العراق: موجة الغضب الثانية تشتعل

في خضم اشتعال العديد من بؤر الاضطرابات حول العالم، عاد العراق ليحتل مشهد الانتفاضات الشعبية، مع انطلاق الموجة الثانية في تظاهرات الغضب، يوم أمس، في تكرار للموجة الأولى التي اتسمت بطابعها الدموي وتناقضاتها الداخلية والخارجية المعقدة.

الموجة الأولى لاحتجاجات العراق، التي انطلقت من بغداد إلى بعض المدن الجنوبية العراقية، واستمرت من الأول  إلى السادس من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، تجددت بالأمس، بخروج العراقيين الى الشوارع ضد الفقر الفساد والتدهور الأمني، وبعدما أضيف إلى أسباب الاحتجاج القمع والقتل، الذي بات مجدداً سمة من سمات المشهد العراقي المضطرب، مع سقوط 40 قتيلاً وعشرات الجرحى خلال يومين.

ولم يغير في الأمر ما تعهد به رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، عشية الدعوات التي أطلقت لتظاهرات الخامس والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر، لجهة بعض الإصلاحات الحكومية، التي يعتبرها كثيرون شكلية، وهو ما يفسر حقيقة أن الشارع قد تجاوزها بأشواط، لا سيما بعد فشل السلطات العراقية في اتخاذ أية خطوات جدية لتهدئة الأوضاع.

وبجانب الفشل في إقناع الشارع بالقدرة على معالجة الأزمات الاقتصادية – الاجتماعية، أخفقت الحكومة العراقية في اثبات جديتها تجاه ملف لا يقل خطورة، وهو محاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين في الموجة السابقة من الحراك الشعبي.

كل ما فعلته الحكومة العراقية في هذا الإطار، كان تشكيل لجنة تحقيق لتقصي الحقائق التي أصدرت تقريراً يدين بعض كبار الضباط، وحددت العديد من الشخصيات المتهمة بقمع الاحتجاجات باستخدام العنف في الموجة الأولى.

لكن هذه اللجنة بحد ذاتها كانت موضع جدل كبير، إذ لم يتم الإعلان عن أسماء المشاركين فيها،  برغم المطالبات العديدة بالكشف عن هويتهم ومناصبهم، لا بل أن المثير في الأمر كان ظهور أحد المسؤولين عن القمع مشاركاً في أحد اجتماعاتها، وهو القيادي في الحشد الشعبي أبو زينب اللامي.

المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء، سعد الحديثي، لم يؤكد أو ينفِ مشاركة اللامي، لكنه قال إن اللجنة تم تشكيلها بشكل مهني ومحترف، وأن عملها مهني بلا أي دور للأحزاب السياسية، اذ يشارك فيها مسؤولون عن مجلس النواب ومجلس القضاء ومفوضية حقوق الإنسان، مشدداً على أن عمل اللجنة سري ولا يتدخل في عملها أحد، وهو ما زاد من الشكوك.

تقرير لجنة تقصي الحقائق جاء صادماً، اذ خلص الى أن 70 في المئة من الإصابات في صفوف القتلى والجرحى كانت في الرأس والصدر، وأن بعض القناصة اعتلوا أسطح المنازل وشرعوا في قتل المتظاهرين.

وأوصى التقرير بإقالة قائد عمليات بغداد والمعاون الأمني لقائد عمليات بغداد وقائد شرطة بغداد، وقائد فرقة الشرطة الاتحادية الأولى، وقائد فرقة مشاة 11، بالإضافة إلى العديد من القادة الذي أورد التقرير أسمائهم ومناصبهم.

وقال الكاتب الصحفي العراقي سليم سوزة لموقع “180” إن تشكيل لجنة تقصي الحقائق من جانب الحكومة هو أمر غير مقبول، فكيف تكون المتهم والقاضي في الوقت ذاته، موضحاً أن المطالب منذ البداية كانت أن يتولى قضاة مستقلين أعمال اللجنة حتى تكون هناك ضمانات لنزاهتها.

ومن المؤكد ان الدماء التي سالت مجدداً في العراق، بعد الإعلان عن مقتل 40 متظاهراً واصابة العشرات، ستلقي بظلالها على الحراك الشعبي الحالي، وستزيد الموقف تعقيداً كما حدث في التظاهرات السابقة.

وزارة الداخلية العراقية حاولت التنصل من المسؤولية حين أشارت إلى أن القوات الأمنية لم تستخدم السلاح الناري أو القوة المفرطة تجاه المتظاهرين ، مشيرة إلى أن سقوط القتلى والجرحى جاء نتيجة صدامات مع قوات حماية المؤسسات ومقرات القوى السياسية.

من جهتها، أصدرت قيادة العمليات المشتركة في العراق، بياناً هددت فيه “المخربين الذين يحرقون الممتلكات العامة بالتعامل معهم بوصفهم إرهابيين”.

