كتاب”أيام مع الخميني”: رصاصة تنطلق في القرن الـ14 وتصيب القرن الـ20

Avatar18006/02/2020
أسعد حيدر هو صحافي بالفطرة. زادت الدراسة رصيده وعمقت الخبرة تجربته. إقتحم ملفات كبيرة في المنطقة. جال في عواصم كثيرة، لكن العواصم الأحب إلى قلبه هي بيروت وباريس وطهران. راكم في الملف الإيراني، قراءة وعلاقات سياسية وإجتماعية، فصار مع الوقت "خبيرا محلفا". ميزته أنه يتحرك في ثلاث دوائر في آن واحد: العربي أولا، اللبناني أولا، الإيراني أولا. تتشابك دائرة مع أخرى، لكن "لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". العبارة التي قالها له الإمام الخميني، قبيل توجهه من نوفل لوشاتو في ضاحية باريس بإتجاه طهران. يتعصب أسعد حيدر للبنانيته وعروبته وفي صلبها فلسطينيته، لكن إيران حاضرة في معظم كتاباته التي يغلب عليها الطابع النقدي. يقول شارحاً "أنا أنتقد بصفتي إيراني الهوية". هذه "الإيرانية" جعلت البعض ينظرون إليه بصفته "جاسوساً إيرانياً مزروعا عند رفيق الحريري وتيار المستقبل، بينما كان ينظر إليه الإيرانيون بتوجس بإعتباره أيضا جاسوسا حريريا. يقول أسعد حيدر إن من يجتمع ضده إتهام من هنا وإتهام من هناك إنما يسير في الطريق القويم مستنداً إلى ضميره فقط.. كسله المتأصل والمتشابك مع إحباط أكثر تأصلاً جعله يتأخر في إصدار مولوده الأول: "أيام مع الإمام الخميني وبدايات الثورة". كتاب أسعد حيدر أبصر النور عن دار الفارابي في بيروت (295 صفحة) وسيكون في متناول الجمهور مع حفل التوقيع الذي ستشهده نقابة الصحافة في بيروت الجمعة في 7 شباط/فبراير 2020، من الساعة الثالثة عصرا وحتى السادسة مساء. في ما يلي الفصل الأول من الكتاب بعنوان "اللقاء الأول".

“توجّست قلقاً، عندما قالت عاملة الهاتف: إتصال خاص من بيروت.

في ذلك الوقت، كان الاتصال الخاص، يوحي بأخبار شخصيّة سيّئة وحزينة. كانت الحروب العشوائية تتنقل بين الأحياء والشوارع. والضحايا الأبرياء يسقطون ولا يجدون أحياناً مَن يخرجهم من الشوارع، في وقت كان قبضيات الميليشيات يستعرضون أنفسهم بكل أسلحتهم. رفعت السمّاعة. قلت: نعم. ردّ المتّصل: أنا السيّد هاني فحص. سبق وان التقينا مرات، منها عند “الختيار”، أي ياسر عرفات. ارتحت نفسيّاً. أجبته: “أهلاً خير إن شاء الله”. أجابني السيّد هاني: باختصار يوجد شيخ عالم من إيران، يدعى السيّد الخميني وهو ضد الشاه. أساء له صدّام حسين وآخرون. هل لك أن تلتقيه مع بعض أصدقائك المثقّفين وتُبلغه رسالة “بأن الإساءة له محدودة. وأن المثقفين العرب الملتزمين يقفون معه ضدّ الشاه ونظامه”. قلت “سأحاول”. وأخذت منه العنوان الذي كان في ضاحية نوفل لوشاتو في باريس.

ما جعلني أتحمّس للزيارة، إيحاء السيد هاني في اتصاله أنه يهاتفني من مكتب “الختيار”، بمعنى أنه يتحرّك بموافقة ودعم عرفات. بصراحة لم أكن أعرف شيئاً عن معارضة دينيّة إيرانيّة لنظام الشاه محمد رضا بهلوي. وكان اهتمامي في تلك الفترة مركّزاً على مصر والسودان وشمال أفريقيا.

