على خطٍّ موازٍ، فإن السوداني وحكومته، يحظون بدعمٍ إقليميٍّ ودوليّ له أسبابه. يمكن تكثيف هذه الأسباب بالقول إن القوى الفاعلة والمؤثرة في المشهد العراقي، بدأت بالتعامل مع القوى المحليّة بواقعيّة حماية لمصالحها وتأمينها وتطويرها، نظراً لحاجتها إلى العراق وحاجة العراقيين إليها. هذا الأمر، تدركه قوى “الإطار التنسيقي” (إئتلافٌ برلماني يضمّ معظم القوى السياسيّة الشيعية)، سواء من كان يؤمن منها بالعلاقات مع الولايات المتحدة ودول الخليج العربي، أو من كان يرفض نسج أي علاقةٍ من هذا النوع. والمقصود هنا، المعتدلون في “الإطار” من جهة، والمتشددون من جهةٍ ثانية. ثمة تطوّر في العقل السياسي لتلك القوى، جعلها تقارب العلاقة مع الخارج استناداً إلى قاعدة “الحاجة” أو “المصلحة”، والحفاظ على المكتسبات التي وفّرتها حكومة السوداني، إضافةً إلى أنها تعلمت من درس تشرين الأول/أكتوبر 2019؛ أي سقوط حكومة عادل عبدالمهدي، والمجيء بحكومة مصطفى الكاظمي، وهو درسٌ/ سيناريو لا يمكن تكراره، ولو كان ذلك على حساب “المبادئ”.
يُنقل عن أحد أقطاب “الإطار” قوله موخراً إن “السياسة لعبة، ولهذه اللعبة قواعدها، وقد خرقنا تلك القواعد عام 2019 باتباعنا تكتيكاً خاطئاً، أما الآن فقد شخّصنا أخطاءنا، ولم يعد بالإمكان الوقوع فيها، وعليه لا بدّ من اتباع تكتيكاتٍ مختلفة”. هذا الوجه السياسي البارز يختصر بـ”إشاراته” الكثير من الأسئلة المطروحة إزاء التعامل “الإطاري” مع اللعبة السياسية العراقية، بأبعادها الداخلية والخارجية. وهذا أيضاً يفرض على المتابع التمييز بين الأداء السياسي الداخلي للحكومة وأداءها الخارجي. تفكيك هذا التشابك يترجم حرفيّاً التطوّر الذي أصاب هذا العقل، وتقاسم الأدوار والتخادم بين رئيس الوزراء وقوى “الإطار التنسيقي”، حتى أن أغلبية القوى “المستقلة” أو “التغييريّة” باتت أقرب إلى قوى “الإطار التنسيقي”، وفق قاعدة “المصلحة” نفسها، برغم بعض التجاذبات الإعلاميّة أحياناً.
قدّم محمد شياع السوداني، ومن خلفه “الإطار”، لواشنطن ما تريده في الحدود الدنيا، هدوءاً أمنياً وابتعاداً عن العبوات والصواريخ والمُسيّرات. طبعاً كل ذلك بالتنسيق مع طهران، التي تعمل فرقها التفاوضية على إنضاج مسودة تفاهمات جديدة مع واشنطن بوساطةٍ عمانيّة
من هنا، لا بدّ من مراجعة تصريحات زعيم “حركة عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، غداة تشكيل حكومة السوداني في تشرين الأول/أكتوبر المنصرم. عبّر الخزعلي بأن رئيس الوزراء هو “مدير عامٌ”، أي موظف لدى “الإطار” (مهمة إدارة الدولة). أما ما يتعلّق بالقرارات الاستراتيجيّة للدولة فلا يمكنه الإنفراد بها، بل عليه الرجوع إلى “الإطار”. تفكيك هذه العبارة يعكس الرؤية الحاكمة الحالية في العراق، وتحديداً لدى قيادات “البيت الشيعي”: يحظى رئيس الوزراء بالغطاء السياسي اللازم، مع التعهّد بتثبيت الوضع الأمني واستقراره، مقابل تحقيق التوازن في العلاقات الداخلية (أي المناصب والمكاسب والمصالح الاقتصادية وعلى رأسها العقود والمناقصات)؛ كذلك، يحظى رئيس الوزراء بالدعم السياسي والبرلماني اللازم، مقابل التنسيق الكامل والإدارة المشتركة لملف العلاقات الخارجية وكيفية “تجييرها” لمصلحة قادة “الإطار”.