وأوضحت قيادة العمليات المشتركة أنه “في الوقت الذي تشهد فيه البلاد تظاهرات للمطالبة بالحقوق التي كفلها الدستور العراقي، فقد استغل البعض هذه التظاهرات وعمل على قتل المواطنين وإصابة اخرين وحرق الممتلكات العامة والخاصة ونهبها، دون أي واعز ضمير ، وعليه فإن قواتنا الأمنية البطلة بجميع صنوفها ستتعامل مع هؤلاء المخربيين المجرمين بحزم وفقاً لقانون مكافحة الإرهاب، وتعتبر هذه التصرفات غير القانونية جريمة يجب التعامل الفوري معها بشكل ميداني وعاجل”.

وعلى الرغم من إطلاق الحكومة العراقية العديد من الحزم والقرارات الإصلاحية، وآخرها من أعلن عنه عادل عبد المهدي ليل امس الاول، إلا أن دعوات التظاهر يوم الجمعة لم تتوقف، مع الإشارة الى عدم وجود زعامات أو قادة معروفين لحركة الاحتجاج.

يرى سوزة أن ما يميز هذه التظاهرات هو أن غالبية المشاركين فيها من الشباب غير المؤدلج الذي يتحرك بشكل تلقائي بدون قيادة، لذا فإن السيطرة عليها صعبة لأنها كسرت حاجز الخوف.

ويوضح سوزة أنه من اللافت تركز المظاهرات في المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية، والتي تعتبر مركزاً للأحزاب السياسية منذ عقدين، مشدداً على أن هذه التظاهرات هي الأولى من نوعها التي تخرج بدون ترتيب مسبق، ومعرباً عن اعتقاده بأن الموجة الثانية من التظاهرات ستكون قوية جداً وأقوى من تلك التي انطلقت مطلع تشرين الأول/أكتوبر.

إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط غير صالح للسكن.. لأسباب مناخية!

ويستخدم الشباب مواقع التواصل الاجتماعي للدعوة للتظاهرات التي تشارك فيها كافة الأعمار والفئات.

ونشر الناشطون العديد من المنشورات للتنديد بعمليات الاعتقالات والاختفاء القسري خلال الأشهر الماضية، وبثوا فيديوهات مؤثرة احدها لأم تحاول إيقاظ ابنها الذي لم يكمل عامه الخامس عشر، وقتل بالرصاص الحي في مدينة ذي قار، وذلك لدفع الناس للخروج يوم الجمعة.

وتتمثل مطالب المتظاهرين في إقالة حكومة عادل عبد المهدي، وانتخابات رئاسية مبكرة، ومحاسبة المسؤولين عن العنف، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وإعلان استراتيجية لمكافحة الفساد.

ويحمّل العراقيون الحكومة مسؤولية الأزمات الخاصة بارتفاع نسب البطالة ونقص الكهرباء والماء وانهيار البنية التحتية، في ظل الفساد المستشري، على الرغم من انتهاء خطر “داعش” الذي كانت تستخدمه الحكومات كفزاعة دائمة رداً على المطالب الشعبية.

وبرغم الثروة النفطية الهائلة للبلد العضو في أوبك، يعيش كثيرون من العراقيين في فقر ولا يحصلون على المياه النظيفة أو الكهرباء أو الرعاية الصحية الأساسية أو التعليم اللائق في وقت تحاول فيه البلاد التعافي من سنوات الصراع والصعوبات الاقتصادية.

في المقابل، يتهم موالون لحكومة بغداد المتظاهرين بأنهم مدعومين من الخارج، لكن وزير الخارجية، محمد علي الحكيم، نفى امتلاك بلاده أية معلومات عن تدخلات خارجية لدعم التظاهرات، مؤكداً أن التظاهر مقبول من حيث المبدأ خاصة مع الاعتراف بوجود أزمات حقيقية في البلاد، مشيدا بالتجربة الديمقراطية العراقية التي تسمح بممارسة هذا الحق.

ويشكل التوتر الراهن أكبر تحد لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي منذ توليه السلطة قبل عام فقط. وعلى الرغم من تعهده بإصلاحات وإجراء تغيير وزاري واسع النطاق فإن رئيس الوزراء لا يزال يجد صعوبة حتى الآن في تهدئة غضب المحتجين المتصاعد.

المجهول ينتظر العراق في ظل الموجة الثانية التي انطلقت صباح أمس، برغم من المحاولات التي جرت في الكواليس لتهدئة الشارع الغاضب، فهل تنجح محاولات تطويق الغضب، أم تنطلق المظاهرات وتتوسع لتصنع شتاءً عراقياً ساخناً؟

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الفيدرالية في سوريا: الحل والتحديات