المجتمع يكسب قوامه بالدولة فقط. الدولة شرط لما عداها ولا شرط عليها. هي وعاء انتظام المجتمع المانع للفوضى أو العشوائية. تكون الفوضى عندما لا يكون للمجتمع رأس. تكون العشوائية عندما يكون للمجتمع رأس لكنه ضعيف البصر والبصيرة. في الدولة الحديثة تتقيّد الدولة بالدستور، ويتقيّد المواطنون بالقانون. يصير الأفراد مواطنين عندما يشاركون في وضع القوانين والدستور. يعودون رعايا عندما يفقدون هذا الحق.
لا بدّ للدولة الحديثة أن تنغرز في وعي المواطنين، فتكون ولاية المجتمع على نفسه، أو ما يسمى ولاية الأمة على نفسها، كما يقول بعض فقهاء السنة والشيعة. لا تكون ولاية الأمة على نفسها عندما يقبض الاستبداد على زمام السلطة ويلغي مشاركة المواطنين، أو عندما يفرض دعاة الشريعة تفسيرهم لها على الدولة والقانون ويسمون ذلك تطبيق الشريعة، في حين أنه تطبيق وجهة نظر لطرف من أطراف المجتمع على الآخرين.
كل دولة مصطنعة لأنها من صنع الإنسان. كل دولة يدعي أصحابها أنها إلهية هي في الحقيقة دولة صنعها بشر يدعون لأنفسهم سلطة منحهم الله اياها. كل دولة تنشأ في الأصل بالغلبة. يفرضها بعض سكانها من الطبقة العليا، أصحاب القوة والقدرة على القسر والإكراه. أو تنشأ الدولة نتيجة قرارات تتخذها سلطة أجنبية، أيام الاحتلال، ثم تتحرر بطريقة أو بأخرى. وتصبح مع مرور الزمن دولة أرادها سكانها. لا تنشأ الدولة بعقد إجتماعي؛ ينشأ العقد الإجتماعي بعد نشوء الدولة بالغلبة. فتنال الشرعية برضى أهلها بها. هذا الرضى هو أساس الشرعية. لا شرعية إلا ما يمنحها المواطنون، لا الرعايا، لدولتهم. مع هذه الشرعية تصبح الدولة إطاراً ناظماً للمجتمع؛ تنغرز في وعي المواطنين. وفي الحالة المثلى يصير المواطنون هم الدولة.
الدين السياسي، سواء كان إسلامياً أو مسيحياً، أو ما تفرّع عنهما من مذاهب، يلغي الدولة. أي يسحب منها الشرعية. إذ يتشكل حينها المجتمع من طوائف لا من أفراد. الطائفية شكل من أشكال الإستبداد، إذ تفرض على الأفراد الإنتماء لجماعة غير الدولة. لا حق لطائفة، مهما كانت، على الدولة. حق الدولة على الطوائف هو أن تلغي نفسها، أو ينحصر دورها في تأدية الطقوس الدينية. يُخرَج الدين من المجتمع السياسي، ويصير خارج الدولة. مكونات المجتمع هم الأفراد لا الطوائف. ينوب الأفراد المنتخبون وحدهم عن الناس في البرلمان، ولا تنوب الطوائف، لأنها مهما كانت لا بدّ أن تتنازع على الحصص وتعتبر الدولة مصدراً للغنائم وعلى الآخرين أن يؤدوا ما عليهم (ضرائب)، لتنهبها الطوائف، أو أكباشها، في كيان حيث تحل الطائفة مكان الدولة.
تتناسى قصداً تلك الايديولوجيا الوهمية الكاذبة (اللبناني المغامر في بلاد غربية، مجترح العجائب) أن معظم اللبنانيين في الهجرة فقراء مثل معظم البلدان التي وصلوا إليها، وأن البعض الذين أصابوا ثروة هم بعض قليل، يكاد يُعد على الأصابع
ما يُسمى الميثاق الوطني وهم كبير إذ تطغى سلطة الطائفة مكان العقد الاجتماعي. تطغى الطائفة على الفرد فتصادره منذ أن يولد. وتطغى على الدولة لتجعل منها مصدراً للغنائم. الطائفية في لبنان استبداد مزدوج. الأول بسط “كبش” الطائفة (أو أكباشها) السلطة على أبنائها. الثانية استبداد الطوائف بالدولة. اذ تستطيع أي منهم عرقلة عمل الدولة بوضع فيتو، وعرقلة ما يسمى وهماً “الميثاقية”.
