في إحدى الجلسات المعدودة التي تشرّفت بالمشاركة فيها، مساء الخميس من كلّ أسبوع في مبنى "السّفير" في منطقة الحمرا، طلب منّي الأستاذ طلال سلمان أن أقترب منه قليلاً ليهمس لي بأمر. كان يطلبُ أن أجلسَ بالقرب من المقعد الخاصّ به في صالون مكتبه، برغم أنّه كان قد تعرّف عليّ منذ فترة وجيزة جدّاً حينَها.
إنه الأستاذ طلال سلمان. لا حاجة لتعريفات إضافية، فالأستاذ طلال لم ينل لقب "الأستذة" عنّوة أو خوّة أو سطواً على مهنة ليست من قماشته.. كأنما طلال سلمان المولود ذات يوم من إحدى السنوات، وُلِد ليكون عَلَماً في جبين الصحافة في لبنان منذ الأخوين اللبنانيين سليم وبشارة تقلا مؤسسي جريدة "الأهرام" في أواخر القرن التاسع عشر..
أنتمي لجيل له خصائص مختلفة عن الأجيال السابقة، التي جاءت للحياة في النصف الأول من القرن الماضي، وهي الأجيال التي عاشت أحلام السياسة، وآمال التغيير الواسع للبنى الجغرافية السجّانة لشعوبها. وربما نكون نحن أبناء ستينات القرن الماضي، آخر هذه الأجيال نحو مرحلة انتقالية، تغيب فيها السياسة كفعل مجتمعي لتيارات متنافسة، وأحياناً متصارعة على رؤيتها ومشاريعها.
كان "وكأنه علم في رأسه نار". علم الصحافة اللبنانية التي لا مثيل لها في الوطن العربي. معلّم لمن عمل معه. صحيفته مدرسة. تخرّج على يديه أعلام. مكتبه مركز لشبكة من المثقفين العرب الآتين من المحيط الى الخليج.
في الشهور الأربعة الأخيرة من العام 2016، كنا على موعد أسبوعي مع رئيس تحرير جريدة "السفير" طلال سلمان في إطار التحضير لفيلم وثائقي. ينسحب من مكتبه في الطابق السادس ويوافينا إلى "غرفة الاعترافات" كما أسماها، ليحكي قصة شاب لبناني فقير استطاع تأسيس واحدة من أهم الصحف في الوطن العربي... وقرّر أن يقفلها بعد 43 عاماً. ندر أن تمر جلسة من جلسات "إعترافات" طلال سلمان، إلا وكان يأتي فيها على ذكر سوريا ورئيسها الراحل حافظ الأسد، الذي التقاه سلمان على مدى سنوات حكمه التي قاربت الثلاثين نحو 10 مرات، وكانت لقاءات تمتد لساعات طويلة أتاحت له الاطلاع عن قرب على شخصية هذا الرجل "الاستثنائية" كما يصفها.
كان نهاراً ربيعيّاً من عام 1988. البلد يغلي على صفيحٍ ساخن. وأذكر، أنّ إذاعة "صوت الشعب" انتدبتني، يومها، لتغطية اللقاءات في دارة رئيس مجلس النواب (آنذاك) حسين الحسيني. فجأة، رأيتُ حرّاس الدارة يهرعون لاستقبال إحدى الشخصيّات. "هذا طلال سلمان"، همس باسمه بعض الصحافيّين المنتظرين (مثلي). "ومَن يكون هذا الرجل؟ نائباً؟"، سألتُهم بسذاجة "الطارئين" على عوالم يجهلونها!
في ذاكرة الحياة نقاطٌ مضيئةٌ تستعصي على الغياب. وبين أعلامها قاماتٌ شامخةٌ شاهقة أبت الإنحناءَ أمامَ رعونة الريح وعناد العاصفة ورداءة المناخ. وفي تجارب العيش أمثولاتٌ ناضحةٌ بالمعنى. ارتقت إلى ذرى الإنجاز متغاضيةً عن ضآلة القدرة وتواضع المنشأ.
في هذا الطقس الحارّ والرطب، مناخياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، يفارقنا "نسمة" الذي لم نعرف له مهنةً سوى الحبّ.
في الشهور الأربعة الأخيرة من العام 2016، كنا على موعد أسبوعي مع رئيس تحرير جريدة "السفير" طلال سلمان في إطار التحضير لفيلم وثائقي. ينسحب من مكتبه في الطابق السادس ويوافينا إلى "غرفة الاعترافات" كما أسماها، ليحكي قصة شاب لبناني فقير استطاع تأسيس واحدة من أهم الصحف في الوطن العربي.. وقرّر أن يقفلها بعد 43 عاماً. في مذكراته الليبية، يروي لنا طلال سلمان قصة إختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين في ليبيا.