“لم يُخلق العالمُ من ظواهر طبيعيّة أو من أحداث التاريخ المتلاحقة فحسب، وإنّما من قيمة وجود الغير إلى جوارنا”
(الكاهن كارلو مارتيني في نقاشه لإمبرتو إيكو في ماذا يؤمن من لا يؤمن).
***
يعاني المشرق العربي من الطائفيّة فيما يعاني مغربه من العرقيّة. ليس في المقارنة كثيرٌ من الفرق وإنّما تختلف العرقيّة عن الطائفيّة في كونها ليست نابعة من فهمِ جماعة لجماعة على أساسٍ مقدّسٍ تماماً كما هو الحال في الطائفيّة، وإنّما تنتجُ العرقيّة عن تصوّر سياسي واجتماعي وثقافي يرى أهليةً ما لعرقٍ بعينهِ؛ بحيث يُقرّر مصلحة الأعراق الأخرى بحساب الأغلبيّة والأقليّة. لكن أين يكمنُ الفرق تماماً بين عرقيّة في بلدٍ وطائفيّة في آخر؟
الطائفيّة هي نتاجٌ متوقّعٌ عن طائفة حقّقت مكاسب لأهلها فحوّلت المجتمع من مجتمع محليّ إلى أهليّ، فيما العرقيّة هي مخاضٌ سريعٌ لفشلٍ سياسي وحضاري لعرقٍ يعتقد أنّ هذا الفشل ينبغي أن يكون عاماً وإلا صار غير عادلٍ ولا منصف. وبالتالي تتأدّى الطائفيّة عن مكتسباتٍ مهدّدة بالتلاشي المفترض، بينما العرقيّة هي حصيلة تواتر جملة متتابعة من الفشل المتسلسل يرغبُ أصحابهُ في أن يكون أكثر عموميةً واشتمالاً، فيعمدون إلى الاستيلاء، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، على حقّ العرقيات المجاورة في الظهور بكامل استقلالها الحضاري والتاريخي والثقافي.
لذلك تجد التمايز الديني لناحية العبادات عند الطوائف، بينما قد تكون هنالك عرقيّة في بلدٍ مُحدّد يكون كلّ أهله من دينٍ وطائفةٍ واحدة! ليس في الطائفيّة أسانيد دينيّة مباشرة سوى ما يتمّ انتقاؤهُ على نحوٍ خاصٍ من أقوال مشذّرة لعلماء وقادة سابقين، فيما لا تركنُ العرقيّة إلى أيّ سندٍ ديني أو عقائدي، سوى ما يُعبّر بهِ العرقي عن نقص إيمانهِ بمعتقدٍ يساوي بينهُ وبين المختلف عنهُ. لذلك تبدو الطائفيّة لدى البعض أحد مظاهر الالتزام الديني فيما تمثل نوعاً من المروق عن الدين الواحد لأعراق متعدّدة عند البعض الآخر.
قد يتّفق العرقيون على تاريخٍ متقاطعٍ مع بعضهم البعض، بيد أنّهم يفتئتون على أنفسهم حين يتوهمون بإمكانيّة توظيف تلك الرؤية من أجل مصلحةٍ حاضرةٍ، تضمنُ نوعاً من الاستحواذ الجماعي على التاريخ الشامل لمختلف الأعراق. لا يتّفق الطائفيون على تاريخٍ واحدٍ في الغالب الأعمّ، بلّ إنّهم قد يختلفون في نسبة الخير والشرّ اختلافهم على وقوع الأحداث في حدّ ذاتها، وبالتالي شرعيّة الحدث التاريخي لا تكون كاملةً ما لم يستمدّ ذلك من شرعيّة وجود الطائفة ضمنه، وقد سبقَ للمؤرخ اللبناني ـ العربي كمال الصليبي أنّ رأى بإمكانيّة أن يُشكّل اللبنانيون أمّةً واحدةً أو جماعة سياسيّة متّفقة، فقط؛ إذا اتفقوا على رؤية مشتركة لماضيهم.
