ما تبقّى لكم من.. الدولة الفاشلة

ما أعلنه رئيس حكومة لبنان حسان دياب أمام أعضاء السلك القنصلي الفخري في لبنان، لا يشبه خطابات الحكّام اللبنانيّين بشيء؛ فهو تارةً يظهر وكأنّه الإعتراف الأخير، وتارةً أخرى كأنّه رسالة تظلُّم، وطوْراً كأنّه ورقة نعي الدولة اللبنانية التي "تراجع نبض العلاقة بينها وبين الشعب إلى حدود التوقّف الكامل". خطيرٌ جداً هذا الكلام، ولا سيّما عندما يصدر عن مسؤولٍ لبناني VIP، ابتعد، على غير عادةِ نظرائه، عن توسّل اللغة الخشبية التي لا نعرف غيرها في عالمنا العربي؛ لغةً للسياسة وصنَّاعها، وللإيديولوجيا وصياغاتها الجاهزة، وللخطاب وجُمَله الخاوية من المعنى، وللمفردات و"استعاراتها المُحتضِرة"، على حدِّ تعبير الكاتب الإنكليزي George Orwell.

في سرديةٍ استكملت الهجوم الكلامي الذي بدأه عبر أحد وزرائه قبل أيام، لم يُبقِ رئيس الحكومة اللبنانية نعتاً أو تشبيهاً أو معياراً أو سمةً إلاّ واستحضرها من “قاموس المنجد”، كي يصف الواقع الراهن السيّء لدولة لبنان الكبير، على مسمع القناصل اللبنانيّين الذين انتظروا، ربّما، أن يقولها دياب دون مواربة: “أُعلن تأهُّل لبنان رسمياً إلى نادي الدول الفاشلة”. فالدولة اللبنانية التي استلم، للتوّ، رئاسة مجلس وزرائها، باتت “في حالة ترهّل وضعف إلى حدود العجز، وفقدت ثقة الشعب بها، ولم تعد قادرة على حماية اللبنانيّين وتأمين الحياة الكريمة لهم”.

إنَّ تعريف الدولة يقول، بأنّها التجسيد القانوني لأمّة ذات سيادة ومن هنا تبرز فكرة الشخصية المعنويّة أو القانونية التي تتمتّع بها الدولة، إذْ هي تمتاز، عن سائر الوحدات السياسية (القبيلة، الحاضرة، الطائفة…إلخ)، بكونها كياناً سياسيّاً وحقوقيّاً، مادّتها الحقيقية هي الشعب، وخاصيّتها الأساسية هي السيادة. أمّا مفهوم “الدولة الفاشلة”، الذي بدأ الترويج السياسي له في أوائل تسعينيّات القرن الماضي، إنّما يعود الاهتمام به لأسبابٍ إنسانية بحتة، أفضى إليها تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان في العديد من دول العالم. بحيث شكّلت منظّمات حقوق الإنسان المحرّك الأساسي في هذا الاتجاه، من خلال ممارستها (في حينه) ضغوطًا شديدة على حكوماتها، تُرجِم تدخلاً عسكرياً للدول الكبرى (!) في بعض الدول، كالصومال وهاييتي والبوسنة والهرسك.

ويعود فشل الدولة وانهيارها، غالباً، إلى شريحتيْن أساسيتيْن من الأسباب: أولاً، الصراعات الداخلية والخارجية التي تتورّط فيها بعض الدول (وهو ما يمكن اعتباره الحالة الكلاسيكية للفشل)؛ وثانياً، الفشل الوظيفي للدولة والذي يتأتّى من إخفاقاتٍ متتابعة في أداء مؤسّساتها وسياسة حكوماتها، في ظلّ تنامي متطلّبات شعبها بما يفوق مواردها وقدراتها القائمة، الأمر الذي يحتّم، في مرحلة معينة، انهيار هذا النظام واستبداله بآخر أكثر فعالية وإنتاجية. كَمْ جميلٌ أن يقف لبنان على فالق زلازل شريحتيْ الأسباب المؤديّة إلى الدولة الفاشلة، كيف لا، وهو مَنْ لبّى، وبنجاحٍ منقطع النظير، المعايير الأربعة المعتَمدة في آلية تصنيف الدول الفاشلة، أي:

1- عدم قدرة الحكومة المركزية في الدولة على فرْض سلطتها على ترابها الوطني.

2- عدم قدرة الحكومة المركزية على تأمين حدودها من الإختراقات الخارجية (سواء على حدودها البرّية أو في مياهها الإقليمية أو في مجالها الجوّي).

3- عدم تمتّع الدولة بالشرعية اللازمة للحكم وانعدام تداول السلطة فيها (في لبنان شبه انعدام)، وتفشّي الفساد الإداري في أجهزتها ومؤسّساتها، بالإضافة إلى غياب النظم القانونية أو ضعفها.

4- الإنقسام المجتمعي وحدَّة الصراعات الدينيّة والعرقية (عندنا الطائفية) المهدِّدة لوحدتها الوطنية.