الأهم هو أن كل ذلك نقيض أساسي للدولة. فإذا كانت هذه تغني الانتظام، فإن النزاع المسلح حيناً والسلمي حيناً آخر وشبه المسلّح (تهديد بالسلاح) على الدوام، والتوتر الدائم بين الانتظام والنزاع، يهدّد بالخطر اللبنانيين، ويبقيهم على حالة من القلق. إذ لم تقع الحرب اليوم، فهي ستقع غداً أو بعد غد، أو في زمن قريب.
الإستقرار معدوم أو شبه معدوم. الازدهار الذي تحقق، ولو نسبياً، بعد اتفاق الطائف نُسِفَ من أساسه. زُوّر التاريخ، واعتبرت السنون الثلاثون الماضية عهد فساد. فدُمرت منجزاته من الكهرباء (توفّر التيار بالكامل طيلة أيام الأسبوع والشهر على مدى عام 1997)، الى الهاتف، والطرقات، الخ.. وصولاً الى التدمير الممنهج الذي طال مرفأ بيروت والذي ما كان يجب أن يحصل لعلم جميع أركان الدولة بوجود النيترات والخطر الداهم.
هي طبقة سياسية. طبقة تحكم شعباً لا تريده. هي تشن ضده حرب إبادة، بالقتل أولاً، ثم تفتح باب التهجير لكبارهم وصغارهم، لأصحاب المهن الحرة والعاملين الحرفيين، وللعمال المهرة، وللعمال غير المهرة. في كل يوم ترندح محطات التلفزيون بسوء الأحوال وسوداوية الوضع (لدفع اللبنانيين الى الهجرة) ثم تذرف بعض الدموع، ثم تذيع عن إنجازات لبنانيين في الخارج، وكأن الخارج هو الجنة مع قول أحد قياديي لبنان بأنه الجحيم. الجحيم لمن يبقى. جحيم الفقر الذي يطال أكثر من 90% من السكان، ثم المجاعة، وبالتأكيد الهجرة لمن استطاع إليها سبيلاً.
طبعاً زوّدت الايديولوجيا السائدة شعب لبنان بفكرة زائفة عن اللبناني المغامر في بلاد غربية، مجترح العجائب، الذي كيفما رميته جاء وافقاً على قدميه. اللبناني الذكي العبقري المطبوع بمواهب ليست لغيره. يصيبه النجاح أينما حل في بلدان الغرب. أخرجوا اللبناني من لبنان فتروا عجائب الانجازات. تتناسى قصداً تلك الايديولوجيا الوهمية الكاذبة أن معظم اللبنانيين في الهجرة فقراء مثل معظم البلدان التي وصلوا إليها، وأن البعض الذين أصابوا ثروة هم بعض قليل، يكاد يُعد على الأصابع. الآن أصبحت دنيا الانتشار(المصطلح الجديد للاغتراب). في استخدام تعبير الانتشار تلميح لتلك النشوة التي تصيب الذكر عند “انتشار” أحد أعضائه. بلد امتلأت نفسه شبقاً وشهوة عندما أصابت أزمة 2008 المالية كل العالم عدا لبنان. تحققت نبؤة “الفرادة”: لبنان بلد فريد بين بلدان العالم لا يصيبه مثل ما أصابهم. كأنهم “شعب الله المختار”. الشعار الذي يضعه جيراننا وأعداؤنا الصهاينة على اليهود.
ما زال اللبنانيون أعداء أنفسهم. النزاع بين الطوائف هو في الوقت عينه نزاع بين كل لبناني وكل الآخرين. فردية اللبناني كاذبة. ولاء اللبناني لكبش الطائفة يحيله عدوا لقريبه أو جاره. اكتساب رضى كبش الطائفة أهم من صداقة الجار أو قرابة النسيب. لا يجيد اللبنانيون العمل سوية، حتى فرقهم الرياضية لا تحقق نجاحات تذكر بسبب المنافسة بين أعضاء الفريق التي تعبر لا عن قبول الغير بل رفض الغير وغير المتشابه. كل من اللبنانيين يصرخ منادياً الدولة عند مصيبة تحل به (كانقطاع التيار الكهربائي، أو دخول السيول الجارفة الى المنازل، أو طوفان المجارير فوق طاقتها عند المطر الغزير). هو يرفض الدولة التي وحدها تعين في هذه الظروف ويدعي الحاجة إليها في الملمات.
