سوريا الجديدة.. الشّمال الشّرقيّ بين الأكراد والعشائر والدّولة الجديدة (3)

يُمثّل الشّمال الشّرقي السّوري، الممتدّ من ريف حلب الشّرقي مروراً بالرّقة ودير الزّور وصولاً إلى الحسكة، واحدةً من أكثر المناطق تعقيداً في المشهد السّوري. يتقاطع في هذه الجغرافيا حضورٌ كرديٌّ بارز ٌمع ثقلٍ عشائريٍّ عربيّ، إلى جانب مكوّناتٍ أخرى سريانيّةٍ وآشوريّةٍ وغيرهم، ضمن مساحةٍ غنيّةٍ بالموارد النّفطيّة والزّراعيّة. ومع بروز دولةٍ سوريّةٍ جديدةٍ بمؤسّساتّ انتقاليّةٍ في دمشق، تتشكّل علاقةٌ إشكاليّةٌ بين هذه المنطقة والسّلطة المركزيّة، تتداخل فيها الأبعاد السّياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.

تشكّلت خلال سنوات الحرب السورية في الشّمال الشّرقيّ، بنيةٌ سياسيّةٌ–إداريّةٌ مختلفةٌ عن باقي مناطق البلاد. فقد ساهم الفراغ الأمنيّ وتراجع سلطة الدّولة السّابقة في ظهور “الإدارة الذّاتيّة” و”قوات سوريا الدّيومقراطيّة” (قسد) بوصفهما الإطارين الأبرز في إدارة المنطقة أمنيّاً وخدماتيّا. تأسّست “قسد” بدعمٍ دوليّ، وبخاصةً من الولايات المتّحدة، في سياق محاربة تنظيم “داعش”، وضمّت في بنيتها مقاتلين أكراداً وعرباً وغيرهم، بينما تولّت مجالس مدنيّةٌ ومحلّيّةٌ إدارة الشّأن اليوميّ في المدن والبلدات.

وقد أدّى ذلك، إلى أن يبقى الشّمال الشّرقيّ في عام 2025، ومع انتقال السّلطة في دمشق بحكم الأمر الواقع خارج السّيطرة المباشرة للحكومة الجديدة، مع استمرار الوجود الأميركيّ في بعض القواعد، واحتفاظ “قسد” وأجهزة الأمن التّابعة للإدارة الذّاتيّة بالهيمنة الميدانيّة. ويخلق هذا الواقع إشكاليّةً مزدوجةً في العلاقة مع الدّولة الجديدة، من جهة، تؤكّد دمشق على وحدة الأراضي السّورية وضرورة عودة مؤسّساتها كاملةً إلى المنطقة؛ ومن جهةٍ أخرى، تتمسّك القوى المحلّيّة في الشّمال الشّرقيّ بصيغٍ مختلفةٍ من الإدارة الذّاتيّة واللّامركزيّة الواسعة.

ويتجلّى أحد المحاور الأساسية في هذه الإشكاليّة في ملفّ الهويّة السّياسيّة والقانونيّة للإدارة القائمة شرق الفرات. فالقوى الكرديّة الفاعلة في هذه المنطقة تتحدّث عن نموذج “إدارةٍ ذاتيّةٍ ديموقراطيّةٍ” ضمن إطار دولةٍ سوريّةٍ موحّدة، مع التأكيد على حقوقٍ لغويّةٍ وثقافيّةٍ وسياسيّةٍ للأكراد والمكوّنات الأخرى. في المقابل، تطرح الحكومة الانتقاليّة مسألة توحيد البنى التّشريعيّة والإداريّة تحت سقف دستورٍ وطنيٍّ جديد، مع قبولٍ مبدئيٍّ بأشكالٍ من اللّامركزيّة الإداريّة، لكن ضمن حدودٍ لا تؤدّي إلى قيام كيانٍ موازٍ لسلطة الدّولة.

وتشكّل العشائر العربية عاملاً حاسماً آخر في المعادلة. فهي تنتشر بقوةٍ في الرّقة ودير الزّور وأجزاء من الحسكة، ولها امتداداتٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ عبر الحدود مع العراق. علاقاتها مع الإدارة الذّاتيّة و”قسد” شهدت مراحل مختلفة، بين تعاون ٍفي مواجهة تنظيم داعش، وتوتّراتٍ دوريّةٍ حول قضايا الحكم المحلّيّ وتوزيع الموارد والتّمثيل في المؤسّسات. كما أنّ جزءاً من هذه العشائر يحافظ على قنوات تواصلٍ مع دمشق، وجزءاً آخر يتعامل مع الوجود الأميركيّ بوصفه ضمانةً لموازنة نفوذ “قسد” أو أطرافٍ إقليميّةٍ أخرى. ويزيد هذا التّعدّد في الارتباطات من تعقيد العلاقة بين الدّولة المركزيّة والنّسيج المحليّ.

ويشكّل الملف الأمني بدوره نقطة ارتكازٍ في العلاقة بين الشّمال الشّرقي ودمشق. فوجود قوّةٍ عسكريّةٍ منظّمةٍ مثل “قسد”، تمتلك بنيةً قياديّةً وأجهزةً أمنيّة خاصّة، يطرح سؤالًا حول كيفيّة دمج هذه القوّة في مؤسّسات الجيش والأمن الوطنيّين. وتعلن الحكومة الانتقاليّة من جهتها أنّ احتكار استخدام القوّة المسلّحة يجب أنْ يكون بيد الدّولة، بينما تخشى قوى محلّيّة من أنْ يؤدّي دمجٌ غير منظّمٍ أو غير متّفقٍ عليه إلى فقدان مكاسب تحقّقت خلال سنوات الصّراع، أو إلى فراغٍ أمنيٍّ تستفيد منه مجموعاتٌ متطرّفةٌ أو شبكات تهريبٍ وسلاح.

