شملت قائمة العقوبات الدولية، حينذاك، مواداً رفضت لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة السماح بوصولها إلى العراق، ومنها أقلام الرصاص وممحاة أقلام الرصاص ومبراة أقلام الرصاص، مع العلم أن العقوبات تلك كانت تدّعي حظر المواد التي تدخل في الصناعات العسكرية، وذلك إثر ما عُرِف بـ”حرب الخليج الثانية” (عندما اجتاح الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الكويت في 2/آب/أغسطس 1990، وتلا ذلك تحالف دولي-عربي لإجباره على الإنسحاب منها، بدأ تنفيذه يوم 16/كانون الثاني/يناير 1991، وما تبعه من حرب مدمّرة للعراق توّجتها أميركا وحلفائها باحتلال العراق العام 2003 تحت ستار تدمير أسلحة الدمار الشامل والتي لم تكن سوى الستار الحقيقي لتدمير العراق بالرغم من عدم وجودها، كما أكد تقرير هانز بليكس والمنظمة الأممية التي ترأسها للكشف عن تلك الأسلحة).
***
عيِّنتان أوردناهما آنفاً من لائحة تثير السخرية المرّة (72 مادة ممنوعة)، لأن هدف أميركا في التسعينيات كان مُغايراَ لمخاطر دفاتر الأطفال وأدوات تعليمهم وألعابهم (في لائحة الممنوعات)، وهو كان المزيد من السيطرة على النفط وحماية أمن إسرائيل، فكانت إجراءات أميركا لشّن حربها على العراق يومها أسرع من قرارات الأمم المتحدة، وقد نجم عن ذلك كمٌّ هائل من الأضرار الجسيمة التي لحقت بالشعب العراقي ولقمة عيشه، وهو ما يعرض له الكاتب البريطاني جيف سيمونز في مؤلفه “التنكيل بالعراق – العقوبات والقانون والعدالة”، الذي صدر بطبعته الثالثة عن مركز دراسات الوحدة العربية، وتناول بالتوثيق والتحليل “حملة العقوبات الاقتصادية التي تعرض لها العراق عقب حرب الخليج الثانية، وما تركته من آثار تدميرية في مختلف مكونات العراق”.
يربط سيمونز “بين تلك العقوبات وبين المطامع النفطية والاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية في العراق بعيداً من أخلاقيات شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان”، ولمن خانته الذاكرة بين حقيقة أهداف أميركا وتناقض شعاراتها، فليقرأ مذكرات كبار المسؤولين الأميركيين التي صدرت بعد تلك الحرب وبعد احتلال العراق العام 2003، وما قالوه وكتبوه علانية حول أطماعهم بالنفط وحماية الأمن القومي الأميركي، أي أمن إسرائيل، لا نشر الديموقراطية، كما توهّم بعض أصحاب العقول المُنخَفِضَة الإدراك (مذكرات كوناليزا رايس نموذجاً- دار الكتاب العربي).
***
يتضمن كتاب جيف سيمونز خمسة فصول وعناوين فرعية لكل فصل، وملاحق قرارات مجلس الامن ما بين 1990 و1997، ومن بينها التسلسل الزمني للعقوبات، ولأنواع الأسلحة التي استخدمتها ـ وربما جرّبتها للمرة الأولى – أميركا في تلك الحرب التي أسقطت فيها “بين 16 كانون الثاني/يناير و27 شباط/فبراير 1991 (بداية إعلانها حرب الخليج الثانية) ما زنته زهاء ثمانية وثمانين ألف طن من القنابل على العراق”.. كما أطلقت خلالها “ما بين خمسة آلاف وستة آلاف قذيفة دبابة يورانيوم ناضب”..