في اليوم التالي، ذهبت إلى مقر صحيفة “لوموند” في باريس، حيث كانت قد بدأت تربطني علاقة مع اريك رولو رئيس قسم الشرق الأوسط في الصحيفة وأيضاً جان غيراس الصحافي الكبير في القسم. وقد تطورت علاقتي معهما في ما بعد حتى أصبحت صداقة قوية ومتينة إلى الآن مع الصديق جان غيراس، بعد أن توفي رولو “ذاكرة الشرق الأوسط”، كما قال عنه يوماً روبرت بادنتير وزير العدل اللامع في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران. سألت الصحافيين الكبيرين وكانا في مكتب واحد عن شيخ اسمه السيّد الخميني. قالا “لا نعرفه لكن أحد مساعديه ويدعى بني صدر يحضر إلى هنا من وقت إلى آخر لينقل لنا آخر أخبار المعارضة الدينيّة التي يتزعّمها الخميني. على كلٍّ اذهب إلى الأرشيف وابحث لعلّك تجد شيئاً عنه في ثنايا أرشيف الشرق الأوسط”.

وجدت مقابلة للخميني كان قد أجراها معه مراسل “لوموند” في لبنان. أذكر أن ما لفت نظري وجعلني أهتمّ أكثر، كلامه عن الجوار العربي وعن فلسطين. التقطتُّ منها الخيط الرفيع الذي جعل السيّد هاني يهاتفني من مكتب “الختيار”.

اتّصلت بالعديد من الأصدقاء الذين كانوا يدرسون في باريس وساعدني في ذلك صديقي وابن عمّي الراحل د. نبيل سليمان. تجمّعنا وكنّا بعدد أصابع اليدين، وتوجّهنا في السيارات إلى نوفل لوشاتو التي لم أكن أعرف أين تقع، حتى السائق الذي كان يتولى قيادة “القافلة” ضاع. أخيراً وصلنا، إلى هذه الضاحية الراقية جدّاً والتي تقع على بُعد أمتار من قصر فرساي. دخلنا إلى الحديقة المحيطة بمنزل من طبقتين فإذا برجل معمَّم يستقبلنا. اعتقدنا في البداية أنَّه السيّد الخميني، فإذا به صهره الشيخ إشراقي. قلنا له بالعربية الغاية من زيارتنا. فرّحب بنا كثيراً وأضاف “السيّد يرتاح. آسف لا يمكن الآن مقابلته. هل يمكنكم الانتظار”. لم يكن ذلك ممكناً، خصوصاً وأن المسافة طويلة، وبينما كنا نوشك على المغادرة، سألته متى يمكن اللقاء به؟ أجابني: قبل صلاة الظهر.

مرّة أخرى اتّصل السيّد هاني من بيروت، ليسألني ماذا فعلت فأخبرته بما حصل معنا. قال: ممتاز، الشيخ الذي استقبلكم هو صهر السيّد الخميني وقد أخبرني ماذا حصل. تأكدت أن “السكة” مفتوحة بين مكتب “الختيار” ونوفل لوشاتو، وأن السيّد هاني هو عقدة القطع والوصل. أضاف: “تابع الاتصال. فالأمر مهم سياسيّاً ومهنيّاً لك. وستلاقي الترحيب المناسب لك في نوفل لوشاتو”.

طريق باريس، نوفل لوشاتو، أصبح يومياً مفتوحاً على خطّين. كنت أصل ظهراً. لم يكن مع السيّد الخميني، سوى خمسة أشخاص هم: ابنه السيد أحمد وحفيده حسين مصطفى والسيّد علي أكبر محتشمي والسيّد آملي وصهره الشيخ إشراقي. المدنيّون، كانوا يأتون بعد الظهر حيث كانوا يجرون الاتصالات وأبرزهم: إبراهيم يزدي، صادق قطب زاده، أبو الحسن بني صدر وأحمد سلمتيان.