إنطلاقاً من هذه النقطة، عرف قادة “الإطار” استثمار اللحظة المناسبة والحفاظ عليها، نظراً إلى:
- تراجع الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وتركيز واشنطن على المواجهة الاقتصادية مع الصين.
- الحرب الروسية – الأوكرانية، وحاجة دول العالم للنفط والغاز في ظل ارتفاع الأسعار، وهذا يتطلب استقراراً سياسيّاً وأمنياً في العراق.
- المصالحة الإيرانية – السعودية برعايةٍ صينيّة، وانعكاس ذلك على ساحات المنطقة استقراراً وهدوءاً، وأبرزها العراق.
- الاستقرار السياسي في العراق مهمٌ لدول جواره، فحالة التوتّر فيه من شأنها تصدير الأزمات إلى خارجه، أو تعريض مصالح تلك الدول في العراق إلى الخطر.
- التنازل للقوى السنيّة والكردية في الداخل مرحليّاً، وللولايات المتحدة ودول الخليج العربي في الخارج، وتقديم صورة مغايرة عن هذه الأحزاب صوناً للمكتسبات التي تحقّقت.
- استمرار حالة الاعتزال السياسي التي بدأها السيد مقتدى الصدر منذ نهاية آب/أغسطس 2022.
- هدوء “التشرينيين” وغيرهم من محرّكي الشارع، وإزاحة الغطاء الخارجي عن “المتمردين” من بين هؤلاء، وفي ذلك رسالة مفادها أن استمرار حكومة محمد شياع السوداني حاجة دولية وإقليمية قبل أن تكون حاجة عراقية.
هذه المحدّدات، تسير في اتجاهين، خارجيّاً وداخليّاً. وهنا، ثمة مفارقة توجب الإلتفات والمعاينة.
خارجيّاً، شكّلت حركة محمد شياع السوداني الخارجية، مفاجأةً لمن راهن أن حكومته لن تحظى بالدعم الخارجي المطلوب، أميركيّاً وأوروبيّاً وعربيّاً. السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوسكي، تعبّر عن الدعم الواضح المقدّم من البيت الأبيض للقصر الحكومي العراقي. تحركاتها ولقاءاتها وكيلومتراجات سياراتها تشي بذلك. وإن كانت تعبّر في لقاءاتٍ ضيقة بأنها “لا تثق بالسوداني ولا بالقوى الداعمة له”، إلا أنها تستكمل حديثها بالقول إن “هذا هو الخيار المتوفر، وعلينا التعامل بواقعية والحفاظ على مصالحنا في العراق”.
اللافت للإنتباه أن البيت الأبيض، لم يُحدّد للسوداني موعداً للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن، حتى الآن، برغم إلحاح الجانب العراقي على ذلك. وتشير المعلومات إلى أن وزارة الخارجية الأميركية طلبت من سفيرتها “مداراة” حكومة السوداني حتى إجراء الانتخابات المحليّة المقرّرة أواخر العام الجاري، وتثبيت التهدئة في العراق قدر المستطاع.
في المقابل، قدّم محمد شياع السوداني، ومن خلفه “الإطار”، لواشنطن ما تريده في الحدود الدنيا، هدوءاً أمنياً وابتعاداً عن العبوات والصواريخ والمُسيّرات. طبعاً كل ذلك بالتنسيق مع طهران، التي تعمل فرقها التفاوضية على إنضاج مسودة تفاهمات جديدة مع واشنطن بوساطةٍ عمانيّة.
أوروبيّاً، يستكمل السوداني مسار اتفاقيّة “توتال” الموقعة في تشرين الأول/أكتوبر 2021، والمتعلقة بإنتاج الغاز والنفط والطاقة الكهربائية وتحلية مياه البحر. كذلك، إعادة شركة “سيمنس” الألمانية إلى الواجهة، وتفعيل دورها في مجال إنتاج الطاقة الكهربائية، بالتوازي والتوازن مع شركة “جنرال إلكتريك” الأميركية.
عربيّاً، ثمة خطوطٌ مختلفة، وهذا يحتاج إلى استعراضٍ سريع:
– في العلاقة مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، يتعامل حكّامها بلغة المصالح مع السوداني.. بدوره، حرص السوداني، على “تنفيذ” طلبات الرياض وأبو ظبي بشكلٍ سريعٍ جداً، في محاولةٍ منه لخلق مسافةٍ بينه وبين قادة “الإطار”، وتقديم نفسه بشكلٍ مغاير ومختلف. في المقابل، يدرك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد، أن العراق يخلو حالياً من “صديقٍ” يمكن الوثوق به، وبالتالي يفرض تطوير العلاقات الثنائية التزاماً بتنفيذ الاتفاقيات السابقة، وعلى رأسها ربط العراق بالشبكة الكهربائية الخليجية.