دولة العمائم، فوق النقاش، فوق القانون، وفوق الدستور. هي تحمي الطبقة الفاسدة، لكنها تغذيها وتديم وجودها وتمنح الحصانة للمرتكبين فيها. بفضل دولة العمائم امتدت الحصانة لتشمل كل الطبقة الحاكمة بما فيها أصحاب البنوك
بعد عام 2005 وكلنا نعرف رمزية هذا العام، انقضت فترة 16 عاماً معظمها فراغ في أعلى مراكز الدولة (رئيس جمهورية أو رئيس حكومة) بينما رئيس المجلس يدير البلد متجاوزاً حدوده الدستورية بسبب الدولة داخل الدولة. الدولة التي تديرها الدولة الموازية التي تتمتّع بأوهام فائض القوة وتملي إرادتها على دولة كل اللبنانيين بكل عشوائية وفوضى. هذا ينتج نزاعاً مقلقاً بين اللبنانيين، فكأن الأمر لا حل له. دولة العمائم تدير الدولة المدنية. ديمقراطية النظام تسمح بالحوار والمناقشة لكل الأزمات والتناقضات التي صارت مصائب وكوارث إلا ما يتعلّق بدولة العمائم، فهذه فوق النقاش، فوق القانون، وفوق الدستور. هي تحمي الطبقة الفاسدة، لكنها تغذيها وتديم وجودها وتمنح الحصانة للمرتكبين فيها. بفضل دولة العمائم امتدت الحصانة لتشمل كل الطبقة الحاكمة بما فيها أصحاب البنوك.
الانتظام في الدولة والمجتمع يحتّم وجود دولة واحدة، لا ازدواجية تقبض على السلطة فيها الدولة غير الرسمية. في الدولة يخضع الجميع للقانون. في الدولة الموازية هناك طبقة خارج الدستور وفوق القانون. الاستعلاء الأخلاقي (الوهمي والساخر) هو ما يجعل سلطة فوق الدولة تديرها مع الادعاء بأنها خارج السلطة، أو انها ما أن حلّت في السلطة حتى واجهتها المشاكل والمعضلات؛ دولة العمائم فارغة. تفتقر الى الفكر والتفكير والمسؤولية. لا برامج لديها. بين يديهم دولة لا سياق لها. لا تتحمل مسؤولية ما يحدث أو هي عازفة عن تحمل ما يحدث، وكل ما يحدث هو من صنعها بحكم أنها تدير البلد بشكل غير رسمي.
الانتظام في الدولة هو المجتمع. الدولة الحديثة هي المجتمع. بالتعريف كل فرد عضو في المجتمع. هو عضو في الدولة. انتظام الدولة يعني انتظام المجتمع. ليس بالقمع والقسر والإرهاب كما تفعل أنظمة الاستبداد والدين السياسي. الاستبداد يلغي السياسة والدين يصادرها. الدين السياسي يلغي السياسة ويصادر الدين. الاستبداد يجعل من الطاغية ما يشبه الإله. والدين السياسي يعتبر نفسه ممثلا عن الله. هما دائماً في نزاع مع المجتمع ودينه. الاستبداد يلغي السياسة، وهي تسويات وتراكم تسويات. مصدرها الحوار الدائم بين الناس من أجل الوصول الى نقاط مشتركة بين الناس؛ نقاط مشتركة تجعل العيش المشترك ممكناً. الدين السياسي (والطائفة دين سياسي) يلغي السياسة؛ يتبنى وجهة نظر آحادية. يرفض الآخرين. يعزل الخصوم. يكفّر المبدعين والمبتدعين. يشن حرباً على المؤمنين. يجعل الطقوس مقياس الخطأ والصواب. يفرّغ الإنسان من جوانيته. والحقيقة أن الروح تفقد معناها.
الدولة الموازية تبدأ من النهاية، تهمّش القانون، تعطّل الدستور. تلغي إمكانية العيش المشترك. تزج المجتمع في نزاع دائم. التناقض بين الدولة الموازية والدولة الرسمية هو نفسه التناقض بين الانتظام والنزاع. الفرق ليس كبيراً بين حقوق الطوائف والحقوق الإلهية. وفي الحالتين يعتبر كل منهما أن له حقاً على الدولة كما له حق على الله. وفي الحالتين تفقد حقوق البشر أي اعتبار لها.
