لا يمكن الحديث عن تغطية دولية لعودة سعد الحريري رئيساً للحكومة. لا الأميركي ولا الفرنسي ولا أية جهة دولية سمّت سعد الحريري. هذه التسمية جاءت بالدرجة الأولى، تعبيراً عن رغبة الحريري بالعودة إلى السراي الكبير، فكان أن ألزم بـ”الإحراج” زملائه في نادي رؤساء الحكومات بمندرجاته ومببراته للعودة، محاولاً للمرة الأولى أن يتمايز عن المملكة العربية السعودية، بالتحرر من حسابات قيادتها، في إنتظار أن تفرض الوقائع المستقبلية نمطاً جديداً من العلاقة بين الطرفين. سارعت جهات سياسية محلية وخارجية إلى تلقف الرغبة الحريرية، بعضها حماسة للحريري سياسياً، مثل ثنائي حزب الله وحركة أمل، وبعضها الآخر، حماسة دولية لتشكيل حكومة لبنانية تملأ الفراغ وتواكب الإصلاحات (مبادرة فرنسا) والترسيم البحري (الولايات المتحدة).
حاول جبران باسيل أن يطيح بالحريري سياسياً. قدّم اسماء بديلة إلى حلفائه. كان الجواب حاسماً. أي إستبعاد للحريري يعني عملياً الذهاب إلى حكومة اللون الواحد، وهذا “خط أحمر”. كان لا بد من اللجوء إلى صلاحيات رئاسة الجمهورية لأجل التأجيل، وهذا ما حصل. تنصلت “القوات” خلسة من التأجيل، برغم أن رئيسها سمير جعجع رفض في تلك الليلة إصدار بيان يكمل فيه ما صدر من إعتراض عن رئيس المجلس النيابي نبيه بري. راجع سياسيون ودبلوماسيون وصحافيون جبران باسيل، فقال لهم “ليس صحيحاً أنني أنا من طلبت التأجيل. بالعكس، نحن ضد التأجيل. القرار إتخذه رئيس الجمهورية من دون التشاور معنا”، وأردف للبعض من حلفائه “صحتين عليكم سعد الحريري”!
أراد باسيل للعبة عض الأصابع أن تجعل الأمور، بعد التأجيل الأول، تذهب في إتجاه من إثنين: إما يأتي الحريري صاغراً إليه، سواء عبر علاء خواجة أو بعض “الأصدقاء المشتركين”، فيأخذ منه، وقتذاك، ما يريده بالحكومة والرئاسة وما أمكن من “صفقات” شبيهة بتلك التي أبرمت عشية التسوية الرئاسية 2016 وغداتها، لكن “ما مشي الحال مع سعد الحريري الجديد”، على حد تعبير أحد المقربين من الأخير. الخيار الثاني، أن يبادر الحريري إلى ردة فعل، فيُعلن إعتذاره، إحتجاجاً على التأجيل، وأيضاً ما “مشي الحال”. لم يتراجع الحريري لا عن ترشيحه ولا قراره بإقفال أبواب الحوار بينه وبين باسيل. بلغ التنصل من التأجيل الأول حد القول إن رئيس الجمهورية إستجاب لطلب تقدم به حزب الطاشناق!
شكّل التأجيل الأول مشروعاً إنتحارياً للعهد، بكل معنى الكلمة. الكلفة السياسية، الداخلية والخارجية عالية جداً. للمرة الأولى، يوثق رئيس الجمهورية بقلمه لمخالفة دستورية غير مسبوقة، فالدستور لا يجيز الفراغ ومسؤولية رئيس الجمهورية واضحة إستناداً إلى مقدمة الدستور وباقي المواد الدستورية. طبعاً، الخيار المثالي بالنسبة إلى باسيل، أن يُقدِم رئيس الجمهورية مجدداً على تأجيل الإستشارات، لكن هذا الخيار لم يعد واقعياً وكلفته عالية جداً، محلياً وخارجياً، سواء على العهد نفسه أم على باسيل نفسه. لذلك، صار موعد الإستشارات الخميس المقبل وراء ظهر الجميع، بكل معنى الكلمة، سياسياً.