كنتُ أجلس صامتاً. أراقب وأسمع أحياناً بالعربية من السيّد محتشمي والسيّد حسين مصطفى، بعض ما يجري. لم يكن الخميني ينظر أو يحدّق بأحد. دائماً نظرته حاضرة إلى بعيد على الرغم من أنه يبدو وكأنه لا يحدّق بأحد.

تكلّمت مع السيد محتشمي حول إجراء مقابلة مع السيّد الخميني. أجابني: لم يعتد السيّد التكلم مع الصحافة. انتظر قليلاً. أخبرت الأستاذ نبيل خوري (رئيس تحرير مجلة المستقبل) بإمكانية إجراء المقابلة، فتحمّس كثيراً. قائلاً طالما أنه مع فلسطين وضد إسرائيل فله الغلاف. عدت وأخبرت محتشمي فجاءني الجواب سريعاً “احضَر غداً بعد الظهر، وسنجري المقابلة”.

كان يرتدي عباءة سوداء مفتوحة، ووجهه منتفخاً وعيناه كالعادة توحيان بنظرة عميقة وقويّة تبدو وكأنها قادمة من زمن بعيد لتخترق القاعة والزمن. تقدّمتُ منه ومن دون أي قرار مسبق، أخذت يده وقبّلتها

“حيدر خوب”

في عطلة الأسبوع كما أذكر، أي في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، حضرت ومعي مصوّر “المستقبل”. في الحديقة، التقيت كالعادة بالسيد محتشمي وحسين الخميني، فطلبا ألا أُطيل المقابلة لأن الوقت قصير ولدى السيّد الخميني لقاءات كثيرة، إذ كانت الوفود من أوروبا بدأت تتوافد يوميّاً. توجّهنا إلى المنزل الثاني الذي كان يقيم فيه السيّد الخميني، وهو تحت الطريق. دخلنا المنزل الذي كان مثل منازل الريف الفرنسية. كانت ردهة الاستقبال تضم مدفأة على الحطب وسجّادة وطرّاحات على الأرض. بعد نظرة شاملة، رأيت بعض الكتب على رفّ المدفأة. وأنا أتصفح بعضها، دخل علينا السيّد الخميني، من غرفته. بدت قامته طويلة، فأنا لم أرَهُ من قبل واقفاً. كان يرتدي عباءة سوداء مفتوحة، ووجهه منتفخاً وعيناه كالعادة توحيان بنظرة عميقة وقويّة تبدو وكأنها قادمة من زمن بعيد لتخترق القاعة والزمن. تقدّمتُ منه ومن دون أي قرار مسبق، أخذت يده وقبّلتها. قال لي تفضلوا. فجلسنا على الطراحات.

ببساطة قال الخميني لي: إسمكم. أجبته: أسعد حيدر. أجابني: حيدر خوب (أي طيب أو جيد). قلت نعم مستغرباً هذا التشديد ثم انتبهت إلى أنه يقصد بأن حيدر هو اسم الإمام عليّ بن أبي طالب. سألني: من أين أنتم؟ قلت: من لبنان – بعلبك. قال بعلبك بترحيب شديد مكمّلاً “خوب”. قال: أنت جعفريّ اثني عشري. أجبته: شيعي. أجاب “خوب” ثم حدّق بي لأوّل مرة قائلاً: يا بني كيف تقبّل يدي ولا تصلّي خلفي؟

بسرعة ومن دون تردّد أجبته: إنني أقبّل في يدكم إرادة الشعب الإيراني. قال: حسناً سنردّ على أسئلتكم بالفارسية. كنت أسأل ويجيب ويُترجم محتشمي أو حسين الخميني باختصار. انتهت المقابلة. في الحديقة قال لي محتشمي وحسين الخميني: سنرسل الترجمة بالفاكس. كانت المهمات قد بدأت تتزايد. حتى إذا جاء ليل الأربعاء ولم تصل الترجمة. قال لي نبيل خوري: “خذ منهم العنوان” على الأقل حتى تنجز الغلاف. اتّصلت في الليل بالمنزل أخيراً ردّ عليّ صادق قطب زاده: قلت له أحتاج الليلة عنواناً لمقابلة السيّد الخميني. فأجابني: خابرني بعد قليل. اتّصلت بعد قليل أجابني صادق من دون تردّد، العنوان: “جمهورية إسلامية ديموقراطية”. وهكذا كان.

