باعتراف الجميع، فإن أهمية فيينا، مدينة (سيجموند) فرويد و(جوستاف) مالر، لا تعني الكثير إلا إذا تم النظر إليها على خلفية دول ومدن أخرى تشاركت جماعياً، وساهمت إبداعياً، في ثقافة أوروبا الوسطى.
إذا ما كانت مدرسة (آرنولد) شوينبيرج قد اكتشفت نظام الإثنتى عشرة نغمة، فقد عرف المجري بيلا بارتوك، أحد أعظم الموسيقيين بالقرن العشرين، كيف يكتشف آخر الاحتمالات الأصلية في الموسيقى المعتمدة على المبدأ النغمي. عبر أعمال (فرانز) كافكا و(ياروسلاف) هاشيك، أسّست براغ لأعمال (روبرت) موزيل و(هرمان) بروخ في فيينا. الديناميكية الثقافية للدول المتحدثة باللغات غير الألمانية تكثفت بشكل أكبر بعد 1918، عندا قدمت براغ لعالم ابتكارات البنيوية وحلقة براغ للغويات. وفي بولندا توقعت ثلاثية ويتولد غومبروفيتش، برونو شولز، وستانيسلاف ويتكيوتس الحداثية الأوروبية في فترة الخمسينيات (1950s)، وعلى رأسها ما يسمى بمسرح العبث.
يبرز هنا سؤال، هل كان هذا الاتفجار الثقافي بأكمله مجرد صدفة جيوغرافية؟ أم أن له جذوره العميقة؟ أو لقولها بطريقة أخرى: هل تشكّل أوروبا الوسطى تكويناً ثقافياً حقيقياً يتراكب مع تاريخها الخاص؟ وإذا ما صح وجود هذا التراكب، هل يمكن تعريفه جيوغرافياً؟ ما هي حدوده؟
ستكون محاولة رسم حدود له بشكل محدد. أوروبا الوسطى ليست دولة: إنها ثقافة أو مصير. حدودها متخيّلة ويتوجب رسمها وإعادة رسمها مع كل موقف تاريخي جديد. على سبيل المثال، مع حلول منتصف القرن الرابع عشر، حشدت جماعة تشارلز ببراغ بالفعل مثقفين (أساتذة وطلبة) تشيك، نمساويين، بافاريين، ساكسون، بولنديين، ليتوانيين، مجريين، ورومانيين مع بذرة فكرة مجتمع متعدد-الجنسيات يكون فيه لكل دولة الحق في لغتها الخاصة: بالفعل، تحت التأثير غير المباشر لهذه الجامعة (التي عمل بها يان هس عميداً لفترة) تم تنفيذ التراجم المجرية والرومانية الأولى للإنجيل.
تتابعت مواقف أخرى: ثورة الهوسيين، مقاومة المجريين في زمن ماتياس كروفينوس بتأثيرها الدولي، نشوء امبراطورية هابسبرغ كاتحاد بين ثلاث دول مستقلة-بوهيميا، المجر، والنمسا، الحرب ضد الأتراك، الإصلاح المضاد في القرن السابع عشر. في هذا الوقت ظهرت فجأة الطبيعة المحددة لأوروبا الوسطى في انفجار غير اعتيادي لفنون الباروك، ظاهرة وحّدت المنطقة الفسيحة، من سالزبورغ إلى فيلينوس.
على خريطة أوروبا، تحولت أوروبا الوسطى الباروكية (التي تميزت بسيطرة اللامنطقية والوضع المهيمن للفنون البصرية وبشكل خاص للموسيقى كذلك) إلى القطب المضاد لفرنسا الكلاسيكية (التي تميزت بغلبة المنطقية والوضع المهيمن للأدب والفلسفة). في حقبة الباروكية يجد واحدنا أصول التطور غير العادي لموسيقى أوروبا الوسطى، التي من (فرانز جوزيف) هايدن إلى (آرنولد) شونبيرغ، من (فرانز) ليست إلى (بيلا) بارتوك، كثفت في داخلها ثورة موسيقى أوروبا كلها
في القرن التاسع عشر، النضالات الوطنية (للبولنديين، المجريين، التشيك، السلوفاك، الكروات، السلوفينيين، الرومايين، واليهود) وضعت دولاً -منعزلة، مغترّة ومنغلقة- في مواجهة بعضها البعض، برغم أنها مرت بنفس التجربة الوجودية العظيمة. تجربة دولة تختار ما بين الوجود وعدم الوجود، أو، لقولها بشكل آخر، ما بين الإبقاء على حياتها الوطنية الحقيقية وكونها مندمجة في إطار دولة أكبر. النمساويون، وبرغم انتمائهم للدولة المسيطرة كإمبراطورية، لم يتفادوا ضرورة مواجهة الخيار. كان عليهم الاختيار ما بين هويتهم النمساوية وكونهم غارقين في الهوية الألمانية الأوسع. ولا كان لليهود الهروب من هذا السؤال. برفضها الاندماج، اختارت الصهيونية، التي ولدت بأوروبا الوسطى، ذات المسار الذي سلكته دول أوروبا الوسطى الأخرى.
