– اوليفر ستون: اعتقد ان الكثيرين في الغرب لا يعرفون عنك الكثير. نود التعرف إلى حياتك ونشأتك. أعرف أنك من مواليد شهر تشرين الاول/ أكتوبر عام 1952، وأن والدتك بعد الحرب العالمية الثانية كانت تعمل في مصنع. أعرف أنّ والدك قاتل في فترة الحرب، ولكن ليس معروفاً بالنسبة إليّ ماذا كان عمله بعد تلك الفترة، أي فترة ما بعد الحرب. أعرف أيضاً انكم في مرحلة الطفولة سكنتم في شقة مشتركة مع عائلات اخرى.
فلاديمر بوتين: والدتي لم تكن تعمل في مصنع محدد، بل في عدة اعمال. كوني كنت الطفل الذي جاء متأخرا – قبل ذلك فقدت الأسرة طفلين احدهم في فترة الحرب خلال حصار مدينة لينينغراد – ولأنهما (الأب والأم) لم يودّا إرسالي إلى المدرسة الداخلية، قررت أمّي أن تعمل بدوام ليلي.
– اوليفر: لأنها لم تكن تريد ان تتركك بمفردك؟
بوتين: نعم، وكان أبي يعمل في أحد المصانع.
– اوليفر: ماذا كان يعمل بالتحديد؟
بوتين: كان ميكانيكياً. حصل على تعليم تقني متوسط، وعمل في هذا الاختصاص، أي ميكانيكياً.
– اوليفر: هل كان يعمل بشكل دائم.. أي هل كان عمله مؤقتاً، أم على أسس دائمة؟
بوتين: على أسس دائمة. هو بشكل عام كان يعمل كثيراً. وعندما بلغ سن التقاعد، بقي يعمل في كل الاحوال. لم يكن باستطاعته ان يترك العمل أو يتقاعد.
– اوليفر: هل أصيب خلال مشاركته في الحرب؟
بوتين: نعم. لقد حارب ضمن الوحدات الخاصة، وهي مجموعات استطلاع استخباراتية ليست كبيرة، وكان عملها يقتصر على الاقتراب من العدو، والعمل على اختراق قواته، والقيام بمهمات مختلفة. كانت المجموعة مؤلفة من ثمانية افراد بقي منهم خمسة أشخاص على قيد الحياة. هو من اخبرني بذلك. ولكن عندما أصبحت رئيساً، جُلبت إليّ من أرشيف وزارة الدفاع أدلة تثبت ذلك. بعدها تم إرساله الى التشكيلات العسكرية النظامية، حيث خدم في الجبهة الامامية، في واحدة من أخطر القطاعات العسكرية في مدينة لينينغراد. احتدمت المعارك على ضفة نهر النيفا، حيث تمكنت القوات العسكرية السوفياتية من التقدم والسيطرة على مسافة تترواح من اثنين الى اربعة كيلومترات.
– اوليفر: أخوك الاكبر مات بعد عدة ايام كما اعتقد، أو بعد عدة أشهر، على ولادتك؟
بوتين: كلا، لقد مات اثناء حصار مدينة لينينغراد، ولم يتجاوز عمره الثلاث سنوات. أثناء محاولة انقاذ الأطفال، ونقلهم مع عائلاتهم، بغرض انقاذ حياتهم، أصيب بمرض ومات. لم يتم إخبار أهلي أين تم دفنه. ولكن منذ فترة، أعرب بعض الناس عن اهتمامهم بهذا الموضوع، حيث لجأوا إلى الأرشيف، وبحثوا في الوثائق، مدققين في اسم العائلة واسم الاب، وحددوا من أين جاء هذا الطفل الى مؤسسات رعاية الاطفال، وما كانت ملابسات موته ومكان دفنه. في العام الماضي، وللمرة الاولى، زرت المكان الذي دفن فيه. انها المقبرة التذكارية في سانت بطرسبورغ.
– اوليفر: بالرغم من ضياع الوقت في الحرب العالمية الثانية، بقي هناك أمل. لم يفقد والدك ووالدتك الأمل، ولم تكسرهم المأساة. الطفل الثالث كان واضحاً أنه بارقة أمل جديد.
بوتين: كلا، كلا.. لم ينكسروا. الحرب انتهت في العام 1945، وانا أبصرت النور في العام 1952. كان الوقت صعباً جداً للعائلات التي تلد في فترة الاتحاد السوفياتي. ولكن برغم ذلك قررا ان يكون لديهما طفل.
– اوليفر: قل لي، سمعت أن بعض الامور لم تكن سوية بالنسبة إليك في مرحلة الطفولة. وما اعرفه أنه لم يكن لديك أي توجه معين، الى ان بدأت تمارس رياضة الجودو في سن الثانية عشرة.
