في اليوم الثاني من حرب تموز/يوليو 2006 (14 تموز/ يوليو)، أطل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في إتصال صوتي بثته محطة “المنار” وإذاعة “النور”، أعطى فيه إشارة إستهداف البارجة الإسرائيلية “ساعر 5″ (حانيت)، قائلا للبنانيين:”المفاجآت التي وعدتكم بها سوف تبدأ من الآن. الآن في عرض البحر في مقابل بيروت، البارجة العسكرية الاسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين، انظروا اليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنوب الاسرائيليين الصهاينة، هذه البداية وحتى النهاية كلام طويل وموعد”.
وبالفعل، كان ليل بيروت وكل العالم العربي، ليل فرح، برغم الحمم الإسرائيلية في أول أيام تلك الحرب التي إستمرت 34 يوماً. عمليا، تمكن المقاومون من إبعاد البوارج الإسرائيلية إلى ما بعد المياه الإقليمية اللبنانية.
وفي اليوم الثاني والثلاثين من تلك الحرب (12 آب/أغسطس)، وبينما كان الإسرائيليون يسعون إلى تحقيق إنجاز عسكري ما على الأرض، قبيل التفاهم في مجلس الأمن على قرار دولي (1701) يقضي بسريان موعد إنتهاء الأعمال الحربية، بعد 48 ساعة، تمكن المقاومون من إسقاط مروحية عسكرية من طراز “يسعور” في وادي مريمين في القطاع الأوسط من الجنوب اللبناني، بصاروخ أرض ـ جو، فإتخذت قيادة الأركان في تل أبيب، قرارا بتجميد عملية إنزال ضخمة كان يراد لها أن تُتوّج برفع العلم الإسرائيلي عند الضفة الشمالية لنهر الليطاني.
سقطت أسطورة “الميركافا” في وادي الحجير، ومعها محاولات التقدم البري، وسقطت محاولات الإنزال عبر البحر، مع إستهداف “ساعر 5” قبالة بيروت… ومع إسقاط ناقلة الجنود المروحية “يسعور”، فقد الجيش الإسرائيلي القدرة على الإنزال الجوي لأن إستخدام المروحيات بات مقيداً منذ تلك اللحظة.
ماذا جرى في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2019؟
ليل يوم الاحد في العاشر من الشهر الحالي، خرقت طائرات استطلاع إسرائيلية الاجواء اللبنانية، وهو إجراء روتيني مألوف منذ عقود من الزمن في سماء منطقة الجنوب اللبناني، وركّزت تحليقها في المنطقة ذاتها التي شهدت مواجهة بين دفاعات المقاومة الصاروخية وطائرة اسرائيلية من دون طيار من طراز طراز “هيرميس 450″، في الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر وكادت ان تسقط، وبدا واضحا أن العدو الاسرائيلي أراد في هذه المرة (10 تشرين/نوفمبر) أن يتعمد الاستفزاز، إذ أن تلك الطائرات الإسرائيلية حلّقت على علو منخفض جدا.
تتكتم المقاومة على طبيعة ذلك الرد، لكن شهود عيان تحدثوا عن مشاهداتهم غير المسبوقة في سماء منطقة النبطية. فقد إنطلقت مُسيرة، وربما اكثر، وعمدت الى ملاحقة المُسيرات الإسرائيلية التي سارعت للإنكفاء ومغادرة الاجواء اللبنانية باتجاه فلسطين المحتلة
القرار بالرد على هذا الإستفزاز قررته قيادة المقاومة، بأعلى مستوياتها، وذلك إنسجاما مع قواعد الإشتباك التي أرستها الغارة التي شنتها مُسيرتان إسرائيليتان على حي معوض في الضاحية الجنوبية، في ليل 25 آب/أغسطس 2019.
هنا، تتكتم المقاومة على طبيعة ذلك الرد، لكن شهود عيان تحدثوا عن مشاهداتهم غير المسبوقة في سماء منطقة النبطية. فقد إنطلقت مُسيرة، وربما اكثر، وعمدت الى ملاحقة المُسيرات الإسرائيلية التي سارعت للإنكفاء ومغادرة الاجواء اللبنانية باتجاه فلسطين المحتلة.