– في العلاقة مع المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر العربية، نجح السوداني في إبقاء الدعم النفطي الممنوح لعمان، لكنه فشل في الشروع بتنفيذ خط البصرة – العقبة، برغم الترويج الإعلامي بالمضي قدماً في هذا السياق، وذلك نتيجة ضغوطٍ يتعرّض لها من الجمهورية الإسلامية في إيران، الرافضة لمدّ هذا الأنبوب. يُعبّر عن هذا الرأي عدد من الفصائل العراقية المسلحة على اعتبار أن هذا “تطبيع غير مباشر مع إسرائيل”. العلاقة مع عمان والقاهرة، هي مقدماتٍ ضرورية للوصول إلى البيت الأبيض، وهذا يساهم في تفسير بعض “أسرار” زيارة السوداني الأخيرة إلى القاهرة، واللقاء الذي جمعه بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
– في العلاقة مع دولة قطر والجمهورية التركية، ثمة اندفاعة قطرية لافتة للإنتباه للاستثمار في العراق، وتحديداً بعد أن حازت الدوحة على 25% من نسبة عقد “توتال” للاستثمار في “الغاز المصاحب” (اي الغاز الذي يصاحب عملية استخراج النفط ويتم حرقه في الهواء بدل استثماره). كذلك، فإن الدوحة وأنقرة، تلعبان دوراً مهماً في الساحة السنيّة العراقية، والتي يودّ السوداني إبقاءها هادئة لتأمين دعم “الفضاء الوطني”.
بعض القوى البارزة في “الإطار” تُشجّع على علاقات عربية “مدروسة جداً”، أما المفاجأة الكبرى، فكانت باندفاع قيس الخزعلي ليس في اتجاه الرياض وأبو ظبي فحسب، بل توجيهه رسائل غير مباشرة “ذات مضمونٍ طيّبٍ جداً” إلى الأميركيين سعياً إلى رفع اسمه عن لائحة العقوبات
هذا الجهد المنسّق “بعضه” مع “الإطار” يبقى رهين الرؤية الإيرانية للعراق، ومقاربتها لبعض الملفات والمشاريع والتي لا ترغب بأن تصل إلى خواتيمها، وهذا يطرح حزمةً من الأسئلة على السوداني وقادة “الإطار”:
- هل ما يقوم به السوداني هو مقدمة لكسر هوامش حدّدها له “الإطار”، وقد وجد في إقرار الموازنة الثلاثية (2023 و2024 و2025) ضمانة تعادل الضمانة السياسية – البرلمانية؟
- هل ما يقوم به السوداني خارجيّاً، لتغطية بعض الوقائع الداخلية، وخصوصاً في الشقّ المتعلق باستباحة الفصائل المسلحة (عصائب أهل الحق تحديداً) للدولة ومؤسساتها، والسماح لـ”هيئة الحشد الشعبي” بتأسيس “شركة المهندس”، والتي توازي في الشكل والمضمون “مقر خاتم الأنبياء” في “الحرس الثوري” الإيراني (تعدّ هذه الشركة هي الذراع الاقتصادي للحرس)؟
- هل ما يقوم به السوداني خارجيّاً، محاولةٌ للحاق العراق في ركب التطورات الحاصلة في المنطقة، وأبرزها عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وتطبيع العلاقات السعودية الإيرانية برعاية الصين؟
- هل ما يقوم به السوداني (وبعض قوى “الإطار”) محاولة للخروج من العباءة الإيرانية وإعادة تقديم القوى السياسية العراقية أمام القوى العربية بصورةٍ مغايرة؟ علماً أن بعض القوى البارزة في “الإطار” تُشجّع على علاقات عربية “مدروسة جداً”، أما المفاجأة الكبرى، فكانت باندفاع قيس الخزعلي ليس في اتجاه الرياض وأبو ظبي فحسب، بل توجيهه رسائل غير مباشرة “ذات مضمونٍ طيّبٍ جداً” إلى الأميركيين سعياً إلى رفع اسمه عن لائحة العقوبات.