السبت، حملت عدّة نسخ من المجلة وعلى غلافها السيّد الخميني. وتوجّهت إلى نوفل لوشاتو. توقّعت أن ألقى استقبالاً مميّزاً. فوجئت بوجه محتشمي مكفهرّاً. قلت عجباً. هذا عدد “المستقبل” كما وعدتك. قال: “أنت وفيت بنصف التزامك”. قلت كيف؟ قال محتشمي: من أين جئت بعنوان الجمهورية الإسلامية الديموقراطية؟ أجبته: صادق قطب زاده هو الذي قاله لي على الهاتف. حدَّق بي بقوة وقال: متأكد أنه كان صادق؟ أجبته: إسأله.

قال محتشمي: من أين جئت بعنوان الجمهورية الإسلامية الديموقراطية؟ أجبته: صادق قطب زاده هو الذي قاله لي على الهاتف. حدَّق بي بقوة وقال: متأكد أنه كان صادق؟ أجبته: إسأله

قومي عربي متعصب

لم أذهب كما اعتدت يوميّاً. في اليوم الثالث لانقطاعي عن الزيارة، هاتفني محتشمي قائلاً: “لا تغضب إنها مسألة داخلية، تعال اليوم”. في حديقة المنزل جلستُ كالعادة ليس بعيداً عن السيّد الخميني. كان عدد الزائرين خصوصاً من الشباب الطلاب قد أخذ يتزايد. أذكر أن الخميني حدّق بي قليلاً ثمّ استعاد نظرته التي تحدّق باللامكان. بعد الصلاة ووقفت بعيداً. وأنا أستعدّ للمغادرة اقترب مني محتشمي وحسين الخميني وقالا لي: تدري ماذا يقول عنك السيّد؟ قلت: كلا. قالا: “يقول إنك قومي عربي يساري متعصّب وأنك صادق”. للواقع والحقيقة إنني تعجّبت جدّاً كيف التقط انتمائي وهو كان كذلك في تلك المرحلة. وللواقع لم أقدّر أهميّة موقع تعريفه بأنني “صادق” إلّا بعد الثورة عندما كنت أزور طهران. كان ذلك، مفتاح الترحيب بي في جميع المراكز والمواقع وكأنها قد مرّرت مثل كلمة السرّ.

كان هواء تشرين البارد والمطر الخفيف قد تسلّلا إلى نوفل لوشاتو كما كلّ فرنسا. والأهم، أن الإيرانيين أخذوا يتقاطرون وفوداً وفوداً. ويشكّلون حلقات حلقات، حتى إذا ظهر السيّد كبّروا عالياً وكانت المرة الأولى التي أسمعه وبعد التكبير تتوالى الهتافات بالفارسية، بسرعة جرى بناء خيمة كبيرة على مساحة الحديقة، وسريعاً أخذت تمتلئ خصوصاً عند صلاة الظهر.

لم أعد أستطيع الجلوس حيث الإمام، لكني بقيت على تواصل مع السيّدين محتشمي وحسين الخميني، أتلقط الأخبار والتطورات منهما. ثم جاء شيخ مختلف عن العديد من القادمين، سرعان ما تعارفنا وتوثّقت العلاقات بيننا حتى أنه زار مكاتب “المستقبل” والتقى بالأستاذ نبيل خوري، وقد عرّف عن نفسه باسم محمد مهدي. لاحظت اهتمام محتشمي وحسين الخميني وآخرين به، على الرغم من أن مظهره وحركته لم تكن تدلان على أهميته.

