هو طلال سلمان، الصحافي العربي اللبناني، الذي توقّف نبض قلبه في هذه الحياة، ليعزف وجِيبُه في سماءات مطلق الحياة لحْن عذوبة الحياة في تشبعها بالمثل وبالكفاح من أجل المثُل.
لسنوات تجرّع الرّجل خيبات، انْكسارات ونزيف جروح هذا الوضع العربي. كابر برصيد الأمل الذي غذّى نفسه به، وجعلهُ زوّادته “على الطريق” ولعقود.
كتاباته “على الطريق” لم تكن مجرد مقالات، أو مجرد افْتتاحيات ونصوص… كانت إضاءات سياسية بقلم شاعر، منحوتات استشرافية بإزميل مفكر وتشريح جراحي لمشرط سياسي… وكلها كانت كائنات متناسلة من قلم صُحفي، مهما تَزيّتْ وتوسّلت بمفردات مجالات سياسية وثقافية وعلمية أخرى… هو الذي جعل الصحافة عقيدته، مبتدأ يومه وخبره وابتهالات في محراب “السفير”.
“السفير”، كانت الجريدة الأكبر والأعمق من صحيفة… كانت لِوحدها وطن عربي كامل، شاسع ومفتوح على هذا الوطن العربي المثْخن بالجروح وبالنكسات، والضّاجّ بالأنَّاة والآهات، في تدافُعها وتضادِّها مع الآمال والتطلّعات المخفورة بزغاريد التوْق للفرح. هي جريدة توغلت في برْزخ لُجّة اضْطرام تحولات وأعاصير التاريخ، حتى نضب مِدادها ونفذ صبرها وبُح صوتها وهي تُؤَذِّن بالقول العربي في لبنان، ولا تُفهم. وتعزف اللحن اللبناني في الوطن العربي ولا تُطرب. وباتت هي بلا صوت، بعد أن مارست لعقود كونها “صوت الذين لا صوت لهم”. إرادتُها، إرادته، خارت في مواجهة موضوعها فأقفلها صاحبُها، في مطلع عام 2017، ومعها خسرت الصحافة العربية والسياسة العربية والأمل العربي معقَلاً أو موقعاً أو صرحاً في صراعات الوجود، أو بستاناً معنوياً لزراعة الورود.
نشترك في المغرب مع النسيج الإعلامي والسياسي والثقافي العربي في ألم فقْد علم.. وننفرد عن ذلك النسيج بحقنا في دموع مغربية على غياب قلب لبناني بعض نبضه، وأكثر من بعضه، كان مغربياً
حياة المناضل، الأديب والصحافي طلال سلمان، خطَّ لها غايات بصلابة جبال وتاريخ “البقاع”. أوّلاها فلسطين، الغاية الأولى، الدّائمة الرّاسخة والأخيرة… الوطن العربي، وحدةً واستقلالاً، المسلك الذي يوصل إلى فلسطين، والديموقراطية ثقافة وممارسة، في الدولة وفي المجتمع، الغاية التي هيّ نسْغُ الغايات والتي تنصهر فيه الوسيلة بالغاية… غايات ناء وطن عربي بكامله على حملها… بعثرها، أتلفها، ضيّعها وأهال عليها غبار معارك مفاخرات قبَلية أو غبار تقادم لتعثرات ولإرْجاءات ولانحرافات عن مسار التجدّد التاريخي… فكيف لا ينوء صدر طلال سلمان برعايتها ويعتلّ بثقلها ويتوجع بموَلدات العجز فيها… لهذا غادر طلال إلى مُطلق الذاكرة العربية، “نازحاً” من دمار ارتجاجات هذا الواقع النسبي، المحدود والضعيف المدى… هناك، سيُعاد “إنتاجه” إشعاعاً إعلامياً، سياسياً وقيْمياً يرش التربة العربية، الإنسانية والسياسية والثقافية بما اختمر فيه، هو، من مبادئ ومن مُحرّضات على التقدّم، وعلى الفرح وعلى الكرامة، الوطنية والثقافية.
