لبنان وسوريا: الخيار الدّبلوماسيّ.. ولحظة الحقيقة الكُبرى؟

السّلطة التّنفيذيّة الحاليّة في لبنان، والسّلطة الانتقاليّة الحاليّة في سوريا: كلاهما اليوم أمام "لحظة حقيقة" بكلّ ما للكلمة من معنى، إن كان بالنّسبة إليهما وإلى أهمّ أركانهما وداعميهما الاقليميّين والدّوليّين، أو بالنّسبة إلى الشّعبَين اللّبنانيّ والسّوريّ، أو حتّى بالنّسبة إلى مستقبل شعوب ودول المنطقة ككلّ. هل سيُثبت خيارهما التّفاوضيّ أنّه الأنسب والأنجح بالنّسبة إلى أحوالنا مع هذا الكِيان الاسرائيليّ.. كلبنانيّين وكسوريّين، بل كمشرقيّين أجمَعين؟ إنّها لحظة حقيقة سياسيّة ولكن أيضاً ثقافيّة وأخلاقيّة.

منذ نهاية العام الفائت تقريباً، هناك- في لبنان وفي سوريا أيضاً- من يتبنّى ويحمل ويُروّج لخطاب مفاده، باختصار، ما يلي:

  • إنّ خيار “المقاومات المسلّحة”، الموازِية للقوّة العسكريّة والأمنيّة “الرّسميّة”، في مواجهة هذا العدوّ أو هذه الجهة.. لم ينجح، أو لم يعد ناجحاً، إن كان في الدّفاع أو في الرّدع. كذلك بالنّسبة إلى خيار الممانعة ككلّ، أو خيار دعم التوجّه المقاوِم في المنطقة بشكلّ عامّ والذي كان ينتهجه النّظام السّوريّ السّابق.. فإنّهما قد فشلا في الصّدّ وفي الدّفاع وفي الرّدع معاً.
  • ثمّ إنّ هذا النّوع من الخيارات قد أدّى في ما أدّى إليه: إلى حصول كوارث كبرى على كلّ المستويات، إن كان في لبنان أو في سوريا. وقد جرّ الويلات تلو الويلات، وراكم التّضحيات فوق التّضحيات، وتسبّب بالأزمات والعقوبات، وحوّل “الدّولة” الموعودة إلى دُويلات.. وجاء بغضب الأميركيّ أبي التّوماهوك و”الذّكاء” الاصطناعيّ والدّولارات.
  • وبالتّالي، إن كان في لبنان أو في سوريا، ومع الأخذ بخصوصيّات كلّ “دولة” من الدّولَتَين وكلّ حالة من الحالَتَين طبعاً: لا بدّ من أن نجرّب شيئاً آخر.. هو باختصار، ومع التّبسيط، خيار ارتداء ثوب “الدّولة” الرّسميّة الحاصرة للعنف وللسّلاح، والمتّخذة لخيار الحلّ التّفاوضيّ-الدّبلوماسيّ- المتغطّي بما نسميّه بالشّرعيّة الدّوليّة- كخيار رئيسيّ تجاه الأطماع والاحتلال والاعتداءات الاسرائيليّة (الواقعيّة بما لا يقبل الشّكّ عند الجميع تقريباً).

لقد أُعلن بدء العصر التّفاوضيّ-الدّبلوماسيّ، بأشكال مختلفة وتحت مسمّيات متنوّعة ومموّهة أحياناً، في سوريا وفي لبنان.

ومع استمرار الصّدمة داخل صفوف الفريق الممانع والمقاوم في المنطقة ككلّ، بسبب ما يُمكن تسميته التّرتيب الاسرائيليّ-الأميركيّ-التّركيّ-الرّوسيّ المفاجئ الذي أدى إلى انهيار النظام السابق؛ استطاعت السّلطات الانتقاليّة الحاليّة في سوريا، ومن دون التّخوّف من معارضة داخلية مؤثّرة تُذكر، أن تذهب إلى التّفاوض الرّسميّ والمباشر مع العدوّ. رافقت هذه الخطوة حملات من التّشويش والتّطبيل والتّزمير، ولكنّها خطوة تفاوضيّة-دبلوماسيّة قد حصلت حقّاً، وهي قائمة حتّى إشعار آخر.