الطائفيّة هي نتاجٌ متوقّعٌ عن طائفة حقّقت مكاسب لأهلها فحوّلت المجتمع من مجتمع محليّ إلى أهليّ، فيما العرقيّة هي مخاضٌ سريعٌ لفشلٍ سياسي وحضاري لعرقٍ يعتقد أنّ هذا الفشل ينبغي أن يكون عاماً وإلا صار غير عادلٍ ولا منصف
هذه التقاطعات وغيرها، جعلت الكثير من الباحثين من غير الناطقين بالعربيّة رأساً، يقعون في مشاكل جمّة؛ يبدو الخط الفاصل بين الطوائف والأعراق عندهم أشبه ما يكون بالخيط الناظمِ لحركة الطائفة والعرق في مجتمعٍ واحد. أبحاث تابيثا بيتران ومايكل هدسون على أهميّتها وتماسك محتواها؛ أبانت عن خلطٍ كبيرٍ في تدقيق أصول العشائر وجذورها، لا سيما تلك التي تقطنُ جبل لبنان وجبال العلويين في سوريا!
لا يحرّض ما سبقَ على أيّ شكلٍ من أشكال التفاؤل المأساوي[1] بإمكانيّة حدوث أيّ انفراجة لدى فئة تنعكس تلقائياً على الأخرى، لأنّ الأسباب التي تنطلق منها الطائفيّة مخالفة للأسباب التي تنشأ منها العرقيّة. لكن ذلك لا يعدمُ البتة وجود ضامنٍ وحيدٍ لحدوثِ نوعٍ من التجاوز الجماعي لأزمة الطائفيّة والعرقيّة في بلادنا العربيّة، وهو النظام الديمقراطي وحده دون سواه. وقد تقصّدت القول: النظام الديمقراطي، وليس الديمقراطيّة بمفردها بمعزلِ عن أشكال تمثّلاتها العديدة، ذلك أنّ الديمقراطيّة من دون وجود نظامٍ يفرضها ويقنّن ممارستها، لن تكون سوى مجموعة من المثل الأخلاقيّة التي لا تقوم على سندٍ أو دعامة. أيّ أنّ الديمقراطيّة بوصفها مفرداً من دون آليّة، ليست سوى نظريّة يمكن للعرقي والطائفي تبنّيها كخيار أخلاقي منفصل عن أيّ عبءٍ ماديّ ممارساتيّ. بمعنى؛ الإيمان بالديمقراطيّة بلا أدوات ليس سوى ترف تنظيري، يكون مفيداً فقط؛ لو تبعهُ استخلاصٌ ممنهجٌ لأدوات حضاريّة وتقنيّة وقانونيّة من أجل تطبيقه، وتسطير العقوبة والوسائل الردعيّة بما فيها السالبة للحريّة لمن يخالفهُ أو لا يلتزمُ بمحدّداتها.
ديمقراطيّة بدون نظام
يحدثُ أن يكون لدى الطوائف بعامة، نظامٌ معيّن لكل طائفةٍ يسير على أصولٍ وثوابت تنظم العلاقات بين أفراد الطائفة الواحدة. بيد أنّ هذا النظام عرفياً غير مقنّن تماماً، بحيث لا يتمّ فيه انتخاب وجوهٍ تمثل الطائفة من الداخل إلا ما كان استشارياً؛ أيّ بعبارة أخرى: نمط اتفاقي بين وجهاء الطائفة لاختيار الوجوه الممثلة لمصلحتها، بشرط أن تكون ضمن العلاقة مع غيرها من الطوائف، كما هو حاصل في لبنان.
غير أنّ اللافت للإنتباه أنّ الاشتراط الطائفي في النظام السياسي اللبناني لا يستند إلى قانون وإنّما إلى عرف متواتر، على أنّ هذا العرف الذي يمتدّ من نهاية الأربعينيات الماضية إلى اليوم باتَ عُرفاً مُلزماً. وفي القانون هنالك مبدأ يقول بأنّ “المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً”، وفي أحيان كثيرة يتقدّم العرف ليصبح ملزماً قبل القانون وبه يحكم القاضي في المحاكم ما لم يكن فيه مخالفة للنظام العام، كما في أحوال التجارة.
يختلف أمرُ ما سبقَ عن حال الأعراق المتباينة، فالأمازيغ بعمومهم (الشاويّة والقبائليّة والطوارق والميزابيّة.. وكلها صور للعرق الأمازيغي)، لا ينتظمون في نظامٍ عرفي واحد، بحيث يصبح قانوناً بموجبه يستفيد العرق من التمثيل النيابي. وإنّما يخوض الأشخاص معاركهم الانتخابيّة بوصفهم أفراداً قد يستخدمون الخطاب العرقي من أجل التحشيد على نحو ما تستغل الأحزاب الدينيّة العقائد من أجل المصلحة الحزبيّة. فالجزائر مثلاً عرفت رئيسين أمازيغييْن، الأول، هواري بومدين (1978-1932) الذي حكمَ الجزائر من 1965 إلى 1978؛ والثاني، اليمين زروال (مواليد 1941) الذي كان رئيساً في الفترة ما بين 1994 حتى 1999. وبالتالي يتبدّى هنا أنّ الإشكال الذي يقعُ عادةً بين أمازيغ وعرب المغرب الكبير، لا يتّخذ أبعاداً نهائيّة بحيث يُعاقب الناس على غرار حدوثه بالتصويت، وإنّما هو اشتغالٌ محليّ غير أهلي.