ويزيد العامل الخارجيّ من تعقيد المشهد. فالولايات المتّحدة ما زالت حاضرةً عسكريّاً وسياسيّاً في الشّمال الشّرقيّ، وتعتبر “قسد” شريكاً محلّيّاً رئيسيّا، مع ربط أيّ تغيير ٍكبيرٍ في بنية السّلطة هناك بضماناتٍ تتعلّق بمحاربة الإرهاب ومنع تمدّد تنظيماتٍ متشدّدة. في الوقت نفسه، تراقب تركيا التّطوّرات عن كثب، معبّرةً عن رفضها لأيّ صيغةٍ تعطي لقوًى كرديّةً في سوريا وضعاً يماثل الكيان الكرديّ في العراق من حيث الاستقلاليّة، وترى في وجود “قسد” امتداداً لتهديدٍ أمنيٍّ على حدودها الجنوبيّة.

الشرع ومظلوم عبدي

ويمثّل الجانب الاقتصاديّ محوراً لا يقلّ أهمية. فالشّمال الشّرقي يضم القسم الأكبر من الحقول النّفطيّة والغازيّة السّورية، إضافةً إلى مساحاتٍ زراعيّةٍ واسعة. وخلال سنوات الحرب، تشكّلت شبكاتٌ محلّيّةٌ لإدارة الموارد وبيع النّفط والقمح بشكلٍ مباشرٍ أو عبر وسطاء. وفي ظلّ الدّولة الجديدة، تطرح مسألة إعادة تنظيم إدارة هذه الموارد ضمن إطارٍ وطنيٍّ موحّد، وفي الوقت نفسه مراعاة احتياجات المجتمعات المحلّيّة التي تعتمد عليها. وكيفية توزيع عائدات النّفط والزّراعة بين المركز والمناطق، وآليات الرّقابة على ذلك، وستكون من القضايا المركزيّة في أيّ تفاوضٍ بين دمشق والفاعلين المحلّيّين.

أمّ من ناحيةٍ اجتماعيّة، فقد أسفرت فترة الحرب والإدارة الذّاتية عن تغيّراتٍ في أنماط الإدارة المحلّيّة، والتّعليم، والخدمات، لا سيما في المناطق ذات الغالبيّة الكرديّة، حيث توسّع استخدام اللّغة الكرديّة في الحياة العامة والتّعليم، إلى جانب العربيّة. ويشكّل التعامل مع هذه التّغيّرات في إطار الدّولة الجديدة تحدّياً إضافيّا، فمن جهة، توجد تطلّعاتٌ محلّيّةٌ للمحافظة على مكتسباتٍ ثقافيّةٍ ولغوية؛ ومن جهةٍ أخرى، تسعى الحكومة إلى بناء إطارٍ قانونيٍّ موحّدٍ ينظّم قضايا التّعليم واللّغة والهويّة الثّقافيّة على مستوى البلاد.

وفي ضوء هذه العناصر، يمكن القول إنّ علاقة الشّمال الشّرقيّ بالدّولة السّورية الجديدة تتوقّف على مجموعة مساراتٍ متوازية: أوّلها مسارٌ سياسيٌّ يتعلّق بصياغة دستورٍ أو وثيقةٍ مرجعيّةٍ تحدّد شكل اللّامركزيّة ومكانة الإدارات المحلّيّة؛ وثانيها مسارٌ أمنيٌّ يتناول إعادة تنظيم القوّات المسلّحة والأجهزة الأمنيّة في المنطقة؛ وثالثها مسارٌ اقتصاديٌّ–تنمويٌّ يحدّد كيفيّة إدارة الموارد وعائداتها؛ ورابعها مسارٌ اجتماعيٌّ–ثقافيٌّ يعالج قضايا الهويّة واللّغة والتّمثيل.

إقرأ على موقع 180  الممر الهندي الخليجي الأوروبي.. ماذا إذا تعثر؟ 

وسيعتمد تطوّر هذه المسارات بدرجةٍ كبيرةٍ على قدرة الأطراف المعنيّة (في دمشق والشّمال الشّرقي) على التوصّل إلى تفاهماتٍ تدريجيّة، وعلى طبيعة أدوار القوى الخارجيّة، خصوصاً الولايات المتّحدة وتركيا. في حال تمكّن الفاعلون المحلّيّون والسّلطة المركزيّة من صياغة ترتيباتٍ تضمن مشاركةً فعلّيّةً للأكراد والعشائر والمكوّنات الأخرى في صنع القرار، ضمن إطارٍ وطنيٍّ مشترك، قد تتّجه المنطقة نحو استقرارٍ نسبيّ. أمّا استمرار الغموض في الوضع القانونيّ والسّياسيّ للإدارة الذّاتيّة والقوى المسلّحة المحلّيّة، فقد يبقي الشّمال الشّرقي في حالة “وضعٍ انتقاليٍّ مفتوحٍ” ينعكس على مجمل مسار بناء الدّولة السّورية في مرحلة ما بعد 2025.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  بصفقةٍ أم بحربٍ.. لا بدّ من هزيمة التطرّف