بوتين: نعم، كما تعرفون، في كل الاحوال، أن والديَّ كانا يحاولان دائماً تأمين احتياجاتي، ومنحي ما أمكن من الوقت، ولكنني كنت أعيش بنظام حر. أمضيت أوقاتاً كثيرة في الشارع، ولكنني كنت بلا شك نظامياً. مختصر القول، عندما بدأت أمارس الرياضة بشكل منتظم، رياضة الجودو، اصبحت اكثر تنظيماً وتغيرت حياتي نحو الافضل.
– اوليفر: سمعت أيضاً أنّ جدك لأمّك كان يعمل طباخاً لدى لينين وستالين؟
بوتين: نعم. هذا صحيح. حتى اندلاع الثورة في العام 1917، عمل طباخاً في احد المطاعم، ولكني لا أعرف كيف تمكن من العمل في البيت الريفي عند لينين. ومن المؤكد انه عمل في ضواحي المدينة حيث عاش ستالين وعمل عنده. كان شخصاً بسيطاً وطباخاً ماهراً.
– اوليفر: هل حدّثك أو قال لك شيئاً عن الموضوع؟
بوتين: كلا، لم يقل لي شيئأً عن الموضوع على الإطلاق. في الواقع، كنا نعيش في لينينغراد، ولكن في فترة الصيف، ولسنوات عديدة، كنا نأتي لزيارة جدي في موسكو، وكان قد تقاعد حينها، وعاش في المكان الذي كان يعمل فيه، أي في أحد البيوت الريفية التابعة للدولة. وقد روى لي والدي كيف كان يأتي لزيارته، وكان ستالين حياً في تلك الفترة، وقد سُمح له ذات يوم برؤيته خلال فترة المشي، ولكن عن بعد. هذا كل ما أعرفه عن تلك الحقبة.
– اوليفر: يبدو ان ثمة أشياء مشتركة بيننا. أمي فرنسية، ووالد أبي حارب الى جانب الفرنسيين في الحرب العالمية الاولى، وكان طباخاً، وروى لي الكثير عن الحرب، وكيف كان الوضع صعباً آنذاك.
بوتين: نعم، لقد روت لي امي الكثير، نقلاً عن والدها، عن مصاعب الحرب العالمية الاولى. هو نفسه شارك في تلك الحرب. روى جدي، بعد عودته من الحرب، عن بعض اللحظات الانسانية فيها، ولا سيما قصته مع أحد الجنود الاستراليين. كان جدّي أول من تمكنوا من اختراق الجبهة الجنوبية المحاصرة، وسقط أمامه هذا الجندي. اقترب منه جدّي، فوجد أنه لا يزال حياً، ولكنه كان ينزف كثيراً. فتح جدي حقيبة الاسعافات وضمد جراحه. هذا شيء مفرح ولطيف. كان يردد أمام أقاربه: “كان بإمكاني ان أطلق النار لو رأيته يستهدفني”، وكان يعلق على الحادثة بالقول “نحن في كل الاحوال أناس متشابهون، ومن نفس الطينة.. عمال بسطاء”.
– اوليفر: الحرب في فرنسا كانت ايضاً دموية، تماماً كما كانت الحال في روسيا. في فترة الحرب العالمية الاولى نصف الشباب او متوسطي العمر من سن 17 الى 35 عاماً، إما ماتوا او اصيبوا بجروح أو تشوهات.
بوتين: نعم، هذا صحيح.
– اوليفر: بعدما نلت الشهادة المتوسطة، بحسب ما علمت، انتسبت الى كلية الحقوق.. هل هذا طبيعي في النظام التعليمي الروسي؟
بوتين: تماماً. انهيت دراستي في لينينغراد، وكذلك التعليم المتوسط، وبعد ذلك مباشرة انتسبت الى كلية الحقوق في جامعة لينينغراد.
– اوليفر: انهيت الدراسة في العام 1975 وتعرفت إلى زوجتك الاولى.. أقصد زوجتك الاخيرة، والوحيدة؟
بوتين: حصل ذلك في ما بعد.. بعد سبع سنوات.
– اوليفر: في العام 1975 ذهبت للعمل في الـ”كي جي بي” في لينينغراد.
بوتين: نعم. تمت الموافقة على ذلك. في نظام التعليم العالي السوفياتي كان يوجد ما يسمى نظام التوزيع. بعد الانتهاء من الدراسات العليا، يجب الذهاب للعمل حيث يتم ارسالك.
