استخدم جيش الإحتلال الإسرائيلي في عمليتي غزة ودمشق أسلوبا واحدا، وهو إطلاق الصواريخ على بيوت آمنة، بهدف القضاء على عائلات بكاملها لضمان تحقيق الإستهداف المحدد في العمليتين، أي بهاء أبو العطا في غزة وأكرم العجوري في دمشق.
ومن المؤكد أن توقيت عمليتي الاغتيال لا يرتبط بفعل ميداني محدد بقدر ما يرتبط بوضع سياسي محدد يعيشه الكيان الإسرائيلي في ظل جمود الاتصالات لتشكيل إئتلاف حكومي جديد في إسرائيل. فالاغتيال جاء في ظل هدوء قائم على حدود قطاع غزة ومحاولات إيجاد حلول لبعض من مشاكلها الإنسانية والاقتصادية.
وواضح أن استهداف البيوت الآمنة يعني أن الكيان الإسرائيلي لا يخشى المواجهة الواسعة ولا الانتقادات التي يمكن أن توجه إليه. كما أن التزامن في استهداف قياديين في حركة الجهاد الإسلامي في دمشق وغزة، يبيّن رغبة صهيونية في التصعيد المدروس لتحقيق أهداف محددة.
ولا يمكن فهم ما جرى في الساعات الأخيرة، من دون العودة إلى ما سبق ونشره السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة، مايكل أورن في مجلة “The Atlantic” عن سيناريو التصعيد مع إيران وحلفائها. وقد كتب أورن أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر بحث عدة سيناريوهات لمثل هذا التصعيد، مشيرا إلى أنه قد يبدأ إما مع حزب الله (في لبنان) أو حركة حماس (في فلسطين).
ومن الجائز أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المعروف بتردده في الأوضاع الحاسمة قرر البدء بعملية ضد حركة الجهاد الإسلامي بهدف مزدوج: تسهيل احتواء النتائج إذا ساءت الأمور ميدانياً، أو التصعيد من أجل جر جهات أخرى ليست فقط في فلسطين.
وكان معلقون صهاينة قد حذروا من أن نتنياهو على استعداد لفعل أي شيء من أجل أن يبقى في الحكم. ولا يهمه في هذا الحال أن يغامر بمواجهة في الشمال (مع لبنان أو سوريا) أو الجنوب (غزة) على حد سواء، ولكنه قد يعمد إلى التدرج في الاندفاع نحو المواجهة. ويمكن لانسداد أفق تشكيله حكومة يمينية برئاسة زعيم حزب الليكود ورفض الآخرين قيادته لحكومة وحدة وطنية على هواه أن يكون قد دفعه إلى اختيار اللحظة الأنسب لتشكيل حكومة طوارئ. فقد تحدثت الأنباء عن احتمال اقتراب خصمه، رئيس حزب “أزرق أبيض” رئيس الأركان السابق بني غانتس، من تشكيل حكومة أقلية بالاتفاق مع زعيم حزب “بيتنا” أفيغدور ليبرمان وبتفاهمات تضمن عدم اعتراض القائمة العربية عليها.
وقد أراد بنيامين نتنياهو عبر هذا التوقيت لعمليتي غزة ودمشق إجهاض محاولات تشكيل حكومة أقلية برئاسة بني غانتس.
إذا صح ما نشره المعلق العسكري لموقع “يانت”، رون بن يشاي عن رسالة إسرائيلية لحماس عن عدم الرغبة في استهدافها إذا لم تشارك في الرد الصاروخي، فإن هناك هامشا يمكن للاحتلال احتماله
ومن المعروف أن نتنياهو لا يملك هنا فقط الإرادة وإنما يملك أيضا المعلومات والنفوذ بوصفه وزير الدفاع حتى لحظة اتخاذ القرار بتنفيذ الاغتيالات. ومعروف أيضاً أن نتنياهو من أجل ضمان التفاف اليمين حوله، “تبرع” بإسناد حقيبة الدفاع (الجيش) لزعيم حزب اليمين الجديد نفتالي بينت. وسبق لنتنياهو أن تخلى عن وزارة الخارجية لمصلحة إسرائيل كاتس، ما يقلص إلى حد كبير من قوته داخل حزبه وداخل معسكره. وحسب كل التقديرات، فإنه يدفع نحو تشكيل حكومة طوارئ برئاسته تسمح بتأجيل إجراء الانتخابات في انتظار تطورات أخرى.
ويبدو أن نتنياهو قريب من تحقيق هدفه خصوصا وأن قادة الكيان الإسرائيلي يتجنبون، في العادة، انتقاد الحكومة في ظل واقع الصراعات العسكرية. وهناك قاعدة يلتزم بها أغلب السياسيين الصهاينة، وهي الابتعاد عن انتقاد الحكومة في كل وقت تدوي فيه أصوات المدافع. بل أن رئيس الحكومة المكلف، بني غانتس، سارع لتقديم الدعم لحكومة نتنياهو بإعلانه أن “كل إرهابي يستحق الموت”، من ناحية، وتأكيده بأنه تم إبلاغه عن العملية مسبقا ووافق على تنفيذها، من ناحية ثانية. ومن البديهي أن مثل هكذا موقف يقرب غانتس من التوافق مع نتنياهو خصوصا إذا تطورت المواجهة في الميدان.
