للأسبوع الثالث، يعيش السوريون واقع الحجر المنزلي المفروض بشكل غير مباشر عن طريق مجموعة من القرارات التي أوقفت النشاط التجاري في الأسواق، باستثناء الصيدليات وبعض المحلات المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، فضلاً عن إغلاق الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى تطبيق حظر للتجوال لفترة 12 ساعة يومياً، و18 ساعة يومي الجمعة والسبت، الأمر الذي يهدف إلى تقليل الاحتكاك بين المواطنين، ومنع انتشار الفيروس بشكل يفوق قدرة المنظومة الصحية على استيعابه.
الإجراءات الحكومية السورية تماشت بشكل مباشر مع التوجه العالمي السائد، ونجحت حتى الآن، وفق الأرقام الرسمية التي تصدرها وزارة الصحة في الحد بشكل كبير من انتشار الوباء (19 حالة مسجلة، توفيت منها ثلاث حالات وشفيت أربع)، إلا أنها ساهمت من جانب آخر في خلق فجوة تزداد اتساعاً مع مرور الوقت، واستمرار الحجر، دون اتخاذ إجراءات حكومية فعالة من شأنها أن تقدم المساعدة للمواطن في أزمته المعيشية.
ضغوط مضاعفة
مع دخول الأسبوع الثاني من الحجر الصحي، أصدرت الحكومة السورية قراراً برفع أسعار بعض السلع الغذائية والتموينية الرئيسية، الأمر الذي زاد من الضغوط التي فرضتها ظروف الوباء على المواطن، في حين بدأت مديرية التجارة الداخلية باتخاذ بعض الإجراءات الإضافية المتعلقة ببيع المواد الغذائية بأسعار مدعومة وفق نظام “البطاقة الذكية” المعتمد في سوريا، والتي أضافت إليه الخبز الذي يباع بأسعار زهيدة جداً مقارنة بتكاليف إنتاجه.
بموازاة ذلك، وبعيداً عن المواد المدعومة، وطريقة توزيعها حكومياً، ارتفعت أسعار السلع والمواد الغذائية في سوريا بشكل جنوني، حيث وصل ارتفاع بعض أنواع السلع إلى نحو 100 في المئة، وبعضها الآخر بنحو 50 في المئة، علماً بأن دولاً عدة قامت بتخفيض أسعار المواد الغذائية على عكس ما حصل في سوريا.
وفي وقت تعيد فيه بعض الفعاليات التجارية سبب ارتفاع الأسعار إلى تراجع سعر صرف الليرة السورية مقارنة بالدولار بنسبة وصلت إلى نحو 20 في المئة، فإن هذا التراجع لا يبرر الارتفاع الكبير في الأسعار وسط اتهامات للتجار بـ “الجشع” ومطالبات للحكومة مواجهة هذه الارتفاعات عبر أجهزتها المسؤولة بذات الصرامة التي تنفذ فيها إجراءات الحظر المفروض.
وأمام هذه الأوضاع المعيشية التي تزداد سوء مع استمرار الحجر، بدأت بعض الفعاليات الأهلية إطلاق مبادرات إنسانية لجمع أموال وتوزيع سلل غذائية ومعونات نقدية على المحتاجين، في حين أطلق مغتربون سوريون مبادرات لإعانة عائلات وأسر بشكل كامل خلال فترة الحجر.
هذه المبادرات، وعلى الرغم من النطاق الضيق الذي تغطيه، ساهمت إلى حد ما في مساعدة عائلات محتاجة بالمواد الأساسية، إلا أن ما يعيب هذه المبادرات عدم استمراريتها، بسبب عدم وجود موارد دائمة لها.
تفضي جميع المؤشرات إلى أن ثمة أزمات اقتصادية كبيرة وقاسية تنتظر سوريا خلال الفترة المقبلة، حتى بعد انتهاء فترة الحجر
أزمات متراكمة
الأزمة التي يعيشها السوريون خلال هذه الأيام، سواء بسبب إجراءات مكافحة انتشار الوباء، أو بسبب الآثار التراكمية للحرب التي تشهدها سوريا منذ عشر سنوات، والتي تسببت بدمار كبير في مختلف القطاعات، ووضعت أكثر من 80 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، لا تعتبر أزمة مؤقتة، حيث تفضي جميع المؤشرات إلى أن ثمة أزمات اقتصادية كبيرة وقاسية تنتظر سوريا خلال الفترة المقبلة، حتى بعد انتهاء فترة الحجر.
مركز “مداد” السوري للدراسات والأبحاث توقع في دراسة له نشرها مطلع شهر نيسان/ابريل الحالي أن أزمة “كورونا” ستكون لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد السوري، أبرزها “زيادة العجز المالي في الموازنة العامة للدولة”، بسبب زيادة الانفاق الحكومي على قطاعي الصحة والخدمات وتراجع الإيرادات الحكومية، و”زيادة الضغوط التضخمية بشكل متسارع بسبب تراجع سعر صرف الليرة السورية، واستمرار تمويل مصرف سوريا المركزي قائمة كبيرة من المستوردات”، و”ضخ أموال نقدية كبيرة في الأسواق (التمويل بالعجز)”، و”زيادة معدلات البطالة التي تصل في الوقت الحالي إلى نحو 50 بالمئة”.
وتأتي هذه التداعيات في وقت كان من المنتظر فيه أن يشهد الاقتصاد السوري نمواً مبدئياً في ظل انخفاض وتيرة المعارك وانحسارها بشكل كبير، وفتح الطرقات المحورية في سوريا، وأبرزها طريقي حلب – دمشق وحلب – اللاذقية (الذي من المنتظر فتحه وفق الاتفاق الروسي – التركي)، إضافة إلى فتح المعابر الحدودية مع الأردن والعراق، وبدء مرحلة إعادة الإعمار في بعض القطاعات عن طريق التعاقد مع شركات روسية وصينية.
وعلى الرغم من أن التداعيات الاقتصادية الكبيرة للفايروس ستؤثر على الاقتصاد العالمي بشكل كامل، فإن الآثار المباشرة لهذه التداعيات ستضرب الحلقات الأضعف بشكل مباشر وبينها سوريا التي دمرتها الحرب المستمرة، الأمر الذي سيضاعف من الأزمات الاقتصادية وسيعقد من الحلول المتوقعة، رغم تفاؤل البعض بأن تشكل هذه الأزمة فرصة وبوابة لكسر الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا.
وأمام هذا المشهد المعقد، والأرقام ودلالتها وتوقعاتها، يبدو أن المواطن السوري الذي يعيش هذه الأيام أسوأ أيامه على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، قد تفوق قسوتها التراكمية أيام الحرب التي عاشها، وجد نفسه جندياً في حرب عالمية ضد كائن غير مرئي، عليه أن يواجهه، ويواجه معه الجوع الذي تزداد ضراوته مع مرور الوقت، في ظل عدم اتخاذ الحكومة إجراءات فعالة للتخفيف من حدته.