الديمقراطيّة من دون وجود نظامٍ يفرضها ويقنّن ممارستها، لن تكون سوى مجموعة من المثل الأخلاقيّة التي لا تقوم على سندٍ أو دعامة. أيّ أنّ الديمقراطيّة بوصفها مفرداً من دون آليّة، ليست سوى نظريّة يمكن للعرقي والطائفي تبنّيها كخيار أخلاقي منفصل عن أيّ عبءٍ ماديّ ممارساتيّ
نجد الأمر مختلفاً عند الطوائف التي تتمأسسُ كثيراً ضمن مؤسسة بلون واحدٍ، يصبح لها حصصٌ محدّدة في المواعيد السياسيّة والاجتماعيّة. أيّ أنّ الطائفيّة أهليّة غير محليّة، تفرض من خلالها سلطة الأهالي على الدولة منح حصص ومقادير بحسب التمثيل السكاني للمناطق. وقد تصل إلى حالة من الاحتراب الأهلي بين الطوائف أو ضد الدولة، كما حصل في لبنان والهند والعراق (وإنْ بشكلٍ غير معلن) على سبيل المثال، وللحالة السورية إستثناء خاص، لذلك يبقى مثالها مستدعياً للكثير من التخصص، فيما يبقى نوعٌ من الخلاف الجهير الذي لا يصل إلى حدود التماس العنفي لدى الأعراق، كما حدث في الريف المغربي (الأمازيغي) والمخزن المغربي العربي (ينظر إلى مقالٍ سابقٍ ليّ يفصّل في جذور العلاقة: هنا).
لكن أيّاً من الإثنين هو الأقربُ إلى تشكيل الهويّة الوطنيّة للدولة؟
في الصراع الطائفي، يكون الهدف بلوغ الحكم وتقرير مصير الآخرين، بينما تهدف العرقيّة إلى التفضّل واحتكار الشرف الوطني أكثر من كونها رغبة في بلوغ الحكم والاستحواذ على السلطة، من هنا تبدو السلطة عند الطائفييّن حقيقيّة وواقعيّة فيما تتراءى لدى العرقيين سلطةً شرفيّة لا غير، ومن النادر حقاً أنّ تكون غير ذلك. يعتبر غالب الجزائريين (العرب) الرئيس هوّاري بومدين (الأمازيغي) رمزاً سياسيّاً كبيراً، أكثر من الرئيس الأول بعد الاستقلال أحمد بن بلّة (العربي)، برغم علوّ كعب الأخير في الثورة الجزائريّة من الأول!
الديمقراطيّة بوصفها خياراً وحيداً ونهائياً
لا شك بأنّ الحالة الوحيدة التي تذوب فيها الطوائف والأعراق سياسياً هي إقامة نظام ديمقراطي علماني، واضح في تبنّيه لهذين الأساسين (الديمقراطيّة والعلمانيّة). ولا يكون هذا التبنّي ناجزاً إلا بالمرور على ثلاث دعائم وأصول، من دونها لا يتعدّى الحديث عن هذا النوع من الإصلاحات الضروريّة إلا ما يدخل في لزوم ما لا يلزم:
أوّلاً؛ الدستور:
لا يمكن البتة الحديث عن أيّ تغيير في المحتوى السياسي لأيّ بلدٍ إلا من خلال تعديل الدستور والنص صراحةً على إقامة نظام علماني تداولي مبني على التوافق، لا يقبل التدقيق في ديانة وطائفة المرشح والناخب في آنٍ معاً.
لكن تصطدمُ هذه الضرورة بالخيارات الشعبيّة عادةً، لا سيما إذا نجحَ أمراء الطوائف والأعراق في تأكيد الحماية الجماعيّة للأشخاص من داخل الطائفة أو التشكيل العرقي، وقد تمّ ذلك على نحوٍ ناجعٍ كما هو الوضع في لبنان مثلاً، حيث نجح الطائفيون الرسميون في تعبئة الطائفيين العُرفيين بسبب التلويح بشروط الحماية ومنافع المصلحة.