كان يصل العديد من الأشخاص ويدخلون للقاء الإمام الخميني أو مساعدَيه من الخلف. شاءت الصدف وأنا أقف وأراقب ما يحصل أن وقع نظري على شخصية أعرفها جيّداً. لقد دخل بسرعة ولم يقترب منه أحد. تأكدتُ وهو خارج أنّه الحاج أحمد شحاته “خال” العقيد معمّر القذافي. فوجئت بالزيارة، الحدث، ولكن كما يقال بلعتُ لساني ولذت بالصمت. ما جعلني أصمم على هذا الموقف، أنني تعرّضت لأسئلة مكثفة من الصحافيين الأجانب خصوصاً الفرنسيين منهم حول هويّة الشخصية العربية التي جاءت والتقَت الخميني برغم أن أحداً لم يرَ اللقاء. لا شك أن محتشمي لاحظ أو أدرك معرفتي بالحاج أحمد شحاته الذي كنت رافقته يوم ذهب موفداً إلى الولايات المتحدة الأميركية للقاء مسؤولي شركات النفط الكبرى خصوصاً في كاليفورنيا، لكنه لاذ بالصمت. بعد أيام قليلة قال لي محتشمي، “لا تغادر مساء نحن نوصلك إلى فرساي أو باريس”. لم أسأله لماذا وهو لم يقل لي شيئاً. في المساء دعاني محتشمي للصعود إلى غرفة الإمام الخميني في الطبقة الأولى من بيت الضيافة.

صعدت، كان الإمام الخميني جالساً ومعه صهره الشيخ إشراقي ومحتشمي وحسين واملائي وربما السيد أحمد الخميني. وُضعت أمام الخميني قطعة قماش كبيرة، ثم بدأت الوفود بالدخول.

“باغيت” وبيض مسلوق

كانوا يتقدمون من الخميني يقبّلون يده، يطرحون عليه سؤالاً ويردّ كعادته باختصار شديد من دون أن ينظر أو يحدّق بأحدهم ثم يُخرج الجميع الأموال ويضعونها على القماشة ويغادرون بكثير من مظاهر التقدير والاحترام. بعد ساعة كاملة، كانت الأموال قد تراكمت من جميع أنواع العملات، تقدّم محتشمي والسيّد إملائي فعقدا القماشة وخرجا بها. ثم أشارا عليَّ بأن أبقى على العشاء. وكان عبارة عن “خبز باغيت وبيض مسلوق وجبنة بيضاء”. بسرعة انتهت الجلسة. في الطريق إلى نوفل لوشاتو، بدأتُ بتفكيك رموز الجلسة وتوصّلت إلى رأي غير نهائي أن ما جرى كان رسالة واضحة بأن الخميني ليس بحاجة إلى مال القذافي (علمت في ما بعد أن الحاج أحمد جاء عارضاً مساعدة العقيد القذافي المالية وأن الإمام أجابه: “اشكر لي العقيد القذافي والحمدلله نحن نملك ما نحتاجه”. أيضاً علمتُ في ما بعد أن الرئيس الجزائري هواري بومديِن أوفد أحد مبعوثيه قائلاً للإمام الخميني “إن الجزائر بلد المليون شهيد مشرّعة أمامكم”. وأجابه الإمام: “اشكر لي رئيس بلد المليون شهيد فنحن سنعود من هنا إلى طهران إن شاء الله”.

بومديِن أوفد أحد مبعوثيه قائلاً للخميني “إن الجزائر بلد المليون شهيد مشرّعة أمامكم”. وأجابه الإمام: “اشكر لي رئيس بلد المليون شهيد فنحن سنعود من هنا إلى طهران إن شاء الله

في تلك الفترة وكان قد شاع خبر ذهابي إلى نوفل لوشاتو، اتّصل بي من لندن الزميل الأستاذ فؤاد مطر الكاتب في مجلة “المستقبل” وكان معروفاً بعلاقته الوثيقة من أيام “النهار” بالأستاذ محمد حسنين هيكل. قال لي “الأستاذ (هيكل) يريد مقابلة الإمام الخميني ولكن لم أتمكن من أخذ موعد معه. يمكنك ذلك لأنني علمت من الأستاذ نبيل بعمق علاقتك معه ومع مساعدَيه”. قلت أحاول. سألت محتشمي وحسين الخميني عن موعد لهيكل مع الإمام، فقالا لي: لقد سبق وجرى اتصال ولكن كما تعرف، لم يعد الإمام يقابل صحافيين. قلت أعلم ولكن الأستاذ هيكل ليس صحافيّاً إنه صديق جمال عبد الناصر وسياسي معروف في مصر والعالم العربي. قالا: سنحاول. في اليوم التالي قالا لي: غداً بعد الظهر، المقابلة لمدة نصف ساعة. جاء هيكل ومعه فؤاد مطر. دخلنا إلى منزل الإمام تحت الطريق العام. جلس الإمام وجلسنا على الأرض كما جرت العادة. استمرّ اللقاء ساعة وثلث.