نعم، بمجرد أن تلتئم الإستشارات، سيحصل سعد الحريري على أغلبية مريحة قد تتجاوز الستين صوتاً نيابياً، بينها حوالي العشرين صوتاً مسيحياً. بالمقابل، ستذهب القوات اللبنانية إلى أحد خيارين: إما إعادة تسمية نواف سلام، على الأرجح، أو تسمية الحريري، وهو خيار حظوظه ضئيلة جداً. أما التيار الوطني الحر، فسيكون أمام أكثر من خيار. إذا قرر باسيل الإتكاء على موقف المجلس السياسي للتيار الوطني الحر، سيسمي من يجده مناسباً لرئاسة الحكومة، وصار الإسم معروفاً إلى حد كبير. إذا إلتزم بقرار تكتل لبنان القوي، فهذا يعني تجيير أصوات عشرين نائبا عونياً وحليفاً لرئيس الجمهورية، وهو خيار غير دستوري، إستناداً إلى ما جرى سابقاً في عهد الرئيس إميل لحود، لكنه يشكل مخرجاً دستورياً إلى حد ما.
هل ما تعذر تحقيقه في التكليف يمكن تحقيقه في التأليف؟
وفق المادة 53 من الدستور، لرئيس الجمهورية الحق في أن “يصدر مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء منفرداً (الفقرة 3)”، كما يُصدر “بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”، أي أن عون شريك بالمعنى الدستوري في التأليف، وبالتالي، مهما حاول أن يهرب الحريري من باسيل أو من العهد، لن يحصل على توقيع رئيس الجمهورية، إلا بشروطه، فإما أن يقبل بها أو أن يعتذر أو يستمر التكليف بلا تأليف، طالما أن الدستور لا يلزم الرئيس المكلف بمهلة وطالما يتعذر دستورياً سحب التكليف، مهما طال الزمن.
عملياً، يُراد من خلال المزيد من الإنهيار، خلق أمر واقع في لبنان، يجعل عودة الحريري من سابع المستحيلات، لكن هذا السيناريو دونه إشكالية كبيرة. صحيح أن باسيل يملك من المعطيات الدبلوماسية عدم حماسة بعض الدوائر الأميركية وبعض فريق الأليزيه لعودة الحريري، لكن واشنطن وباريس تُشددان على التعجيل بتأليف الحكومة، بمعزل عن شخص من يؤلفها. هذا الأمر سيضع أيضاً رئيس الجمهورية أمام الضغط الدولي، فما هو المخرج؟
واقعية الحريري ستجعله يذهب نحو حكومة إختصاصيين تُمثّل معظم الأطياف التي سمّته رئيساً للحكومة. سيترك لـ”الثنائي” حق تسمية الوزراء في حكومة من عشرين وزيراً على الأرجح، وبينهم وزير المالية الذي صار إسمه شبه محسوم عند رئيس مجلس النواب الذي قرر التكتم على الأمر، حتى يحين أوان صدور مراسيم التأليف. الواقعية نفسها جعلت الحريري يقدم وعدا لوليد جنبلاط بأن تكون له وزارة خدماتية أساسية رفض أن يحددها له، مخافة أن يحصل تبديل في الحقائب، في آخر لحظة، وعلى هذا الأساس، حصل الحريري على وعد مُركب من الزعيم الدرزي: التسمية الإشتراكية لرئيس تيار المستقبل محسومة، لكن الثقة النيابية مرهونة بإلتزام الحريري بالوعد الذي قطعه لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي. طبعاً، سيعطي الجميع للحريري حق “الفيتو” بالنسبة إلى أسماء الوزراء. يسري ذلك على سليمان فرنجية وباقي الكتل التي ستسمي الحريري.