في العراق، يختلف الأمر قليلاً في اعتقادي، كون انعدام الاستقرار وتورّط الكثير من الطوائف في لعبة الاستنزاف الشعبي لمقدّراتها من خلال قمع الطائفة بالتحالف مع الأخرى، جعل المتضرّرين من أيّ تقارب غير طائفيّ مع الآخر، يشعرون بعِظم المظلوميّة واللاّجدوى.. كما هو حاصل وبوضوح عند سنّة العراق على وجه الحصر، وإلى حدّ ما لدى سنّة لبنان الذين يشعرون باليتم أكثر ممّا يشعرون بالمظلوميّة، كون الطوائف في لبنان تأتزرُ بالوجاهة، على عكس العراق حيث المصلحة تقوى لدى الطوائف من الوجاهة، لذلك نجد تنافساً طائفياً من داخل الطائفة نفسها، كما مثّل ذلك سابقاً عمّار الحكيم عند الشيعة وما يقوم به مقتدى الصدر حالياً بشكلٍ أكثر حداثةً، لا سيما عندما فجّر مفاجأة داخل طائفته قبل غيرها، بتحالفه مع الشيوعيين قبل الانتخابات النيابيّة المزمع إجراؤها في ذلك الحين بتاريخ أيّار/ مايو 2018.
يعتبر غالب الجزائريين (العرب) الرئيس هوّاري بومدين (الأمازيغي) رمزاً سياسيّاً كبيراً، أكثر من الرئيس الأول بعد الاستقلال أحمد بن بلّة (العربي)، برغم علوّ كعب الأخير في الثورة الجزائريّة من الأول!
ثانياً؛ التنازل عن ديمقراطيّة “الحين” مقابل ترسيخ ديمقراطيّة “الأبد”:
هنالك مسائل عدّة لم يعد يصلح النقاش حولها، هذه المسائل/ المكتسبات بلغها الانسان المعاصر بعد سيلٍ لا ينضب من التضحيات الكبيرة، لا يمكن على الاطلاق وبأيّ حالٍ من الأحوال، الاستفتاء عليها أو التنازل عنها من أجل إرضاء الأفراد والجماعات.
مهما تكن الظروف، لا يمكن أنّ نستفتي الناس على قضايا محسومةً بحكم التاريخ والحداثة من قبيل المساواة والانتخاب العصري وحماية الأقلّيات والإثنيّات العرقيّة.. ومثلما هنالك مؤسسات لا تُنتخب كالجيش والشرطة والقضاء، فثمة الكثير من قضايا الحريّات والحدّ من النفوذ الديني والسلطة العشائريّة.. ليس في الوسعِ القبول بأيّ شكلٍ من أشكال التنازل عنها مقابل وهم هوائيّ قوامهُ: تأسيس نظام ديمقراطي (غير صحي)، نقايض فيه الاختيار الحرّ بالطائفيّة والميسوجينيّة (كره النساء) والعشائريّة والولاءات القرابيّة.
ثالثاً؛ تأكيد سلطة العلمانيّة (فصل الدين/ الطائفة/ العرق/ القرابة عن الدولة) بقوّة القانون:
في حالة ما كان القانون يرسّخ الطائفيّة وأنظمة القرابة والعلاقات العشائريّة يكون المروق عنهُ والتملّص من أحكامه ثورةً مكتفية بأسبابها. هذا التصوّر ليس ناجماً عن بذخٍ تنظيري أو فائضٍ نضالي وإنّما هو استجابةٌ عاديّة للمعاني الطبيعيّة للأشياء. ذلك أنّ هذا السير المنطقي للعناصر المكوّنة للتاريخ يفرض علينا التسليم تماماً والوثوق بما حصّله الإنسان في صراعه المديد مع الأشكال التقليديّة لأنماط الحياة عند البشر قبل الوصول إلى الحضارة.
العلمانيّة باختصار، هي حماية الخيار الديني الفردي من خيارات عقائديّة جماعيّة أخرى، من شأنها العمل على تعديل أو منع رسمي للشعائر الخاصة الممارسة ضمن المجال الخاص للأفراد. وبالتالي فالعلمانيّة هي الآليّة الإجرائيّة الوحيدة التي تنشط في الفضاء العام
العلمانيّة التي تكتسب سمعة سيئة في بلادنا ناشئة بالضرورة عن سوءٍ فهمٍ كبير. فالعلمانيّة بالدرجة الأولى ليست نقيض الدين، كما أنتج الفهم الخاطئ لها في ألبانيا الشيوعيّة إبّان حقبة الاتحاد السوفياتي حين سنّت قانوناً يكافح الدين، وكما روّج الاتحاد السوفياتي قبل انهياره لما سمّاه الالحاد العلمي الذي يستجرّ قمع المظاهر الدينيّة ويؤسس لدسترة رسميّة لتجريم الدين كما حدث.