إقرأ على موقع 180  حرب البقاء بين الجنرالين.. تقسيم السودان مجدداً؟  

“يعيش عبد الناصر”

انتهى اللقاء ووقف الإمام ووقفنا. خرجنا من الباب باتجاه الحديقة فإذا بتجمّع قد احتشد بينهم صادق قطب زاده وشيخ قيل إنه قادم من طهران، ولم نعرف آنذاك أنه آية الله حسين منتظري. وقال أحدهم: هذا هيكل صديق جمال عبد الناصر. فعلا الهتاف وبعفوية “يعيش جمال عبد الناصر”. بدا اللقاء معقداً وانتهى بحرارة استبشر هيكل ونحن بمستقبل زاهر ومضيء للعلاقة الشعبية العربية – الإيرانية. في السيارة سألت هيكل رأيه بالإمام واللقاء. فقال لي: ما زال الوقت مبكراً للحديث عن اللقاء ودلالاته ولكن اعتقد من كلامه بعد أن قال لي “سنقاتل حتى يغرف السيف في الدم”، انه رصاصة انطلقت في القرن الرابع عشر ميلادي باتجاه القرن العشرين.

هيكل عن الخميني: رصاصة انطلقت في القرن الرابع عشر ميلادي باتجاه القرن العشرين

بعد لقاء محمد حسنين هيكل، طلب مني فؤاد مطر ترتيب لقاء للزعيم السوداني الصادق المهدي مع السيّد الخميني. فجاءت الموافقة بسرعة. لكن للأمانة لم يمر الود بين الخميني والصادق المهدي. لذا لم يدم اللقاء أكثر من نصف ساعة ولم تتم ترجمة الحديث. تعليق وحيد سمعته في ما بعد أن الصادق المهدي تصرف بعنجهية لم يتحملها الخميني ورفضها.

أيضاً لا أذكر لماذا دعاني حسين الخميني للصعود إلى عند جده في المنزل بعد العصر، جلست وقد أصبحت أعرف العادات والتقاليد في السلام والانتظار. بعد ساعة أو أقل، أومأ لي الخميني بأن أقترب منه فاقتربت قائلاً: “السلام عليكم”، فردّ “وعليكم السلام”. أدركت أنه يريد أن أطرح عليه سؤالاً فقلت: “سماحتك. ماذا ستفعلون عندما تعودون إلى إيران لمساعدة العرب على التغيير في بلادهم للنهوض على طريق تحرير فلسطين”؟

أجاب كعادته بهدوء وكأنه خارج من قعر بئر عميق: “لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”. فهمت الرسالة بأن التغيير يجب أن يكون من الداخل أولاً.

تصدير الثورة

لم يكن الحديث قد تناول بأي صورة مسألة “تصدير الثورة” ربما انتصار الثورة وطرد الشاه وعودة الخميني إماماً إلى طهران قد أثّر كثيراً، ذلك أن طهران من فوق غير طهران من تحت، والتظاهرات المليونية الهادرة في شوارعها الطويلة وساحاتها الواسعة أحدثت زلزالاً نفسياً لدى الامام الخميني والمحيطين به بأن كل شيء ممكن مع هذه الجماهير الهادرة بصدق وعفوية وإرادة مصممة على التغيير. لذلك تحدّث أكثر مَن عرَفَ الخميني منذ كان في النجف وهو السيّد هاني فحص، أنه يجب النظر إلى الإمام الخميني في حالاته الثلاث: النجف ونوفل لوشاتو وطهران. ولكل حالة خصوصيّتها.