ولم تمض دقائق، حتى كانت سماء الجنوب مسرحاً للمقاتلات الحربية الاسرائيلية من طراز أف 15 وأف 16 التي دخلت ساحة المواجهة بهدف تدمير المُسيرة (او المُسيرات) التي أطلقتها المقاومة، في سماء المنطقة، في مواجهة الطائرات الإسرائيلية من دون طيار، الا ان هذه المُسيرة (أو المُسيرات) سرعان ما إختفت وبسرعة قياسية، فعمد طيران العدو الى تنفيذ غارات وهمية والتحليق على علو متوسط ومنخفض، واستمرت هذه المواجهة الفريدة من نوعها نحو ثلاث ساعات.
وكالعادة، فرضت الرقابة العسكرية الإسرائيلية رقابتها على كافة وسائل الاعلام العبرية لعدم تناول ما حصل إلى حينه.
“كان لبنان مسرحا لتحول استراتيجي كبير على صعيد الصراع بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، وهو تحول كفيل بحماية لبنان في المرحلة المقبلة، إلا إذا تهور الإسرائيلي وقرر الإخلال مجددا، بقواعد الإشتباك، وعندها يبنى على الشيء مقتضاه”
وبين 31 تشرين الاول/أكتوبر المنصرم، وتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي (احتفل حزب الله بيوم الشهيد، في اليوم التالي)، يمكن القول إن هذا الفارق الزمني حمل في طياته تطوران سيكون لهما وقعهما في سياق تكريس منظومة الردع لدى المقاومة في لبنان.
في التاريخ الاول، امتلك حزب الله، كعادته، شجاعة الاعلان عن قيام المقاومة باستهداف طائرة اسرائيلية معادية من دون طيار ومتطورة جدا، بصاروخ ارض ــ جو يستخدم للمرة الاولى بهذه العلنية، بعدما استخدم لمرة واحدة في حرب تموز/يوليو 2006 يوم اسقاط المروحية الاسرائيلية في مريمين قرب ياطر. هذا الصاروخ أخطأ هدفه بفارق بسيط، وتجاوز الطائرة صعودا لمسافة اربعة كيلومترات، الامر الذي اربك العدو، وتبين لاحقا ان هذا النوع من المُسيرات صار يحلق على ارتفاعات شاهقة خارج مدى الصاروخ المذكور.
أما في التاريخ الثاني، أي 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وهو اليوم الذي سبق احياء “حزب الله” مناسبة يوم الشهيد، وفي الحيز الجغرافي نفسه الذي حصلت فيه المواجهة الاولى، كانت سماء منطقة النبطية في ذاك الاحد اشبه بساحة حرب حقيقية.
نصرالله: المقاومة اليوم “في أوجّ قوّتها، وحضورها، وفعاّليتها، وأهميتها، كجزءٍ أيضاً من محور المقاومة في المنطقة”
وقد توجهت الانظار الى اليوم التالي، اي الاثنين (يوم الشهيد)، لعل الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يتناول ما حصل، بعدما سبق وتحدث في الاطلالة التي سبقت عن المواجهة الصاروخية قائلا إن العدو “كان يفترض أن المقاومة لن تجرؤ على إستخدام سلاح نوعي، لكنها إستخدمته”.
حتى الآن، لم يتطرق السيد نصرالله الى هذا الامر، مكتفيا باشارة تحمل كل التكهنات والاستنتاجات عندما قال في خطابه الأخير إن المقاومة اليوم “في أوجّ قوّتها، وحضورها، وفعاّليتها، وأهميتها، كجزءٍ أيضاً من محور المقاومة في المنطقة، هي تشارك، هي في موقع متقدّم، وتشارك في صنع حاضر ومستقبل لبنان وفلسطين والمنطقة”.
خلال عشرة ايام، “كان لبنان مسرحا لتحول استراتيجي كبير على صعيد الصراع بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، وهو تحول كفيل بحماية لبنان في المرحلة المقبلة، إلا إذا تهور الإسرائيلي وقرر الإخلال مجددا، بقواعد الإشتباك، وعندها يبنى على الشيء مقتضاه”.
راجع أيضا مقالة الزميل علي شهاب: ما لم يقله نصرالله وفهمته إسرائيل