هل سنعيش هزّات كبرى متجدّدة في لبنان وفي سوريا، تكون أعمق وذات أبعاد تتخطّى ما رأيناه حتّى الآن.. وصولاً ربّما إلى محاولات اجتياح برّيّة اسرائيليّة للشّام ولأجزاء كبيرة من الجنوب اللّبنانيّ (وربّما من البقاع اللّبنانيّ أيضاً).. وصولاً ربّما كذلك إلى إعادة تشكّل الفريق المقاوِم والتّحرّري، بطرق مختلفة وربّما أشدّ وأعمق وأوسع أثراً، في الواقعَين اللّبنانيّ والسّوريّ وربّما في الاقليم ككلّ؟

وأمّا في لبنان، وبالرّغم من الضّربات العسكريّة الكبيرة نسبيّاً التي تلقّاها فريق المقاومة داخل البلد، وبالرّغم ممّا تسبّب به ذلك من تقدّم سياسيّ كبير نسبيّاً أيضاً للفريق الحليف للمشروع الأميركيّ في لبنان وفي المنطقة: فقد استطاع ذاك الفريق المقاوِم، مع ذلك، تحقيق صمود نسبيّ لا يُستهان به إن كان على المستوى العسكريّ أو على المستوَيَين الشّعبيّ والسّياسيّ. لذلك، فالسّلطة التّنفيذيّة الحاليّة في لبنان لا تشعر واقعاً بأنّها مُطلقة اليَدَين بما يكفي في ما يعني الذّهاب بعيداً في المفاوضات الدّبلوماسيّة والسّياسيّة.

ولكنّها استطاعت، بالرّغم من كلّ ذلك، بدعم رسميّ عربيّ قويّ نسبيّاً؛ وتحت ضغط أميركيّ-إسرائيليّ هائل، ومنسّق إلى حدّ كبير بين هذين الطّرفَين؛ واستناداً أيضاً إلى مزاج شعبيّ لبنانيّ واسع نسبيّاً، بات يميل أكثر إلى حديث المفاوضات والطّرق الدّبلوماسيّة وما إلى ذلك: ولكنّ هذه السّلطة اللّبنانيّة قد استطاعت إذن.. عمليّاً، أن تفتح باباً مُعيّناً للطّرح التّفاوضيّ-الدّبلوماسيّ على أرض الواقع السّياسيّ.

وبعيداً عن الضّجيج والتّشويش الاعلاميَّين، هذا هو الذي حصل ويحصل على أرض الواقع، وبمعزل عن آرائنا العقائديّة وعن أمانينا وعن رجائنا الشّخصيّ أو الوطنيّ الطّابع: لقد دخل النّظامان السّوريّ واللّبنانيّ الحاليّان في خطوات عمليّة وملموسة، تقوم على فلسفة مفادُها أنّ “عصر” المقاومة المسلّحة قد انتهى.. وجاء زمن التّفاوض والحلول الدّبلوماسيّة مع “إسرائيل”.

ولكنّ التّحليل المعمّق لهذه التّطوّرات الواقعيّة نفسها يُبيّن أنّ هاتَين السّلطَتَين إنّما انجرّتا على الأرجح إلى ما يُمكن أن يكون فخّاً كبيراً وخطيراً وذا تداعياتٍ مستقبليّة قد تكون من النّوع الجذريّ والعميق عليهما وعلى الكِيانَين اللّبنانيّ والسّوريّ وربّما أبعد من ذلك.

لماذا؟

لنقارب المسألة بهدوء وبموضوعيّة:

  • إذ يقف أمام توجّه هاتَين السّلطَتَين هذا، الحليفَتَين إذن للقوّة الأميركيّة في المنطقة، واقعٌ دامغُ الحقيقة: وهو أنّ بنيامين نتنياهو، ومن هم مثله، هم الذين يحكمون “إسرائيل” حتّى الآن، وهؤلاء يعتقدون أنّهم هم الذين حقّقوا التّقدّم الواقعيّ لا المتخيّل في الإقليم، وبالتّالي، ليس من المضمون أبداً أن يكون هذا الطّرف الاسرائيليّ في وارد إنجاح أيّ مسار تفاوضيّ-دبلوماسيّ مع أيّ طرف عربيّ أو اسلاميّ.. في باطن الأمور وفي جوهرها إن صحّت التّعابير.
  • ثمّ إنّ هاتَين السّلطَتَين تَرْكبان مخاطرة ليست ببعيدة عن سياق النّقطة الأولى: وهي المخاطرة النّاتجة عن تبنّي الاعتقاد، ولو النّسبيّ، بأنّ الحلول الدّبلوماسيّة تنفع مع “إسرائيل” بشكل عامّ.. وهذه فلسفة “مضادّة”، إن صحّ التّعبير، يُشهرها قادة ومفكّرو ومثقّفو مختلف التّيّارات المقاومة والتّحرّريّة والممانعة في المنطقة، ومنذ زمن طويل جدّاً.. يُشهرها هؤلاء طبعاً في وجه أتباع هذا النّوع من الحلول وهذا النّوع من السّلطات بشكل عامّ. على كلّ حال، من الواضح أنّ حجم المخاطرة كبيرّ نسبيّاً ضمن هذا الإطار كما أشرنا.
  • أخيراً وليس آخراً، فإنّ هاتَين السّلطَتَين تقودان رحلَتَيهما التّفاوضيَّتَين-الدّبلوماسيَّتَين، ضمن سياق اقليميّ لا يُمكن أن يُقال فيه إنّه قد صار من النّوع الواضح و/أو المحسوم: من عدم الوضوح و/أو الحسم في ما يعني قضيّة قطاع غزّة ومستقبلها؛ إلى عدم الوضوح و/أو الحسم أبداً في مسألة حلّ الدّولَتَين الذي ما فتئ يُنادي به أهل التّفاوض والدّبلوماسيّة عموماً؛ إلى عدم الوضوح و/أو الحسم اطلاقاً في ما يعني مسألة الصّراع على سوريا لا سيّما ما استجدّ من صراع إسرائيليّ-تركيّ في هذا السّياق (وربّما تركيّ-عربيّ مبيّت إلى الآن)؛ إلى عدم الوضوح و/أو الحسم أيضاً في ما يعني مشكلة الإدارة الأميركيّة الحاليّة والعالقة مع إيران.. ونشير إلى ذلك كلّه من دون أن نضطّر إلى ذكر جميع أنواع وأشكال الألغام الكبرى المنفجرة أو المرجّحة الانفجار في هذا الإقليم وفي هذه البقعة من العالم.
إقرأ على موقع 180  أي غالبية تعتمد برلمانياً عند اعادة النظر بقانون الانتخاب؟

إذا ما نظرت إلى الأمر بطريقة هادئة وموضوعيّة ومعمّقة معاً، فسرعان ما ستظهر لك الحقيقة التّالية في ما يخصّ البَلَدَين الجارَين وربّما غيرهما: إنّ الفريق المؤيّد للتّوجّه التّفاوضيّ-الدّبلوماسيّ قد استطاع أن يفتح لنفسه باباً مستجدّاً مُعيّناً.. ولكنّه قد وضع نفسه، في الوقت عينه، في موضع الاختبار والامتحان، بدلاً من الفريق الخصم له.. أي بدلاً من فريق المقاومة.

من هنا، على هذا الفريق “التّفاوضيّ-الدّبلوماسيّ” الميول والحلول أن يتحضّر للدّفاع عن نتائج أعماله “التّفاوضيّة-الدّبلوماسيّة” في القريب العاجل (خصوصاً في هذا الزّمن ذي الأحداث المتسارعة بشكل عجيب). والأخطر: على هذا الفريق وحلفائه الاقليميّين والدّوليّين التّحضّر أيضاً لسيناريو فشل هذا النّوع من التّوجّهات مجدّداً في نظر شعوب ونخب وقوى البَلَدين.. فماذا سيحدث حينَها؟

هل سنعيش هزّات كبرى متجدّدة في لبنان وفي سوريا، تكون أعمق وذات أبعاد تتخطّى ما رأيناه حتّى الآن.. وصولاً ربّما إلى محاولات اجتياح برّيّة اسرائيليّة للشّام ولأجزاء كبيرة من الجنوب اللّبنانيّ (وربّما من البقاع اللّبنانيّ أيضاً).. وصولاً ربّما كذلك إلى إعادة تشكّل الفريق المقاوِم والتّحرّري، بطرق مختلفة وربّما أشدّ وأعمق وأوسع أثراً، في الواقعَين اللّبنانيّ والسّوريّ وربّما في الاقليم ككلّ (هذا الاقليم الذي سيغدو جالساً بالفعل على فوالق زلزاليّة تُهدّد الكيانات الحاليّة بشكل ملموس- أكثر بكثير – هذه المرّة)؟

لنُكمل المراقَبَة، الموضوعيّة، سويّاً.. فمِن قوانين هذه الحياة أنّ الله- سبحانه- يكادُ لا يُغلق باباً في هذه الدّنيا، إلّا ويفتح باباً آخر في مقابله، والعكس صحيح.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  بوصلة غزة.. صراعنا أولاً مع الغرب الإستعماري