مرة أخرى دعيت إلى الغرفة في منزل الضيافة وكات تلك الجلسة الأخيرة، لأنه بعدها لم يعد من مجال للاقتراب من السيّد الخميني والركوع أو الجلوس إلى جانبه. كان السيد محتشمي حاضراً مع آخرين. التقطت من الحديث كلمة خليج فارسي. بادرت واقتحمت الحوار بعد أن طلبت الإذن. وجهت كلامي مباشرة إلى السيّد الخميني وقلت “سمعتك تقول الخليج الفارسي. ونحن نقول الخليج العربي، فهل سنبقي مثل هذه التسمية نقطة خلاف أو كما نقول بالعربية مسمار جحا يعلّق عليها الذين لا يريدون الوفاق العربي – الايراني ما يلزمهم لبذر الفرقة”؟

اخترق سؤالي الهجومي الهدوء. نظر إليّ الإمام الخميني هذه المرة كما أذكر نظرة هادئة وبها شيء من الود وقال: “لا يجب أن نبقي هذا الخلاف حول التسمية برغم تاريخية فارسية الخليج، مركزاً لخلاف أكبر. الحل أن نسميه الخليج الإسلامي”.

شكرته وخرجت وكأنني حققت حلاً سياسياً كبيراً لمشكلة قديمة معقدة أمام الفرس والعرب على السواء. بعد سنوات وأنا أجري حواراً مع السيد محتشمي وكان وقتها وزيراً الداخلية اختلفنا حول تسمية الخليج بعد أن قلت الخليج العربي وهو قال أبداً انه الخليج الفارسي. ذكرته بالحل الذي قاله الإمام الخميني وهو الخليج الإسلامي.

حلّ الشتاء في فرنسا. لم يعد من السهل الانتقال يومياً إلى نوفل لوشاتو، كما أن الايرانيين أصبحوا بالمئات الذين ضاقت بهم الخيمة المنصوبة في الحديقة. إلى جانب ذلك، تزايدت المهمات على مساعدي الإمام، فلم يعد من السهل تمضية الوقت معهم. علمت من الشيخ محمد منتظري وكانت العلاقة قد توثّقت بيننا، وزارنا في المستقبل والتقى الأستاذ نبيل خوري، أنه خبأ آلة تسجيل في جيبه حيث سجل الحوار الذي دار بيننا وسألته بعد ذلك “لماذا فعلت ذلك”؟ أجابني ببراءة ظاهرة: “العالم خطوط ولا نعرف ماذا يدور وماذا يخططون. على كل حال الحديث يؤكد أن ما سمعته عن نبيل خوري فيه مبالغات كثيرة. أهم ما فيه أنه فلسطيني في كل مواقفه.. الباقي تفاصيل”.

قبل الزيارة، حدثت واقعة رسّخت علاقتي بالشيخ محمد منتظري وذلك حتى مقتله في مقر “الحزب الاسلامي” الذي أدى التفجير الذي دفع فيه إلى مقتل 72 من القيادات وعلى رأسها آية الله محمد بهشتي. جاءني محمد منتظري في حديقة منزل الامام الخميني قائلاً: ما رأيك أن نلتقي شيخاً مهماً ونجري معه مقابلة؟ قلت له أنا مستعد للتعرف على الشيخ الذي تقول انه جيد لكن لا أضمن لك بأن تنشر “المستقبل” الحديث.

أعطاني الشيخ محمد منتظري عنوان الشيخ الذي لم يقل لي سوى اسمه الأول. وكان المنزل يقع في محيط المدينة الجامعية بباريس. دخلت المنزل الباريسي وكان في استقبالي سيّداً معمّماً عرّف عن نفسه بالعربية مهدي مهدي.

دخلنا إلى غرفة جانبية. كان الشيخ جالساً في زاوية الغرفة على الأرض وقد اعتدت هذه الجلسات. تذكرت وجهه الذي كنت قد رأيته بعد خروج محمد حسنين هيكل من حضرة الإمام الخميني، لكن للأمانة لم يخطر في ذهني أنني في حضرة آية الله حسين منتظري.

