لم يمت طلال سلمان فجأة. طلال سلمان مات على مدى عمر. عمر خيباتنا وانكساراتنا وهزائمنا، اللبنانية والعربية والعالمية.
لم يمت طلال سلمان فجأة. طلال سلمان مات على مدى عمر. عمر خيباتنا وانكساراتنا وهزائمنا، اللبنانية والعربية والعالمية.
خضراءَ كانت حياةُ الفتى النحيلِ الأسمرِ، الذي لم يشتكِ يوما من هولِ الصعابِ التي واجهته على امتداد 85 سنة. خضراءَ طريقُه، أزهرت على الدروبِ التي سلكها كلَّها، متمسكاً بالحب، حب الناس، ومعهم ولأجلهم، مضى في طريق مكافحة الفقر والظلم، والنضال في سبيل الحق.
كلّ صباحٍ كان يدخل إلى كلّ البيوت في العالم العربي ليقرأوه مع قهوة الصباح. ما كتَبَهُ طلال سلمان إنما كان يستشرف المستقبل ويقول للطُّغاة اسمعوا وَعُوا، لكنّهم كانوا صُمًّا بُكماً عُمياً فهم لا يفقهون.
يمضي البشر إلى أقدارهم كخطوات عجّلى، مثلهم في ذلك مثل الأشياء التي تأتي وتغيب. هذا النحو المزمن من التلاحق بين بدءٍ وانتهاء، يحوّل الوجود برمته إلى حدّين متجاورين: واحدهما يفتتح المسار ويكتب الخط ويدوّن البداية، والآخر يسدل الستار ويمحو الخطو ويُحلّ النهاية.
حين تترجل وترحل عنَّا تزداد أوجاعنا.. وتزداد أحزان عروبتنا. يبدو أنه لم يعد يكفي أن تُمتهن عروبتنا وتُمتهن كرامتنا كل يوم بفضل حُكامنا؛ حُكام الطوائف والفواجع؛ فيأتي رحيلك ليزيدنا احباطاً نحن أبناء الجيل العربي الذي آمن بجمال عبدالناصر.
أنتَ لستَ ميّتاً لأرثيك. أمثالك القلّة، لا يموتون. لذا، سأخاطبك حيًّا تُرزق. أخفي حزني وأدسّ عيني في أُفقك الآتي: أنتَ مَنْ يستقبله التاريخ، ويصونه من النسيان. صعب جدًّا أن لا تكون قامتك ملء خزائن المعرفة. أنت الآن لستَ واحداً تنضمّ إلى قافلة الخالدين. هناك أراك في حضورك الدائم.
لم تكن اللقاءات الطويلة التي أجريناها مع مؤسس جريدة "السفير" طلال سلمان، نهاية العام 2016، مقابلات بالمعني التقليدي الذي نمارسه كصحافيين. كانت هناك أسئلة وأجوبة، هذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أن سلمان كان راغباً في قول كلّ شيء. أطلق على الغرفة التي استقبلنا بها على مدى شهور، "غرفة الاعترافات"، وفيها اعترف. ضحك، وبكى. شتم وسخر. فاخر بمواقف، وأعرب عن ندمه على مواقف أخرى. سمّى الأشخاص والأمور بأسمائها. باح بالكثير عن عصر تحتفظ ذاكرته بمحطاته المضيئة، جازماً بأنه انتهى.
في إحدى الجلسات المعدودة التي تشرّفت بالمشاركة فيها، مساء الخميس من كلّ أسبوع في مبنى "السّفير" في منطقة الحمرا، طلب منّي الأستاذ طلال سلمان أن أقترب منه قليلاً ليهمس لي بأمر. كان يطلبُ أن أجلسَ بالقرب من المقعد الخاصّ به في صالون مكتبه، برغم أنّه كان قد تعرّف عليّ منذ فترة وجيزة جدّاً حينَها.
إنه الأستاذ طلال سلمان. لا حاجة لتعريفات إضافية، فالأستاذ طلال لم ينل لقب "الأستذة" عنّوة أو خوّة أو سطواً على مهنة ليست من قماشته.. كأنما طلال سلمان المولود ذات يوم من إحدى السنوات، وُلِد ليكون عَلَماً في جبين الصحافة في لبنان منذ الأخوين اللبنانيين سليم وبشارة تقلا مؤسسي جريدة "الأهرام" في أواخر القرن التاسع عشر..