زيغمونت باومان قدّم توصيفًا بالغ الدقة لعصر السيولة، حيث القيم في حركة دائمة، والمعاني في حالة انزلاق، والاستقرار يتحوّل إلى استثناء. في هذا السياق، تبدو التعليقات الرقمية تجسيدًا حيًا لهذه السيولة، إذ تتدفق الكلمات بسرعة، وتتشكّل المواقف على هيئة اندفاع لغوي، وتضمر المسافة الفاصلة بين الفكرة والانفعال. اللغة هنا تتحرّك قبل التأمل، والجملة تندفع بوصفها فعلًا عاطفيًا أكثر منها تركيبًا فكريًا.
هانا آرندت ربطت السياسة بالفعل والكلام المشترك، واعتبرت المجال العام فضاءً يظهر فيه الأفراد بوصفهم ذوات قادرة على السرد والحجّة. في فضاء التعليقات، يتخذ الظهور شكلًا مختلفًا، حيث يغدو الكلام إعلانًا عن الهوية، ويتراجع السرد العقلاني لصالح تثبيت الموقع داخل جماعة رمزية. الفضاء العام يتحوّل تدريجيًا إلى ساحة استقطاب، تتواجه فيها الأصوات بدل أن تتقاطع الأفكار.
يورغن هابرماس صاغ مفهوم الفعل التواصلي بوصفه شرطًا لعقلانية مشتركة، تقوم على الحوار وتبادل المبررات والسعي إلى تفاهم. المشهد الرقمي يكشف مسارًا معاكسًا، حيث تسود الجمل القاطعة، وتُستدعى مفردات التحريم والتجريم والتخوين والتكفير بوصفها أدوات سلطة رمزية. المعرفة تظهر مجزّأة، مقتطعة من سياقها، ومعبّأة لخدمة موقف جاهز. الثقافة تفقد بعدها التراكمي، وتتحوّل إلى ذخيرة لغوية تُستخدم في الصدام.
كاس سانستين شرح أثر المنصات في تكوين غرف الصدى، حيث تتعزّز القناعات داخل دوائر متجانسة، ويترسّخ الاستقطاب، وتضعف قابلية الإصغاء. التعليقات اليومية تمثّل التعبير الأكثر كثافة عن هذا المسار، إذ يتجمع المتشابهون حول سردية واحدة، وتتكرر العبارات، ويتحوّل الاختلاف إلى تهديد للتماسك الرمزي للجماعة.
سياسيًا، يكشف هذا المشهد تحوّل المواطن الرقمي إلى حارس لمعسكره الرمزي، يدافع عن روايته بوصفها حقيقة مكتملة، ويهاجم الروايات الأخرى بوصفها خطرًا. المجال العام يفقد طابعه التفاوضي، ويتحوّل إلى ساحة صدام لغوي دائم، يخدم بنى سلطوية تستثمر في الانقسام، وتغذّي العصبيات، وتستفيد من تآكل النقاش العقلاني.
فلسفيًا، يظهر صعود الوعي الانطباعي وتراجع الفعل النقدي. الذات تتكلم بغزارة، وتفكّر ببطء. الكلام يصبح غاية في ذاته، والمعنى يتآكل تحت وطأة التكرار. التعليم، والإعلام، والخطاب الثقافي ساهمت في إنتاج متلقٍّ واثق من أحكامه، سريع الانفعال، مطمئن إلى أدواته الرمزية.
في هذا الإطار، تتحوّل التعليقات إلى مرصد حاد للوعي الجمعي، تكشف الفجوة بين وفرة التعبير وضآلة التفكير المتأني. الكلمات تتكدّس، والمواقف تتشابه، والحقيقة تراقب من مسافة هادئة، منتظرة لحظة يعود فيها الرأي فعلًا معرفيًا، ويستعيد النقاش معناه بوصفه بحثًا مشتركًا عن الفهم.