تعارفنا، وكالعادة في كل اللقاءات كنت دائماً موضع استجواب طويل عن لبنان وفلسطين والمنطقة لمدة طالت هذه المرة لأكثر من ساعة وكأنَّ الشيخ منتظري كان يريد “قراءة” كتاب المنطقة وأحداثها بسرعة غير عادية. بعد ذلك طرحت عليه بعض الأسئلة وخرجت مودعاً. وكما توقعت لم أجد لها مكاناً في “المستقبل” فأرسلتها إلى “السفير” التي نشرتها في الصفحة الأولى وقد أثارت يومها نقاشاً مستفيضاً لأن الشيخ منتظري قال فيها “أنا مع أبي ذر الغفاري النار والماء والكلأ لكل الناس”، فترجمت سياسياً بأن الثورة (الإيرانية) اشتراكية المنحى والالتزام.

منتظري شيخ إستثنائي

بعد نشر المقابلة، التقيت بالشيخ محمد منتظري في نوفل لوشاتو. احتضنني بقوة وبعفوية حقيقية وبادرني. كيف وجدت الشيخ؟ قلت له بصدق: “إنه استثنائي بين الشيوخ الذين قابلتهم فهو صاف وعميق ومحب للعرب ويريد قطعاً علاقات ايرانية – عربية قوية”. قال: انطباعك جيد وواقعي. لكن أتعرف من هو هذا الشيخ: “قلت قطعاً يبدو مهماً لكن لم أعرف من هو”. أجابني الشيخ محمد: “إنه والدي آية الله حسين منتظري”. وسألته متعجباً لماذا لم تقل لي أنه والدك. أجابني لو قلت لك لذهبت إكراماً لي، وأجبتني عن رأيك به لأجبتني بما يريحني ولكن لا يفرحني. الآن ما قلته كنت صادقاً فيه وأنا أحب فيك ذلك.

ولا شك أن تعميق العلاقة بيننا ترسخ بعد هذا الحوار. ومن مظاهره محافظة الشيخ محمد منتظري على وده وبساطته بعد انتصار الثورة فلم يغير تعامله معي بعكس الكثيرين ممّن التقيتهم بعد أن أصبحوا أعضاء في السلطة. وهذا كما أعتقد طبيعي لأن التعامل يختلف جداً بين الثوري والطموح لصعود سلم السلطة.

خلال لقاءاتي مع الشيخ محمد منتظري في نوفل لوشاتو والتي أصبحت قليلة تبعاً لتخفيف عدد زياراتي، قال لي مرة وكنت أسعى للقاء صادق قطب زاده: وابراهيم يزدي: “لا تتعب نفسك كثيراً. ليسوا مهمين سوى هنا. المهم بينهم هو ذلك المدني الواقف دائماً في المنزل الثاني. انتبه له.. إنه أبو الحسن بني صدر”. وبالفعل طلبت من أحد المصوّرين تصويره من بعيد وقد أصبحت الصورة التي عرفت بني صدر بالعالم في ما بعد.

اقترب موعد سفر الإمام الخميني إلى طهران، وبدأ تسجيل الأسماء المستعدين لمرافقته وكان يدور الحديث عن الخوف من اسقاط طائرة الإمام. لكن بعد أن قامت شركة Air France بتأمين الطائرة حصل نوع من الاطمئنان لدى المسجلين أسماءهم. لم أكن بحاجة لتسجيل اسمي، فقد اعتبر الجميع من المحيطين بالإمام أنه من الطبيعي أن أكون بين المجموعة الأولى. لكن شاء الحظ أن أصاب بنوبة ملاريا قاسية كنت قد التقطتها قبل عام في أريتيريا، فبقيت أسير المستشفى وطمأنني محتشمي ومنتظري أنّنا سنلتقي لاحقاً في طهران وهذا ما حدث”.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  يا حسرتي.. إنها "متلازمة ستوكهولم" اللبنانيّة!