في زمن كورونا: LA VIE EN ROSE

ما زلت محتفظاً بعادة صباحية لا تفارقني منذ الصغر: قراءة الأخبار ومتابعة آخر الإصدارات الموسيقية. استيقظ يومياً بحماسة وشغف كبيرين لمعرفة ما يدور في هذا العالم. عادة لم يغيرها زمن كورونا، بل ضاعف وتيرتها. جلسة صباحية تليها جلسة مراجعة بعد وجبة الغداء. بعد استراحة العصر، تبدأ جلسة المغرب التي تتصل بالعشاء ومن بعدها المساء مروراً بالدجى وحتى الغسق أحياناً.

في السنوات الماضية، تقدمت متابعة الإصدارات الموسيقية على قراءة الأخبار بأشواط كبيرة. لكن سرعان ما تعادلت الإهتمامات في زمن فيروس كورونا. غير أن المتعة الحقيقية تظل دائما في متابعة الإصدارات الموسيقية الجديدة. يومياً، لا بد من قطعة جديدة تكتشفها أذنك، لحناً وكلاماً وأداءً. أما الصحف، وتحديداً ما تبقى منها، فإنها تعزف نوتة واحدة، إلا في ما ندر.

لا أدعي بأن لدي أذن موسيقية، ولا أستسيغ الموسيقى الكلاسيكية لأمثال بيتهوفن وباخ وفيفالدي. هنا، أستذكر حواراً دار بيني وبين الراحل محمد حسنين هيكل، عاشق الموسيقى الكلاسيكية. سألني هيكل عن ذوقي الموسيقي، فأجبته بفخر شديد “أحب موسيقى الروك اند رول وأعشق موسيقى ال أر أند بي الأميركية”. فأجاب باقتضاب “أنها موسيقى جيلك”.

أعرف أسبابا كثيرة لاهتمامي بهذا النوع من الموسيقى. غير أن السبب الوحيد الفاقع، برأي هيكل، أنها موسيقى الجيل الذي أنتمي اليه، لكأن الحرب هي الخط الفاصل بين أجيال. فهيكل ينتمي الى جيل ما قبل الحرب العالمية الثانية، بكل ما تحمله من فن وأدب وسياسة وثقافة. أما أنا فأنتمي الى جيل آخر. جيل سمع الأغاني في الساحات والميادين والطرقات وليس في المسارح ودور الأوبرا.

لم تنته هذه المراجعة الذاتية لذوقي الموسيقي، على هامش موسم العزل الصحي الطوعي. قررت التوغل أكثر في لحظة التحول في مزاجي الموسيقى. في مرحلة الصبا، استمتعت كثيرا بالأغاني الأجنبية. رويداً رويداً، بدأت استلطف الموسيقى والأغاني العربية. أستذكر أيضاً كيف كنت أتحدث بإعجاب، في يوم من الأيام، عن الموسيقى العربية وعن السنوات التي أضعتها منغمساً بموسيقى وأغاني الجيل الذي أنتمي إليه، فقال لي الراحل مصطفى ناصر، حينذاك، “بدأ سمعك ينضج”… ووجدت والدي يهز برأسه متفقا معه. قال لي ذلك تحديداً حين افصحت عن إعجابي بالموسيقار المصري الكبير محمد عبد الوهاب. وللمفارقة، فإن معرفتي بموسقى وأغاني محمد عبد الوهاب، إرتبطت بجدتي فاطمة التي كانت من محبي أغانيه وألحانه. اليوم، صرت أكثر غضباً من “ستي”، كما كنا نناديها، يوم قررت أن تتخلى فجأة عن أشرطة “الكاسيت” القديمة بحجة أن الموسيقى حرام، وهي عبرة خلصت إليها جدتي، كالكثيرين من أبناء جيلها، في خريف عمرها.

الموسيقى ليست قانوناً إما أن يكون الفرد تحته أو فوقه. وليست دستوراً يحتاج إلى أغلبية محددة لتعديله

ليس عيباً أن يتطور اهتمام المرء الموسيقي. وليس من الغرابة بشيء أن تتغير الذائقة الموسيقية تأثرا بالأحداث والمحن. الموسيقى ليست قانوناً إما أن يكون الفرد تحته أو فوقه. وليست دستوراً يحتاج إلى أغلبية محددة لتعديله. هي، كما وصفها المفكر السوداني حيدر إبراهيم علي، كالفن “يولد عندما يحضن الإنسان الطبيعة، وعند تحدي الطبيعة، ينتج الإنسان التكنولوجيا”.

الأكيد أن ثمة تأثيراً كبيراً لجائحة كورونا على حياتنا. حتما سيطال تأثيره ذوقنا الموسيقي. مثلها مثل غيرها من أزمات مفصلية في التاريخ الإنساني. ما يجري اليوم يشبه الى حد ما نتج عن الحرب العالمية الثانية. من رحم ذلك الحدث التاريخي، خرج أهم الفنانين والملحنين والرسامين في تاريخنا الحديث، وكأنهم قد ولدوا في تلك اللحظة، ولم يأت من بعدهم جيل كبير.. يبهرنا بألحانه وكلماته وأغانيه ورسوماته.

لنأخذ العالم العربي مثالاً. دفعة واحدة، أطلت علينا أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم حافظ. ومعهم أغان حفرت عميقاً في الذاكرة العربية نتذكرها في سياق محنة مفصلية في تاريخنا العربي. هل نستطيع سماع أغنية “بجبك يا لبنان” لفيروز من دون تذكر الحرب الأهلية اللبنانية؟ أو أغنية “أصبح عندي الآن بندقية” لأم كلثوم من دون تذكر حرب العام 1967م؟ وأغنية عبد الحليم حافظ “ابنك بيقولك يا بطل” بعد حرب العام 1973م؟ وهل يمكن سماع أغنية محمد عبده “فوق هام السحب” إلا وذكريات حرب الخليج الأولى ترافق كلماتها ولحنها!

بالرغم من ذلك كله، وبالرغم من أن موسيقى القرن الماضي، ظلت تحمل إرث الحرب الثقيل في روح كلماتها. إلا أن لحنها يعيد التذكير بتاريخ مضى يبدو أكثر جمالاً من الحاضر الذي نعيشه. تماماً كمثيلاتها الأوروبية. لم تكبل المأساة إيديث بياف المغنية والأيقونة الفرنسية حين كتبت أغنيتها الأشهرLA VIE EN ROSE. الأغنية الساحرة التي خطت كلماتها في النادي الليلي الذي كانت تعمل فيه بأجر بخس في مدينة باريس المحتلة من قبل القوات الألمانية في العام 1943م، ولم تكن تدرك أنها ستقف وراء إبداع فني كاسر للحاجز الزمني. إبداع خرج من رحم المأساة.

ما أقصده هو أن هذه الجائحة التي نمر بها لا بد وأن تنتج موسماً موسيقياً جديداً. هي موسيقى ما بعد الكورونا. ولعل ما تحتاجه هذه الأزمة التي نعيشها هو النضج. ثمة إيجابية تنبثق من كل محنة. وهناك إبداع موسيقي عظيم يجري التحضير له في عزلتنا الصحية. من يكون المبدع الأول؟

إقرأ على موقع 180  في طريقي إلى المستشفى.. قصر اللايقين

(*) كاتب سعودي

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  العالم القديم انتهى... ماذا بعد كورونا؟