ومن الجلي أن استهداف حركة الجهاد الإسلامي أنتج حتى الآن محدودية معينة في رد الفعل على عمليات الاغتيال الصهيونية. وتتجه الأنظار بقوة لمعرفة ما يمكن لحركة حماس، قبل غيرها، أن تتخذه من مواقف. وقد أعلن عدد من قادة حماس أنهم لن يسمحوا لإسرائيل بالاستفراد لا بحركة الجهاد ولا بأي فصيل فلسطيني مقاوم وأنهم سيتحركون من خلال غرفة العمليات المشتركة. ولكن من الواضح أن الفارق كبير بين اكتفاء حماس بعدم منع فصائل المقاومة في غزة وفي مقدمتها حركة الجهاد بالرد وبين المشاركة في هذا الرد. فقوة حماس الصاروخية تدخل بعدا نوعيا للمواجهة تفتقده كل الفصائل الأخرى عند غيابها، بما في ذلك الجهاد.
ولذلك، فإن الأنظار تتجه في الساعات المقبلة إلى التطورات المحتملة. وتعتمد هذه التطورات ليس فقط على مشاركة حماس من عدمها في الرد وإنما أيضا على مدى تقبل قوات الاحتلال للمنطق الذي تستند إليه حماس. فإسرائيل كانت ترفض في الماضي تحميل أي فصيل فلسطيني مسؤولية أفعاله وتلقي بالمسؤولية دوما على حركة حماس بوصفها سلطة الأمر الواقع في غزة.
وإذا صح ما نشره المعلق العسكري لموقع “يانت”، رون بن يشاي عن رسالة إسرائيلية لحماس عن عدم الرغبة في استهدافها إذا لم تشارك في الرد الصاروخي، فإن هناك هامشا يمكن للاحتلال احتماله. ومع ذلك فإن الكثير يعتمد على المدة الزمنية التي قد يستغرقها رد حركة الجهاد الإسلامي الصاروخي من جهة والخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تنتج عن هذا الرد من جهة ثانية. وإذا ما شمل رد حركة الجهاد الإسلامي وباقي الفصائل الحياة العامة في وسط وجنوب فلسطين لفترة طويلة فإن التصعيد يغدو أكثر احتمالا بقصد إجبار حماس على إعادة ضبط الأمور في القطاع.
إذا ظلت المواجهة محصورة بسقف حركة الجهاد الإسلامي، فإنها لن تطول وسوف تنتهي في غضون يوم أو يومين. أما إذا توسعت وانضمت حركة حماس إليها، فإن زمن المواجهة قد يطول
ويمكن القول أن رد حركة الجهاد على استهداف قياداتها بدأ يقترب تقريبا من حدود النهاية. فقد أطلقت الصواريخ ليس فقط على مستوطنات غلاف غزة ولا حتى نحو اسدود وبئر السبع وإنما تخطت ذلك إلى شمال وشرق تل أبيب. وقاد رد الجهاد حتى الآن إلى إيقاف الدراسة حتى في وسط فلسطين فضلا عن منع العمل في المناطق التي تخلو من الغرف الآمنة. ويعيش في المنطقة التي تتعرض للصواريخ من غزة ما لا يقل عن نصف عدد اليهود في فلسطين المحتلة. ما يجعل من المستحيل على أي حكومة صهيونية تقبل فكرة استمرار ذلك فترة طويلة. ففي هذه المنطقة يقع أيضا مطار اللد، وهو المنفذ الجوي الرئيس كما يقع ميناء اسدود والذي يستقبل جزء كبيرا من واردات الكيان الصهيوني التجارية والصناعية والنفطية.
ولا بد من الإشارة إلى أنه بخلاف مواجهات سابقة، فإن الوسيط المصري تدخل من اللحظة الأولى وجرى الإعلان عن قرب وصول وفد من المخابرات المصرية إلى فلسطين لتهدئة الأمور. وتطلق حكومة نتنياهو إشارات بأنها غير معنية بتوسيع نطاق العمليات، ولكنها تشدد على استعدادها للرد الواسع. وبذلك، تسهل على الوسطاء مسعى التوصل إلى وقف إطلاق نار. غير أن الوساطة المصرية قد تواجه هذه المرة مصاعب في ظل خشية المقاومة من السكوت على كسر الاحتلال لقواعد اللعبة والعودة لاستهداف قيادات.
عموما إذا ظلت المواجهة محصورة بسقف حركة الجهاد الإسلامي، فإنها لن تطول وسوف تنتهي في غضون يوم أو يومين. أما إذا توسعت وانضمت حركة حماس إليها، فإن زمن المواجهة قد يطول بما يذكر بحرب 2014 وقد تشهد انضمام قوى أخرى في الشمال سواء من الجبهة اللبنانية أو السورية. وهذا يعيد التذكير بالسيناريوهات التي كان المجلس الوزاري المصغر قد ناقشها وكشف النقاب عنها السفير السابق مايكل أورن. باختصار، الأمور مفتوحة على احتمالات متعددة.