في حين أكدت الوكالات الانسانية المختلفة التابعة للأمم المتحدة (اليونسيف وغيرها) الحقيقة المريعة بأن الشعب العراقي برمته محروم من الحصول على الغذاء الكافي والدواء وضروريات الحياة الأخرى، كانت أجهزة أخرى في الأمم المتحدة (مجلس الأمن ولجنة العقوبات) مصممة على استمرار العقوبات المسببة للإبادة الجماعية
أما في معاناة الحصار، والقرار الأممي النفط مقابل الغذاء(القرار رقم 687)، فقد اكتسى صبغة التجويع ونشر الأمراض لا سيما في أوساط الأطفال والنساء، فارتفعت الأسعار بشكل جنوني (ص175)، وانفقدت المواد الغذائية الضرورية، وانتشرت الأمراض الانتقالية (ص205)، وأمراض السرطان خاصة، وازداد عدد الوفيات، ويذكر الكاتب(ص183) أن “الأمم المتحدة نفسها المُكلّفة عن طريق لجنة العقوبات كانت تعرف ما يحدث في العراق”.. وأنه “في حين أكدت الوكالات الانسانية المختلفة التابعة للأمم المتحدة (اليونسيف وغيرها) الحقيقة المريعة بأن الشعب العراقي برمته محروم من الحصول على الغذاء الكافي والدواء وضروريات الحياة الأخرى، كانت أجهزة أخرى في الأمم المتحدة (مجلس الأمن ولجنة العقوبات) مصممة على استمرار العقوبات المسببة للإبادة الجماعية والمشكلات كافة”، والسبب الواضح إلا عند الحمقى والمغفلين هو سيطرة واشنطن على تلك اللجنة وعلى الأمم المتحدة فيقول سيمونز: لم تتورع واشنطن أبداً عن استعمال الخداع والرشوة والتهديد لضمان الحصول على دعم دولي للأهداف الاستراتيجية الأميركية، وقد فرضت الولايات المتحدة منفردة أو مع دول اخرى أنظمة عقوبات في زهاء 100 حالة” (ص227 ولائحة الأقطار التي استهدفتها العقوبات الأميركية بتصرفها وحدها ص 228).
يتضمن الكتاب الكثير من الشهادات الدالة على معاناة الشعب العراقي نتيجة العقوبات الاقتصادية عليه، وهو ما وصفه سيمونز بـ”المحرقة الصامتة”، ما يجعل من شعور القلق أمر طبيعي فينا، عما ستعانيه سوريا والدول المحيطة بها جرّاء “قانون قيصر” الذي تُطلُّ الولايات المتحدة به مُوقّعاً من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحجة “تقديم المسؤولين في سوريا عن انتهاكات حقوق الانسان إلى العدالة (السيناريو العراقي)، و”لحماية المدنيين” (سيناريو البلهاء من النخب المُوظّفَة في تلميع وتسويق تلك الأكذوبات مقابل بدل أتعاب لا يتعدى هدر كرامتهم!) والذي دخل حيز التنفيذ بدءاً من 17 حزيران/يونيو 2020، وشملت أول دفعة من عقوباته الرئيس بشار الأسد وزوجته وشقيقه ماهر وأفراد في العائلة وشخصيات وكيانات سورية عديدة.. أما الأهداف المُضمَرَة – كعين الشمس – فهي المزيد من حصار سوريا وإيران ولبنان سياسياً (لحماية إسرائيل كما في تدمير العراق) إضافة إلى حصارهم إقتصادياً.
***
لمن خانته الذاكرة عمّا تسبّب به ذاك الحصار وتلك العقوبات على العراق، ففي كتاب جيف سيمونز ما يَجُبّ “الهولوكست” من حكايات المعاناة – المأساة التي تكبّدها أبناء الرافدين، لعلّ في أوجاعهم الواردة في الكتاب ما ينير بصائر ذوي الأحلام المُتورّمَة للنَيل من سوريا، ولبنان. ففي استحضار ما خلّفته العقوبات الاميركية بستار أممي متحد على العراق ما يردع أو يوقظ أو يجعل المُتَوهّمين بجني العسل بألا ُيلدغوا كل يوم من تقارير مراكز الأبحاث ما وراء الأطلسي.