forensic audit. المصطلح مالي وقانوني، لكنه صار متداولاً على لسان أغلبية أهل الإقتصاد والمال والقانون والسياسة والإعلام في لبنان، وهذه هي وظيفة شركة “كرول”، أي التدقيق الحسابي المركز أو “التدقيق الجنائي” كما يحلو للبعض أن يسميه، ولو كان الأخير غير دقيق.
لم يضع وزير المال غازي وزني أي ملاحظة على شركتي “كي بي إم جي” أو “أوليفر وايمان”. قال منذ اللحظة الأولى إن التدقيق بهوية “كرول” من قبل المؤسسات الأمنية اللبنانية المعنية أفضى إلى وجود علامات إستفهام حول علاقتها وإرتباطها بإسرائيل، وبالتالي، أعلن “الثنائي الشيعي” (أمل وحزب الله) رفضه توقيع العقد مع هذه الشركة، فاتحاً الباب أمام التوصل إلى إتفاق مع شركة ثانية، خاصة وأن توقيع وزير المال يشكل الممر الإلزامي لتوقيع العقد بين الحكومة اللبنانية والشركة الأميركية.
برغم الملاحظات الأمنية، لم يتراجع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب وبعض المستشارين الماليين ومدير عام وزارة المال المستقيل عن خيار إبرام العقد مع “كرول”، ودائماً بعنوان أن معظم الشركات التي تهتم بالمواضيع المالية الدولية هي أميركية وتتسم بحضور وازن للشخصيات اليهودية سواء في مجالس إدارتها أو رأسمالها.
لو عرض موضوع التدقيق المالي بكل وجوهه ومسمياته على أي لبناني، لكان الجواب حتماً بالإيجاب، ذلك أن أي غيور على المال العام وعلى ودائع اللبنانيين، لن يتردد في الإنحياز لكل ما من شأنه أن يكشف كل العمليات المالية والنقدية التي قام بها مصرف لبنان، سواء في السنوات الأخيرة أو منذ وصول رياض سلامة إلى حاكمية المصرف المركزي في العام 1993. فهل يريد أهل السلطة الحالية في لبنان فعلاً ما يريده كل لبناني غيور على مال دولته؟
الجواب حتماً لا.
ثمة عقول إنتقامية أو ثأرية موجودة في السلطة حالياً، وهي تعتقد أن ما لم يكن مقدوراً عليه بالسياسة، يمكن الوصول إليه من خلال عملية التدقيق الحسابي المركز. كان بمقدور مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان وباقي أعضاء المجلس المركزي في مصرف لبنان طيلة السنوات الماضية، أن يدفعوا بإتجاه إعادة التدقيق في حسابات المصرف المركزي، وفق آليات داخلية لبنانية، ومن دون الحاجة إلى شركات دولية، ولكن المجلس المركزي الذي إنتهت ولايته، كان صورة طبق الأصل عن البلد. صار المجلس المركزي مجرد مجلس صوري عشائري لا يحاسب ولا يناقش، بل يوافق برفع الأيدي على ما يطرحه حاكم المصرف المركزي، ويسري ذلك على كل الأعضاء من دون إستثناء.
فجأة تقاطعت المصالح. فئة من المستشارين والموظفين تريد رأس رياض سلامة طمعاً بالحلول محله في منصبه. مراجع رسمية وحزبية تريد رأس رياض سلامة من أجل شطبه كمرشح دائم لرئاسة الجمهورية. تقاطع ذلك مع محاولة توظيف حركة الإحتجاج الكبيرة التي شهدها الشارع اللبناني منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر وتمحورت في بعض شعاراتها على رفض سياسات حاكمية المصرف المركزي، فضلا عن تذمر حكومة حسان دياب بتركيبتها السوريالية من أداء سلامة وتحديداً عدم تدخله في سوق القطع من أجل لجم السوق السوداء وضبط الإنهيار الدراماتيكي في سعر صرف الليرة اللبنانية. بدا جسم رياض سلامة “لبيساً” بكل معنى الكلمة. طرحت قضية إقالته مرة ومرتين وثلاث، وكان الجواب هو الآتي: “رياض سلامة خط أحمر، وإذا أردتم تعيين بديل له، فلنتوافق على إسمه أولاً”.
وزير الصناعة عماد حب الله قال إن حزب الله لم يعد ممانعاً لإبرام عقد مع شركة “كرول” وأن الحزب قد أزال تحفظاته عن هذه الشركة. حتى أن رئيس الحكومة أبلغ من راجعوه في الساعات الأخيرة أنه تبلغ أيضا من حزب الله عدم إعتراضه على “كرول”!
بدت محاولة إقالة سلامة من دون توفر البديل بمثابة قفزة في المجهول، لا بل كان يمكن أن تؤدي إلى قفزة جنونية وربما خيالية في سعر صرف الليرة. أما التوافق على البديل، فهو يعني أن الإسم المرشح محل سلامة لن يكون من بين سلة الأسماء التي كان يتم تداولها من داخل البيت البرتقالي، أي التيار الوطني الحر ومنها منصور بطيش وآلان بيفاني.. والأطرف من هذه الأسماء وغيرها أن كارلوس غصن نفسه، وبرغم وجود مذكرة صادرة بحقه عن “الأنتربول” الدولي، تبرع للبنانيين بأن يكون حاكم مصرفهم المركزي!
