“يتفق معظم الخبراء والمحللين الرائدين حول العالم على أن البشرية ستهزم فيروس “كوفيد-19” بطريقة أو بأخرى. يدور الجدل بشكل أساسي حول سعر هذا الانتصار: مدة الوباء، العدد المحتمل للاصابات والوفيات، مدى الضرر الذي لحق بالاقتصاد العالمي وتوقيت انتعاشه.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن السيناريوهات لتطوّر الأحداث التي نشهدها، هناك أمرٌ واحد بات واضحاً: جائحة الفيروس التاجي أصبحت بالفعل أحد تلك الأحداث التي تفصل بين الحقبة التاريخية القديمة والعصر الجديد.
سيكون العالم بعد “كوفيد-19” مختلفاً، وسيشعر الجميع بهذا التغيير التاريخي، من قادة القوى العظمى، وكبار المديرين للشركات عبر الوطنية، إلى ناشطي المجتمع المدني والمواطنين العاديين.
كقاعدة عامة، حدثت مثل هذه التغييرات الحادة في مصير البشرية نتيجة للحروب الواسعة النطاق. ليس من قبيل المصادفة أنه في أيامنا هذه، تُطلَق على جهود مكافحة الفيروس التاجي في جميع البلدان تقريباً تسمية “حرب”.
في الوقت ذاته، ينطوي التعريف الكلاسيكي للحرب على اشتباك مسلح بين مختلف الجهات الفاعلة (التحالفات الدولية والدول الفردية والقوى السياسية داخل الدول ومجموعات المرتزقة المسلحة وما إلى ذلك) من أجل فرض الإرادة على الخصم.
في الحروب كان هناك دائماً فائزون وخاسرون، وكان الفائزون هم الذين يضعون قواعد اللعبة الخاصة بهم، سواء على قطعة أرض منفصلة أو على كوكب الأرض ككل.
واحدة من السمات المميزة للمرحلة الحالية من تطور البشرية هي أنه في الحروب الحديثة، أصبحت ذاتية الأطراف المتضاربة مشوّشة أكثر فأكثر. في الحروب الهجينة والمعلوماتية، والحروب في الفضاء السيبراني، وأشكال المواجهة الأخرى باستخدام التقنيات الحديثة، تغير المفهوم الكلاسيكي للحرب كصدام بين كيانين أو أكثر. بما أن أهداف المواجهة تفقد الإطار الواضح، وتصبح أكثر فأكثر غير متبلورة، وأحياناً بعيدة المنال، سيصبح من الصعب تحديد الفائزين والخاسرين.
إلى حد ما، الخاسرون سيكونون جميع المشاركين في المواجهة، ومفهوم النصر سيفقد معناه الذي كان لا لبس فيه في السابق.
ولهذا يجب أن تدفع الحرب ضد الفيروس التاجي البشرية إلى إعادة التفكير في المبادئ الأساسية للأمن الدولي. إذا كان التسلسل الهرمي للتهديدات الأمنية يتغير بسرعة، وإذا كنا نتعامل مع خصوم مختلفين اختلافاً جوهرياً، حينئذٍ ، فإنّ التسلسل الهرمي لأولوياتنا في ضمان الأمن يجب أن يتغيّر.
لم يعد الأمن القومي يعتمد كلياً أو بشكل أساسي على الإمكانات العسكرية: الأسلحة النووية والأسلحة الحديثة الأخرى غير قادرة على مواجهة الفيروسات التاجية وتغير المناخ والهجرة غير المنضبطة وغيرها من التحديات التي تواجه البشرية ككل، وكل بلد على حدة.