– اوليفر: لم يكن لديك الخيار؟
بوتين: سأقول لك. لقد تم ارسالي فوراً بحسب التوزيع. كنت مجبراً على أن اذهب للعمل هناك. وانا كنت اريد ذلك. واكثر من ذلك، فقد انتسبت الى كلية الحقوق تحديداً لأنني أريد العمل في جهاز “كي جي بي”. في فترة الدراسة في لينينغراد، ذهبت الى قسم الاستخبارات بنفسي، وسألت “ماذا عليَّ أن أفعل للعمل ضمن الجهاز؟”، وهنا أجابني أحد العاملين بأنه “يجب عليّ ان أحصل على شهادة التعليم العالي والافضل من كلية الحقوق”، ولهذا ذهبت الى تلك الكلية.
– اوليفر: مفهوم..
بوتين: لكن منذ تلك اللحظة لم يتذكرني أحد هناك، ولم تكن لدي أية اتصالات مع الجهاز. وعندما حان وقت التوزيع، ومن دون سابق انذار، وبعد عدة أشهر (من التخرج)، جاء العاملون في الجهاز وعرضوا عليَّ العمل.
– أوليفر: هل تماهيت مع الافلام السوفياتية حول عمل الـ”كي جي بي” وقررت العمل في صفوفه؟
بوتين : من المؤكد. نعم، هكذا بالضبط.
– اوليفر: هؤلاء الممثلون، أمثال تيخينوف وججينوف، هم الذين لعبوا الدور الاساس..
بوتين: الكتب، الافلام، بالتأكيد.
– اوليفر: عملت في دريزدين (المانيا) بين عامي 1985 و1990، ولكن في السنوات العشر الأوائل عملت بشكل أساسي في لينينغراد؟
بوتين: في لينينغراد، وفي موسكو.. في مدارس خاصة.
– اوليفر: خلال الخدمة، هل تطورت وأظهرت نجاحاً؟
بوتين: بشكل عام، نعم.
– اوليفر: المانيا الشرقية منذ العام 1985 حتى 1990 تولّد لديك ما يكفي من الاحاسيس الحزينة..
بوتين: ليس بمعنى الحزن. في ذلك الوقت، بدأت عملية تتعلق بما سمي اعادة البناء او البريسترويكا. اليوم بات واضحاً ماذا كانت النتائج. لا نريد التحدث عن هذا الموضوع. كانت هناك الكثير من المشاكل في تلك العملية. عندما وصلت الى المانيا الشرقية كان جلياً أنه ليس هناك ما يوحي بالروح والحياة الفعلية.
– اوليفر: بالضبط هذا ما عنيته.
بوتين: كانت هناك احاسيس توحي وكأنّ المجتمع قد تجمد.. وكأنك في الخمسينيات.
– اوليفر: كانت هذه حقبة غورباتشوف – لم تكن على معرفة به. أقصد لم يكن لديك احساس بالمتغيرات التي تحصل وانت لست في موسكو. هل عدتم الى موسكو؟ هل شعرت بالبريسترويكا؟
بوتين: كان الأمر مفهوماً.. بالنسبة إلى غورباتشوف، وكل الذين كانوا يحيطون به، كان معروفاً أن البلاد تأمل في التغيير. لكنني اليوم اقول وبثقة كبيرة انهم لم يفهموا اي تغيير كان المقصود، وكيفية الوصول الى ذلك.
– اولفر: تحديداً؟
بوتين: الكثير مما تم فعله كبّد البلاد خسائر فادحة. على الأقل هم اعتقدوا، وبثقة كبيرة، وبشكل صحيح، أنه لا بد من التغيير، ولكن المسألة كانت في كيفية تحقيق ذلك.
– اوليفر: يبدو لي احياناً أن غورباتشوف – كان لي اكثر من لقاء معه وجاء الينا في الولايات المتحدة الاميركية والتقيت به هنا – يشبهك، بمعنى انه هو ايضاً عمل في هذا النظام. هو كان اختصاصياً في القطاع الزراعي، وقرأ الوثائق، وعمل كثيراً، واذا اردنا محاكمته من خلال مذكراته، فهو ادرك مبكراً ان هناك الكثير من المتاعب والمتسلطين الذين لا يسمحون للاقتصاد بأن يعمل.
بوتين: كثرٌ يتشابهون ويتقاسمون أية أشياء مشتركة لأننا بشر.
– اوليفر: طبعاً، ولكن ما أودّ قوله انه كان عاملاً، وقال اشياء محددة، وطرح مسائل عدة حول كيفية التغيير؟
بوتين: أنا ايضاً كنت عاملاَ. ومن وجهة نظري، ومن وجهة نظر الذين عايشوا الكثير من القادة السوفيات، بمن فيهم غورباتشوف، يمكن القول إنهم لم يعرفوا ماذا يريدون، أو لم يعرفوا كيفية الوصول الى ما هو ضروري..