لسان حال باسيل أنه لن يُشارك في الحكومة الحريرية. لكن عملياً، سيحاول رئيس “التيار”، من خلال موقع رئيس الجمهورية الحصول على الثلث المعطل. كيف؟ بأن يُصر رئيس الجمهورية على تسمية ثلث الوزراء المسيحيين (سبعة وزراء من أصل عشرة)، وهذا الأمر إن حصل، سيُشكل طعنة لباقي النواب المسيحيين العشرين الذين سمّوا الحريري، ولذلك، ثمة فرصة سانحة لجعل الحريري يرفض إلى حد دفعه إلى الإعتذار، في نهاية رحلة يفترض أن تتوالى فصولها إلى ما بعد صدور نتائج الإنتخابات الأميركية بعد حوالي الأسبوعين.
هل يملك رئيس الجمهورية خيارات أخرى؟
تبقى قضية إستقالة رئيس الجمهورية ميشال عون قيد التداول. الفكرة كانت قد طُرحت قبل أكثر من سنتين، وكان شرطها الأساس أن يضمن إنتقالاً دستورياً ـ سياسياً هادئاً لمصلحة جبران باسيل. جاءت أجوبة بعض الحلفاء غير مُشجعة، فطويت الفكرة في مهدها.
غداة السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، عاد الهمس بالإستقالة. في الأسابيع الأخيرة التي تلت إنفجار مرفأ بيروت، كرر ميشال عون أمام عدد من المقربين منه التلويح بخيار الإستقالة. ورقة يُراد منها خلط الأوراق، ولا سيما تبكير موعد الإنتخابات الرئاسية، حتى يتسنى للمجلس الحالي إنتخاب خلفه، بدل ترك المهمة للمجلس النيابي الجديد بتوازناته التي لن تكون حتماً لمصلحة باسيل مسيحياً.
العنصر المستجد في الأيام الأخيرة هو السؤال الآتي: هل يبادر رئيس الجمهورية إلى رمي ورقة الإستقالة قبل موعد الإستشارات النيابية الخميس المقبل؟
ثمة خشية من أن يؤدي خوض معركة التأليف بالشروط نفسها التي حددّها جبران باسيل إلى تكثيف الضغط الدولي على رئيس الجمهورية، وبالتالي تجدد ضغط الشارع اللبناني، وعندها سيضطر عون للقبول بنتائج معركة الـتأليف، بشروط الحريري، فتكون الخسارة مزدوجة للتكليف والتأليف.
أكثر ما يخشاه ميشال عون أن تكون حكومة الحريري المقبلة، ليست حكومة مهمة لأشهر قليلة وحسب. هذه الحكومة بالنسبة إليه هي حكومة “هزيمة مشروع الإصلاحي. وفي المقابل، إعلان إنتصار رياض سلامة”. الدليل أن التدقيق الجنائي بات على عتبة إعلان شركة “الفاريز” خلال 48 ساعة قرارها الحاسم إما بالإنسحاب نهائيا أو إعادة تكرار محاولة الحصول على معلومات مرة ثانية. أكثر من أربعة ألاف صفحة أرسلها حاكم المصرف المركزي إلى مقر شركة التدقيق في دبي بواسطة البريد السريع تبين أنها بنسبة 99% مستنسخة عن مواقع إلكترونية!
زدْ على ذلك أن حكومة الحريري ستكون مرشحة للإشراف على إجراء الإنتخابات النيابية المقبلة ـ المشكوك منذ الآن كثيراً بمواعيدها ـ ومن ثم تحل محل رئيس الجمهورية بعد إنتهاء ولايته وتعذر إنتخاب خليفته. عندها، تقوم حكومة الحريري بمقام رئاسة الجمهورية.
ماذا إذا قرر عون قلب الطاولة منذ الآن؟
لننتظر الساعات الفاصلة عن موعد الإستشارات النيابية الملزمة.. المناخ السياسي سيزداد إحتداماً.. والإهتمام الدولي بلبنان سيتضاعف، اقله ربطاً بملف الترسيم البحري. هذا الأمر سيُرتب حسابات جديدة بالنسبة لما هو منتظر في الأسابيع المقبلة، هل يتم تعويم حكومة حسان دياب ويصبح الأخير رئيس جمهورية تصريف الأعمال.. للبحث صلة.