عربيٌ بالفعل والحجَّة والبُرهان
نشترك في المغرب مع النسيج الإعلامي، والسياسي والثقافي العربي في ألم فقْد علم، دافق التركة الإعلامية والأدبية وخفاق بالنسائم القومية. وننفرد عن ذلك النسيج بحقنا في دموع مغربية على غياب قلب لبناني بعض نبضه، وأكثر من بعضه، كان مغربياً.
عرفته منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، في لقاء في مدينة الرباط في سياق نشاط لـ”منتدى الفكر والحوار”. ولقد غمرَني بهواه المغربي البادي من سِعة امتلاكه للقضية المغربية، في بُعديْها الوطني والديموقراطي، امتلاكاً ثقافياً وسياسياً عميقاً، أصيلاً وصادقاً. وسأعرف، وأخْبِرُ، فيما بعد، ثَراء علاقاته الإنسانية المغربية، علاقات إنسانية دافئة بالمبادئ و”بالتواطؤات” الثقافية والسياسية، مع ثُلّة من قادة الحركة الوطنية والتقدّمية المغربية، على مدى ثلاثة أجيال، في محورَيْها، المتداخليْن، السياسي والإعلامي، أمثال: عبد الرحمان اليوسفي، محمد البصري (الفقيه)، محمد باهي، وبعدَهم عبد الغني أبو العزم وعمر الشرقاوي، ثم عبد الإله بلقزيز، وكاتبُ هذا النص. عدا عن صِلاته بفاعلين مغاربة آخرين، دائمة أو متقطعة، في بيروت أو في المغرب… المغرب الذي زاره كثيراً… لنقُل عشِقه، كما أفضى لي مرة. وكان قد قبِل دعوتي لزيارة المغرب، رسمياً، لولا أزمة جائحة كورونا التي أفشلت برنامجاً دسماً لتلك الزيارة، هو من طلب أن تكون أحد مَحاوره “قضية الصحراء المغربية”. وفي هذه القضية بالذّات كان أستاذاً وأحد أعرفُ الصحافيين العرب بتفاصيلها وبمؤدياتها وبخلفيات إشعالها ضد المغرب. هو لم يكن عربياً وحدوياً بالشعارات وبالادّعاء… لقد كان كذلك بالفعل وبالحجَّة وبالبُرهان وبالثقافة وبالبيان.
مُفاعل إعلامي قوي لا يخمد
أستعيد شريط لقاءاتي معه؛ في الرباط، وبيروت، وباريس، والجزائر، وتونس، والأردن؛ في سياق مجالس وطنية فلسطينية أو مؤتمرات قومية عربية، وعلى مدى حوالي أربعة عقود… لقاءات كانت كلها تتمحور حول الشأن العربي المشترك. وكانت أيضاً غنية بملاحظاته، وبتساؤلاته وإحاطاته حول قضايا مغربية، من موْقع المغربي المقتنع بعدالة القضية الوطنية المغربية، والمتفهِّم لعُسْر الهضْم المثَقّفِيِّ العربيِّ لتعقيدات المنجز الديموقراطي المغربي.
في آخر حديث هاتفي لي معه، قبْل حوالي ثلاث سنوات، تذكرنا اتفاق التعاون (سنة 2010) بين “السفير” و”الاتحاد الاشتراكي” وقال لي الشاعر عبد الحميد الجماهري (مدير تحرير الاتحاد الاشتراكي)، هو اليوم مُؤْتمن على صوْن مضمون وروح الاتفاق، بدون “السفير”، إعلاءاً لخصوبة الصحافة العربية وحِرصاً على الاستمرارية ذاتها فيها، بتنوع الاجتهادات وتفاعل الاهتمامات قومياً…
مِثلُ طلال سلمان مُفاعل إعلامي قوي لا يخمد بطاقة الاشتعال الذاتي، دائم الإشعاع… أبداً…