الخط الأمامي في هذه المعركة لن يكون بين الدول الفردية وتحالفاتهم، ولكن داخل الدول نفسها، ففي كل بلد هناك مدافعون عن القديم ومؤيدون للجديد. في كل مجتمع، سواء في الشرق أو في الغرب، ثمة سياسيون يستديرون نحو ماضٍ مريح، وسياسيون يتطلعون إلى مستقبل مثير للقلق
إن الأدوات الأمنية القديمة التي ورثناها من الحقبة الماضية لا تفعل شيئاً إلا طحن تلك الأموال الضخمة التي يمكن أن تذهب إلى تطوير العلوم والتعليم والطب وما إلى ذلك.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في خضم الجائحة الوبائية إلى وقف عالمي لإطلاق النار في كل نزاعات اليوم. البابا حث على إنهاء كل الحروب من أجل توحيد القوى في الحرب ضد الوباء. التحالف العربي بقيادة السعودية أعلن بالفعل عن وقف العمليات العسكرية ضد الحركة الحوثية في اليمن من أجل “منع انتشار الفيروس التاجي في هذا البلد”. إسرائيل وحماس بدأتا مفاوضات حول تبادل الأسرى.
تشير هذه الحقائق وغيرها إلى أن العالم بات يدرك تدريجياً أن الفيروس التاجي، كما قال أنطونيو غوتيريس، هو “عدونا المشترك”. وسيكون لدينا المزيد والمزيد من الأعداء المشتركين – يمكننا التحدث عن ذلك بثقة.
بالطبع، لا يمنع ذلك رؤية اتجاه آخر في السياسة العالمية اليوم، يعكس الخط التقليدي في العلاقات الدولية – محاولات لانتزاع أقصى الفوائد الفردية من الأزمة.
لقد صبّ “كوفيد-19” مزيداً من الزيت على نار حرب المعلومات.
نسمع اليوم الكثير من السرديات حول نموذج النظام السياسي – السلطوي أو الديمقراطي – الذي أثبت أنه الأفضل في مكافحة فيروسات التاجية، والذي سيكون اقتصاده أكثر فعالية في مرحلة التعافي من الوباء، ويجادل آخرون حول مسؤولية هذه الدولة أو تلك عن انتشار الفيروس التاجي، وكيف سيتغير ميزان القوى العالمي بعد نهاية الأزمة الحالية.
كل هذا يشهد على حقيقة أن البشرية، وإلى جانب مكافحة الفيروس التاجي، ستواجه صراعاً لن يكون أقل حدّة (في الواقع بدأ هذا الصراع بالفعل) في المجال السياسي، في ما يتعلق بنموذج النظام العالمي الجديد.
الخط الأمامي في هذه المعركة لن يكون بين الدول الفردية وتحالفاتهم، ولكن داخل الدول نفسها، ففي كل بلد هناك مدافعون عن القديم ومؤيدون للجديد. في كل مجتمع، سواء في الشرق أو في الغرب، ثمة سياسيون يستديرون نحو ماضٍ مريح، وسياسيون يتطلعون إلى مستقبل مثير للقلق.
ستعتمد نتيجة هذه المواجهة إلى حد كبير على رجال الدولة المستعدين لوضع المصالح الأمنية العالمية فوق طموحاتهم السياسية الشخصية والتكتيكات المنبثقة من الإستراتيجيات الخاصة، والتخلي عن الأولوية المعتادة والقائمة على تعزيز المصالح الوطنية على حساب مصالح النظام الدولي ككل.
في آب/أغسطس عام 1944 ، عندما كان النصر في الحرب العالمية الثانية يقترب، اجتمع ممثلو دول التحالف المناهض لهتلر في دومبارتون أوكس لمناقشة تشكيل منظمة دولية لصون السلام والأمن. بعد ذلك بعام وقعوا ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو. تم التوصل إلى اتفاق، على الرغم من حقيقة أن الفائزين في الحرب كان لديهم اختلاف كبير جداً، وكانوا متناقضين بشكل مباشر في وجهات النظر حول أهم القضايا الأساسية لمستقبل العلاقات الدولية ومستقبل الحضارة الإنسانية ككل.
لا نعلم كم من الوقت سيستغرق الإعلان عن النصر النهائي للبشرية على الفيروس التاجي. ولكن الآن، يمكن للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي الخروج بمبادرة مشتركة لبدء عملية تفاوض تهدف إلى استعادة إدارة نظام العلاقات الدولية بأكمله.
مثل هذه المبادرة لن تقرّب فقط انتصارنا المشترك على “كوفيد-19″، ولكنها ستعطي أيضاً كل الإنسانية سبباً للنظر إلى المستقبل بمزيد من الثقة”.
المصدر: “كومرسانت” – ترجمة وسام متى