القرن العشرون شهد مواقف أخرى: سقوط الإمبراطورية النمساوية، الضم الروسي، والفترة الطويلة لثورات أوروبا الوسطى، التي كانت رهاناً هائلاً تم وضعه على سكة حل غير معلوم. لذالك لا يمكن تحديد وتعريفه بالجبهات السياسية (فهي غير أصيلة، تفرض دائماً عبر الغزوات، الفتوحات والاحتلالات)، بل بالمواقف المشتركة الكبيرة التي تعيد ضم الناس، وتجميعهم بطرق متجددة على طول الحدود التخيلية التي لا تكف عن التغيّر والتي تشير إلى عالم تسكنه ذات الذكريات، ذات المشاكل والصراعات، ذات التقاليد المشتركة.
والدا سيجموند فرويد جاءا من بولندا، لكن سيجموند الصغير قضى طفولته في مورافيا، في تشيكوسلوفاكيا المعاصرة، إدموند هوسرل وغوستاف مالر قضوا طفولتهم هناك كذلك. الروائي الفييني جوزيف روث ترجع جذوره إلى بولندا. الشاعر التشيكي العظيم جوليوس زير ولد في براغ لعائلة تتحدث الألمانية، وقد كان اختياره الخاص أن يصبح تشيكياً. على الجانب الآخر، كانت اللغة الأم لهرمان كافكا هي التشيكية. بينما ابنه فرانز تلسّن الألمانية. الشخصية الرئيسية في الثورة المجرية لعام 1956، الكاتب تيبور ديري، جاء من عائلة ألمانية-مجرية، وصديقي العزيز دانيلو كيس، الروائي الممتاز، هو مجري-يوغوسلافي. يا له من تشابك للمصائر الوطنية حتى بين أكثر الشخصيات تمثيلاً لكل بلد! وكل الأسماء التي ذكرتها لتوي، هي أسماء لأشخاص يهود. بالفعل، لم يكن أي جزء آخر من العالم يتميز بعمق بتأثير العبقرية اليهودية. غرباء في كل مكان وفي بيتهم في كل ناحية، مترفعين فوق المشاجرات الوطنية، كان اليهود في القرن العشرين العنصر الكوزموبوليتاني الرئيسي في أوروبا الوسطى: لقد كانوا نسخة مكثفة من روحها، ومن منشئي وحدتها الروحية.
هذا هو سبب حبي للتراث اليهودي وأتشبث به بقدر من الشغف والاشتياق للماضي وكأنه تراثي. شيء آخر يجعل الشعب اليهودي ثميناً جداً بالنسبة لي: ففي مصيرهم يبدو أن مصير أوروبا الوسطى يتركز، ينعكس ويجد صورته الرمزية.
ما هي أوروبا الوسطى؟
منطقة غير أكيدة من الدول الصغيرة ما بين روسيا وألمانيا. أرسم خطاً تحت الكلمات: دولة صغيرة. بالفعل ماذا يكون اليهود إن لم يكونوا دولة صغيرة، الدولة الصغيرة بامتياز؟ الدولة الصغيرة الوحيدة بين نظيراتها على مر الزمان التي نجت من الامبراطوريات ومن مسيرة التاريخ المدمرة.
(*) راجع الجزء الأول: كونديرا.. مأساة أوروبا الوسطى (1984)
(*) راجع الجزء الثاني: كونديرا: الروح السلافية وأزمة أوروبا الحضارية
المقالة الأصلية بقلم الكاتب التشيكي: ميلان كونديرا (26 إبريل/نيسان، 1984)
الترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية: إدموند وايت
الترجمة من الإنجليزية إلى العربية: 180 بوست