وعندما نتمعّن بالمؤشرات التي تُنبئ بقيام “الدولة الفاشلة”، نشعر وكأنّ المنظمات الحقوقية العالمية قد أتت إلى بلاد الأرز، ونسخت هذه المؤشرات، نسخةً طبق الأصل، من واقع بلادنا في الاجتماع والاقتصاد والأمن والسياسة: ضغوط ديموغرافية متزايدة، هجرة السكان أو نزوحهم في الداخل (وإلى الخارج) والحركة الكبيرة للنازحين، تنامي عدد المجموعات التي تسعى إلى الإنتقام من مجموعات أخرى، الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والسرقة، والإنماء غير المتوازن، والتدهور الاقتصادي الحادّ (اختلالات بنيويّة، ركود في الدورة الاقتصادية، وانهيار قيمة النقد الوطني)، وتراجع مساحة الشرعية في النظام السياسي القائم، فقدان الثقة بالدولة ومؤسّساتها، تراجع وظيفة الدولة لجهة تقديم الخدمات العامة، إساءة استخدام السلطة وزيادة التدخل الخارجي في شؤون الدولة الداخلية، زيادة الشقاق الحزبي، والصراعات بين النخب الحاكمة، وانتهاكات حقوق الإنسان، وضعف السلطة الأمنية، وبروز قوى أمنية غير نظامية.

يضع دياب عربة الحكومة أمام حصانيْ “الخارج” (الدول والمؤسسات المانحة) و”الداخل” (الثوار وخصومه وحلفائه)، فلا يلومنَّه أحد على فشله في دولةٍ فاشلة، ولا يدع مجالاً لانطلاق الحناجر بأهزوجة الـ”هيلا هيلا هو”

ولكن السؤال الأبرز يبقى: لماذا، وفي هذا الوقت بالذات، ضمّن الرئيس حسان دياب كلامه هذا “النعي” للدولة اللبنانية؟ ربّما لهدفٍ من الأهداف التالية (أو كلّها مجتمعة):

أولاً، كي يُبرز الطبيعة “الإنتحارية” للمهمّة التي استلمها قبل أسابيع قليلة؛ فحكومته لم تستلم بلداً، كما فُهِم من كلامه، بل بقايا بلد يشبه مستودع خردة (بحسب التوصيفات التي استخدمها دياب)، تستفحل فيه معضلات كبرى وآليات دولته مكبّلة بقيود طائفية صدئة وجنازير فساد مُحكَمة وأثقال حسابات فئوية متعدّدة وفقدان توازن في الإدارة وانعدام رؤية في المؤسسات. وهكذا، يضع دياب عربة الحكومة أمام حصانيْ “الخارج” (الدول والمؤسسات المانحة) و”الداخل” (الثوار وخصومه وحلفائه)، فلا يلومنَّه أحد على فشله في دولةٍ فاشلة، ولا يدع مجالاً لانطلاق الحناجر بأهزوجة الـ”هيلا هيلا هو” (الشعار الشهير للانتفاضة الشعبية).

ثانياً، ليلعب على الوتر العاطفي للناس، عندما يُظهِّر العناء الذي يتكبّده في تفكيك التعقيدات الموضوعة في طريقه، كي ينتقل بلبنان إلى مفهوم الدولة ومعالجة مشكلاته المزمنة، هو الذي اختار السير (دياب) على طريق الجلجلة والوجع، وعلى تلقّف كرة النار وتحمّل حروق لهيبها كي لا تحرق التراب بعدما أحرق (أسلافُه) الأخضر واليابس.

إقرأ على موقع 180  حكومة تكنوقراط.. ماذا يقول الدستور

ثالثاً، كي ينقل القناصل إلى “مَن يهمّهم الأمر” صورةً واضحة عن حال لبنان، لعلّهم يسمعون ويتفهّمون ويغضّون طرْف العقاب عن تخلّف لبنان عن دفع سندات “اليوروبوند” المستحقّة بعد أيام، ويساهمون في ورشة إنقاذ لبنان، ما يعني باللغة الاقتصادية “يمدّونه بالقروض”.

حاول حسان دياب أن يكون “المعترِف” عبر استخدامه تقنية الإعتراف، أمام القناصل واللبنانيّين والعالم (بالأحرى مَن ينتبه منهم لوجود لبنان على الخارطة)، التي نظر إليها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو على أنّها طابع المجتمع الإنضباطي. بحيث أنّ “الإعتراف” يتيح للمنضبط (دياب) الإندماج في نمط إنتاجٍ خطابي، يصنع ذاته، من خلاله، ربطاً بتأويل “قول الحقيقة” عن الغير الذين يصغون إليه في الواقع أو في الإفتراض.

“أدعوكم إلى التشمير عن سواعدكم، فلبنان يحتاج في المرحلة المقبلة لكلّ جهد وفكرة. لبنان يحتاج إلى كلّ نقطة عرق جبين، وسيكتب التاريخ عن كلّ الذين هدّموا جدران الفساد وبنوا جسور الثقة وأعادوا الأمل إلى اللبنانيّين وساهموا في ورشة الإنقاذ. إنّها ساحة الشرف… فأهلاً بكلّ مَنْ يدخلها مصمِّماً على العطاء فيها”. بهذه الدعوة إلى خوض “أمّ المعارك”، ختم رئيس حكومة لبنان حسان دياب كلامه متناسياً المقولة الشهيرة: “موقعك في السلطة ليس كافياً لتكون قائداً”. إقتضى التمييز.

* استاذة في الجامعة اللبنانية

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  "الجدار الطيب".. التسلل من الإنقسام الأهلي إلى التطبيع!