يقول الوزير السابق والقانوني زياد بارود إن التدقيق المحاسبي المركز هو أمر بديهي وتقوم به كل دولة تحترم نفسها وهناك أصول وقواعد يبنى عليها التدقيق، وكلما كانت الشركة المعنية تتمتع بسمعة وصدقية وخبرة دولياً، كلما كان ذلك لمصلحة لبنان، ذلك أن كل مواطن ومسدد ضرائب ومودع لبناني هو صاحب مصلحة في هذا التدقيق، ثم أن مقاربة الأرقام في التفاوض مع صندوق النقد وغيره من المؤسسات الدولية تعطي مصداقية أكبر للبنان، وهذا التدقيق لا يعني بالضرورة إفتراض المخالفة أو سوء النية عند المعنيين، “ولكن ليُجرَ التدقيق ومن كان مصيباً في خياراته وأدائه سيخرج مرتاحاً، وإذا وُجدت مخالفات وإجراءات في غير محلها ستظهر أيضاً. فهذه المسألة يجب أن تتحقق. وكل يوم يمر نخسر أكثر لأننا في حالة استنزاف، ليس للمال والأرقام فحسب، وإنما استنزاف للثقة بلبنان التي تمر إعادة ترميمها إلزامياً عبر هذا التمرين الذي يستند إلى قواعد وأصول محاسبية ورقابية عالمية” (النهار 6 تموز/يوليو 2020).
لا يختلف أحد مع الرأي الموضوعي للوزير بارود، غير أن الأبعاد السياسية هي التي تزيد الأمر تعقيداً. قبل حوالي الأسبوعين، قرر مجلس الوزراء الإستعانة بشركة جديدة بديلة لشركة “كرول”، هي شركة “إف تي آي”(FTI). سرعان ما طار الإقتراح. الحجة الأمنية الإسرائيلية نفسها أطاحت بالشركة الأميركية، علما أن مرجعاً حكومياً لبنانياً واسع الإطلاع قال لموقع 180 بوست إن شركة “إف تي آي” بعثت في الساعات الأخيرة كتاباً رسمياً لوزارة المال اللبنانية أعلنت فيه إعتذارها عن تقديم أي عرض، وطلبت سحب إسمها من بين الشركات المرشحة لهذه المهمة. وعلى الفور، حضّرت جهة رسمية لبنانية وازنة إسم شركة جديدة ستطرح على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء المقررة يوم الثلاثاء المقبل، علما أن رئيسي الجمهورية والحكومة ما زالا متمسكين حتى الآن بشركة “كرول”، مع بروز عنصر جديد لافت للإنتباه بتوقيته وهو ما تبلغه مجلس الوزراء، وتحديداً رئيس الحكومة ووزير المال من وزير الصناعة عماد حب الله أن حزب الله لم يعد ممانعاً لإبرام عقد مع شركة “كرول” وأن الحزب قد أزال تحفظاته عن هذه الشركة. حتى أن رئيس الحكومة أبلغ من راجعوه في الساعات الأخيرة أنه تبلغ أيضا من حزب الله عدم إعتراضه على “كرول”!
ما هي الإعتبارات التي جعلت حزب الله يغير موقفه وهل قرر أمينه العام أن “يساير” ميشال عون الذي يرفض التراجع نهائياً بموضوع التدقيق المحاسبي، وهل ستكون حسابات حزب الله مطابقة لحسابات رئاسة الجمهورية أم مختلفة عنها، وما هي الأساب التي جعلت شركة “إف تي آي” تنسحب تلقائياً لتتعزز فرصة “كرول” مجدداً وما هو موقف وزير المال ومرجعيته السياسية؟ هذا ما ستجيب عنه جلسة الثلاثاء المقبل، إلا إذا قررت الحكومة ترحيل الأمر إلى جلسة لاحقة، وهو أمر محتمل طالما أن أمر إبرام العقد مع أية شركة ممره الإلزامي توقيع وزير المال غازي وزني.
لقد صال الكل وجالوا في موضوع “كرول”. ثلاثة أشهر من الأخذ والرد، والمراجعات لم تتوقف. صار التدقيق المحاسبي المركز “قدس الأقداس”. الأكيد أن الحسابات متضاربة أقله عند أهل السلطة أنفسهم. ثمة من يريد أن يرى رياض سلامة وراء القضبان. ثمة من يريد من خلال التدقيق وضع سقف زمني من لحظة إجراء الهندسات المالية في العام 2016 حتى يومنا هذا. الهدف هو التصويب على هندسات إستفاد منها سعد الحريري (بنك المتوسط) ووليد جنبلاط (سوسيتيه جنرال وبنك عودة). طبعاً لن يمر موضوع التدقيق المحاسبي المركز من دون فتح ملف بنك التمويل وشركة أنترا.. والهدف هو الوصول إلى حسن فران الذي أدار بنك التمويل، وبات مطلوباً في كل من لبنان والعراق.
لكن إذا فتح ملف الهندسات المالية، من يضمن أن لا تبلغ شظاياه العديد من زوايا الجمهورية. لننتظر ونرَ. “يا خبر النهار ده بفلوس بكرا يبقى ببلاش”، كما يقول المثل الشعبي المصري.