العلمانيّة باختصار، هي حماية الخيار الديني الفردي من خيارات عقائديّة جماعيّة أخرى، من شأنها العمل على تعديل أو منع رسمي للشعائر الخاصة الممارسة ضمن المجال الخاص للأفراد. وبالتالي فالعلمانيّة هي الآليّة الإجرائيّة الوحيدة التي تنشط في الفضاء العام، هذا الأخير يعرّفه المفكر المغربي حسان الباهي بدقّة مبسّطة: هو الفضاءُ الوحيد الذي تنتهي عنده كل الفضاءات الخاصة.
ولأنّ العلمانيّة باتت حقّاً إنسانيّاً بامتياز، ولعلهُ من أهم الحقوق قاطبةً، باتت تُعدّ أساساً وضرورةً وضمانةً للأعراق والطوائف في الحيز الدستوري المتّفق عليه (الدولة)، إذ لا يمكن حمايتها (الطوائف والأعراق) بوصفها وجوداً ماديّاً وتاريخياً لأشخاصٍ بمشتركٍ واحد إلا بواسطة القانون. ولا يمكن أن يكون هذا القانون إلا دستوراً كاملاً يتّصف بالسموّ ويشتمل على النفاذ، يسيّر البلاد ويُخضع المؤسسات والأفراد لسطوته، تحتلّ فيه العلمانيّة مكاناً يسمّى في الدساتير بـ المواد الجامدة أيّ تلك المواد الدستوريّة التي لا يمكن أن يلحقها تعديل، لأنّها تشكل النمط العام الذي تقوم عليه البلاد، وبدونها تنهار المؤسسات وتسقط الدولة.
خاتمة
تعلّل جوديت باتلر في كتابها الحياة النفسيّة للسلطة سبب غضب المرء من ارتباطه بالآخرين، بسبب تغيّر شروط الارتباط وخضوعهِ إلى المرونة المستمرّة، مؤكدّة على ضرورة أن لا يقطع الغضب أواصر الارتباط بالغير. تعتقد باتلر بطبيعيّة الغضب الناشئ عن ارتباط غير عادل مع الغير، فيما يغدو الغضب انتحاريّاً، بتعبيرها، إذا أوغلت الأنا في استقلالها عن الغير بشكلٍ يوازيه تماماً على أن يتقاطع معهُ حالَ الاختلاف بشكل عنيف، ممّا يسهمُ في ممارسة هذا الاستقلال ويرتّب آثارهُ العنفيّة في الفضاء العام.
ويتجلّى هذا الغضب الانتحاري، في اعتقادي، أحياناً بوصفه مشروعاً عند الأعراق والطوائف، عندما يتحوّل إلى ثورةٍ تعتقد بحقّ طائفيّ مهدور لا يسهم تميّزه عن غيره إلا باحتلاله مكان هذا الغير وإزاحته تماماً من على السلطة.
من أجل ذلك، وجبَ التمييز هنا بين ثورةٍ تنشد مطالبَ غير تداوليّة وناشئة عن تصوّر عرقي وطائفي؛ وثورةٍ تبحثُ عن قيامِ علمانيّة كاملة محميّة بالدستور ومكرّسة بقوّته وليس بموجب افتراض احتماليّ.
من دون هذه لا قوّمة إلا للذي قامَ من قبل واستمر، أو نصبح كالذي قال فيه مارك توين “كذّب نبأ موتهِ واستمرّ..“.
[1] – صاحب هذا النحت اللغوي التفاؤل المأساوي هو جان جوزيف مونييهْ (Jean Joseph Mounier) وهو رجل سياسي فرنسي ينتمي إلى اليمين الليبرالي، عاشَ ما بين (1806-1758)، أّيّ قبل الفيلسوف الماركسي صاحب دفاتر السجن الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) الذي عاشَ ما بين (1937-1891)، صاحب المقولة المعروفة تشاؤم العقل تفاؤل الإرادة. لعل القارئ لاحظَ قوّة التشابه بينهما.