. وقد برز حضور هذا التيار في مخيم نهر البارد (فتح الإسلام)، وعين الحلوة (عصبة الأنصار)، وبعض مناطق البقاع. وتمتاز بعقيدة أكثر تشدّدًا، وهي متأثرة بالسلفية العالمية المرتبطة بتنظيم “القاعدة”.
السلفية الحركية: برزت بعد العام 2005 (إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان). انخرط بعض رموزها في الحراك السّني العام، وتحالفوا مع «تيار المستقبل» مؤقتًا، معتبرين أنّ «المشاركة السياسية ضرورة لحماية السنّة»، وهذا التيار أقرب إلى ما تُسمى «السلفية الواقعية» التي تمزج الدعوة بالموقف السياسي، من دون تبني العنف.

إقرأ على موقع 180  أيّها الذّكاء الاصطناعي: نحنُ "إنسان".. لا "مفهوم إنسان" (٣)

السلفيون.. والدولة

في ما يتعلّق بالعلاقة مع الدولة والنظام السياسي، تقوم السلفية التقليدية على مبدأ «السمع والطاعة لوليّ الأمر ما لم يأمر بمعصية». لكن في لبنان، حيث لا يوجد «وليّ أمر شرعي» واحد بل نظام طائفي توافقي، واجه السلفيون معضلة فقهية تجلّت في سؤال: هل يُطاع نظام لا يحكم بالشريعة؟ وهل يجوز العمل ضمنه؟ الجواب تباين بين تياراتهم، فالدعويون أقرّوا بالتعايش والابتعاد عن الفتنة، واعتبره الجهاديون “نظامًا غير شرعي”.

يُظْهِرُ هذا العرض التاريخي والفكري أنّ السلفية في لبنان، برغم استنادها إلى «النواة الصلبة» لمنهج السلف الصالح الذي يركز على نقاء العقيدة ونبذ البدع، لم تستطع أنْ تتشكل ككتلة واحدة في البيئة اللبنانية المعقدة. لقد كان تفاعل الحركة مع التهميش السياسي والاجتماعي للطائفة السنّية هو المحفز لظهورها، لا مجرّد الاستجابة للدعوة الوهابية الإصلاحية. ونتيجة لذلك، أفرزت السلفية اللبنانية ثلاثة تيارات رئيسية هي: الدعوي، الجهادي، والحركي؛ الأمر الذي يعكس تباينها وبالتالي عمق المعضلة التي تواجهها، وهي كيفية الالتزام بمنهج نقائي يرفض الطائفية والأنظمة الوضعية، في بيئة لا تعرف إلا التوازنات الطائفية والمذهبية. ويظل التساؤل المحوري الذي سيكمله الجزء الثالث من هذا النص هو: كيف تمكنت هذه التيارات من إدارة علاقتها المتوترة والمتباينة مع الدولة اللبنانية والنظام السياسي القائم على مبدأ «ولي الأمر» الغائب أو المختلف عليه؟

(يتبعه جزء ثالث غداً الخميس)

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هل ينجح سُلطان عمان بإعادة ايران والغرب إلى الطاولة النووية؟