– اوليفر: حسناً، في آب/ أغسطس عام 1991 حصل الانقلاب. وانتم قدمتم استقالتكم في اليوم الثاني بعد هذا الحدث – انقلاب قادة الحزب الشيوعي.
بوتين: كانت هناك محاولة انقلاب في الحكم. لا اذكر ماذا حدث في ذلك اليوم، ولا في اليوم الثاني، ولكن في اليوم الثالث قدمت فعلاً استقالتي، لأنني عندما عدتُ من المانيا، عملتُ لبعض الوقت في الجامعة، وكنت لا أزال في نطاق عملي في جهاز الاستخبارات الخارجي السوفياتي. ولهذا السبب دعاني عمدة سانت بطرسبورغ السابق، السيد سابتشاك، للعمل معه. كانت محادثاتنا ودية على اعتبار انني في فترة من الفترات درست لديه، وقد وجه لي الدعوة للعمل كمساعد في مكتبه.
– اوليفر: لكن هذا حدث لاحقاً. لماذا قدمتم استقالتكم؟
بوتين: سأخبرك الآن. أولاً، عندما دعاني (سابتشاك) الى العمل معه، قلت أنّ هذا الأمر مهم بالنسبة إليّ، لكنني وجدت انه لا يصح ان أفعل ذلك لأنني كنت لا أزال اعمل في جهاز الاستخبارات الخارجية، وكان هو في ذلك الوقت شخصية لامعة، وعرف بكونه رجلاً ديموقراطياً وسياسياً من الموجة الجديدة. قلت له بشكل مباشر إنه اذا عرف أحد عن عملي في جهار الاستخبارت فهذا سيسيء اليه ويعرّيه. في ذلك الوقت كانت البلاد تشهد صراعات سياسية حادة . كان رد السيد سابتشاك مُثيراً، إذ قال لي “اريد ان ابصق!”. هكذا عملتُ لديه مستشاراً لفترة قصيرة، وفي ما بعد، عندما حصلت محاولة الانقلاب، وأنا في الوضع الذي كنت فيه، بدا لي أن ثمة ازدواجية في العمل، ولذلك لم استطع البقاء.
– اوليفر: كان ذلك في آب/ اغسطس 1991..
بوتين: نعم، على خلفية محاولة الانقلاب لم استطع البقاء ضمن صفوف “كي جي بي” كمساعد مستقبلي لعمدة مدينة سانت بطرسبورغ المنتخب ديموقراطياً، وقدمت تقريراً في ذلك. اتصل سابتشاك وقتئذٍ بمسؤول الـ”كي جي بي” في الاتحاد السوفياتي وطلب منه اعفائي من العمل في الجهاز، وبالفعل تمت الموافقة، وخلال بضعة ايام جاء القرار باعفائي من مهامي.
– اوليفر: هل بقيت مؤمناً بالشيوعية؟ هل بقيت تثق في النظام؟
بوتين : بالطبع لا. في البداية كنت أصدّق كثيراً هذه الفكرة، وهي بحد ذاتها جميلة، وقد آمنت بها، وحاولت أن اعمل كل شيء حتى تتحقق.
اوليفر: متى تغيرت معتقداتك؟
بوتين: للأسف، لقد تغيّرت ليس تحت تأثير أية أفكار اخرى، وإنما تحت تأثير الأوضاع. لقد بات واضحاً أن هذا النظام لم يعد يعمل. وصل الى أزمة. الاقتصاد لا يتطور. والنظام السياسي تجمد ولم يعد مجدياً للتطور. احتكار او سيطرة قوة سياسية واحدة – حزب سياسي واحد على السلطة كان أمراً مميتاً للبلاد.
اوليفر: هذه كانت افكار غورباتشوف.. هل يعني ذلك أنها هي التي اثرت عليك؟
بوتين: كلا ليست افكار غورباتشوف. انها افكار الطوباويين الاشتراكيين الفرنسيين. هنا لا دخل لغورباتشوف على الإطلاق. لقد عمل غورباتشوف تحت تأثير الاوضاع. أكرر، فضله هو انه شعر بالحاجة إلى التغيير، وهذه حقيقة، وحاول تغيير النظام نفسه، ليس بمعنى التغيير الكامل، بل الترميم واعادة البناء. لكن المشكلة تكمن في ان النظام نفسه كانت قد انتهت صلاحيته. ولكن ما العمل حتى يتغير الوضع في البلاد بشكل سليم؟ أي أن يتغير النظام ولكن من دون تدمير البلاد؟ هنا لم يكن أحد، بما في ذلك غورباتشوف، على دراية بما يمكن أن يقود إلى الانهيار أو أن يجعل البلاد تتجه نحو الانحدار.