يُصنَع الانتظام بالسياسة مهما كان تعددياً وحاوياً على تناقضات طائفية أو إثنية أو عشائرية، بينما يُدمّرُ المجتمع بالنزاع. الانتظام حالة اجتماعية ناتجة عن تطوّر شعب من الشعوب. النزاع حالة من التأخر. أن ينتظم الفرد في جماعة معناه أن يطيع القانون من تلقاء نفسه وأن يطيع الأوامر التي توجه إليه ممن هو أعلى رتبة قانونية.. وأن يخالفها متى تناقضت مع ضميره. بالانتظام يسلك الناس سلوكاً مشابهاً في الاحتيال على القانون حتى لو كانت أراؤهم مختلفة. ليس الانتظام هو التشابه بل التنوّع والاختلاف إلا فيما يعيق القانون والمجتمع. التشابه ليس ضرورياً لمجتمع ذي عيش مشترك ولا لانسجامه، بل ربما كان الاختلاف أجدر. التشابه ينتج مللاً. وعلى كل حال هو ليس ممكناً إلا بالإكراه. الاستبداد السياسي والديني يريد ناساً متشابهين في المجتمع؛ يكره الاختلاف. يرى في الاختلاف خطرا عليه. إذا كان جميع الناس في مجتمع متشابهين فهم جميعهم يشكلون واحداً. واحد يشبه الأمر الحاكم. واحد مكرهاً أن يكون واحداً. التنوّع في المجتمع هو الذي يخلق حيوية وإبداعاً وتجدداً.
الدولة الموازية تبدأ من النهاية، تهمّش القانون، تعطّل الدستور. تلغي إمكانية العيش المشترك. تزج المجتمع في نزاع دائم. التناقض بين الدولة الموازية والدولة الرسمية هو نفسه التناقض بين الانتظام والنزاع
لا تنمو المجتمعات وتتطوّر إلا من خلال التناقضات. السياسة مهمتها وضع الناس في إطار قانوني. الإطار يخلق انتظاماً. هو انتظام غير المتشابهين. انتظام المختلفين لا المتشابهين. تنتج الصناعة منتوجات متشابهة. وهي تفشل إذا كان الأمر غير ذلك. تنتج الطبيعة كائنات مختلفة، وإذا افرغت من هذا التنوّع تذوي ثم تموت. هذا هو صراع الطبيعة ضد أعدائها؛ صراع الطبيعة والصناعة. يستطيع الله خالق الطبيعة تحمل الاختلاف؛ يريد ذلك. يعرف أنه قادر على استيعابه. لا يستطيع الإنسان سوى خلق المتشابه والمتشابهين. لا يستطيع تحمّل الاختلاف. لذلك يميل الإنسان لتدمير الطبيعة. تكثر لدى البشر أنظمة الاستبداد التي تريد متشابهين. الطبيعة تحاول الحفاظ على تنوعها في مواجهة الإنسان. الطبيعة واحد يحوي تناقضات؛ تناقضات لا حد لها. الإنسان واحد يكره التناقضات. لا يستطيع استيعابها. عجزه عن ذلك يدفعه الى الاستنجاد بالله. الله والطبيعة في جانب، الإنسان والتشابه في جانب آخر. الاختلاف يمنح الإنسان المعنى. التشابه يسلبه اياه. لا معنى للانتظام مع التشابه. المعنى هو في الاختلاف. هنا دور السياسة. السياسة ضرورة لكل المجتمعات الاختلافية؛ هي ملغاة في مجتمعات التشابه ومجتمعات الاستبداد. لا ضرورة للانتظام في مجتمع التشابه. الاختلاف ضروري. النزاع سعي وراء التشابه. ينجح بالقسر والإكراه. لا إكراه في الطبيعة. لا إكراه في الدين، عندما كان الدين يجري مسار الطبيعة. صار قسرياً. يحدث الإنتماء إليه بالإكراه على يد السلطة السياسية والدينية. صار يصادر المرء من حين ولادته. يصادرك على الأرض، ويلوّح لك بالخلاص في الآخرة بعد الموت.
الدولة كيان مصطنع يصنعه الإنسان. لكنه كيان يرفض النزاع. فهي الى جانب الطبيعة والحرية، الدولة وعاء الانتظام. وعاء الحرية. دولة المواطن لا السلطة. المواطن الذي يشارك في مصيره. الذي يقرره ولا يُقرر له أو بالنيابة عنه. دولة الاستبداد هي دولة النزاع، وانعدام الحرية، والقسر، والإكراه. هي حيث الأخلاق نابعة من المواطن. من ضميره، وليست شريعة تُملى عليه من الخارج. دولة المواطن تتماهى مع الأخلاق. دولة الطائفية والدين الخلاصي ليست دولة حقيقية. هي مجرد سلطة تُملى على الفرد من خارجه وتصنع له الأخلاق؛ تمليها عليه. دولة الانتظام هي دولة انتظام المرء مع نفسه وضميره. ليست دولة “هُم”؛ هي دولة “هو”. “هو” المتجسّد في الدولة أو المتجلي فيها. دولة “هو” الذي تتشكل منه السياسة في علاقاته مع الآخرين المختلفين.