أزمات لبنان ترفع عدّاد الإنتحار

ثمانون حالة إنتحار وقعت في لبنان في الأشهر الستة الأولى من هذا العام. عداد هذه الإحصائية يتوقف في آخر شهر حزيران/ يونيو المنصرم، ولا يشمل 6 حالات سجلت في تموز/ يوليو الحالي، لكنها تؤشر الى إرتفاع مطرد في ضحايا هذه الظاهرة، بنسبة تعدت الـ 20 بالمئة. إرتفاع يرده المعنيون الى الأزمة الإقتصادية والبطالة وتراجع القدرة الشرائية لدى اللبنانيين والمقيمين على أرضه، معطوفاً على الشعور بالإنعزال نتيجة وباء كورونا. 

شكّل دوي الرصاصة التي أطلقها علي محمد الهق على رأسه منهياً بها حياته في أحد مقاهي شارع الحمراء في قلب بيروت في 3 تموز/ يوليو الحالي، إشارة صارخة بلون الدم، على تفاقم حالات الإنتحار في لبنان، بسبب الوضع المعيشي الخانق. في اليوم نفسه، إختار سامر حبلي شنق نفسه في وادي الزينة، جنوبي صيدا، للسبب إياه. في اليوم التالي وفي مدينة صور، كان خالد يوسف يتبع علي الهق، بالوسيلة نفسها، قبل أن يسدل النهار على خبر رمي مواطن رابع نفسه من على شرفة منزله في منطقة بعبدات في المتن. في الأسبوع الماضي، أوردت تقارير قوى الأمن إنتحار مواطنين الأول هو الشاب حبيب عبدالله الشيخ (26 عاما) من بلدة الشيخ محمد في عكار، والثاني هو الشاب علاء صيداوي (20 عاماً) من بلدة سيروب قرب صيدا.. أما الأسباب فما تزال غير واضحة، ولو أن فرضية الإحتجاج على الأوضاع المعيشية هي الأرجح.

قد يكون الإنتحار وسيلة هؤلاء لإيصال الصوت لمن صمّوا آذانهم وأوصدوا أبوابهم بأقفال من حديد. فئة من الناس قد تجد في الإنتحار هرباً من الواقع المخنوق بمرارة لقمة العيش، وهاجس الخوف من الوباء. في حين ترى فيه فئة أخرى وسيلة تسهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في إثارة النفوس وتحريكها للخروج على الحاكم، ولهم بما فعله البوعزيزي في تونس قدوةً، إذ يعتقد كثيرون أن إنتحاره أشعل جذوة الانتفاضة على حاكم البلاد الظالم.

كيف يرى علم النفس هذه الظاهرة؟ 

تقول المعالجة النفسية لوما أمهز جوليان لموقع 180 “إنّ الاسباب الاقتصادية والاجتماعية ليست وحدها التي تدفع إلى الانتحار. من وجهة نظر نفسية بيولوجية، فإن الانتحار هو نتيجة إنهيار نهائي لعملية التكيف”. وتشرح جوليان أن المنتحر “هو إنسان فقد توازن التوافق، وسط “المتناقضات العليا” في الحياة، بسبب بعض ما لحقه من قصور في قدرته على التكيف التعويضي. وتحت وطأة مقتضيات الواقع، وضغط الأنا العليا، تنبثق النزعتان السادية والمازوشية اللتان تتضمنان عناصر عدوانية وتدميرية”. وتضيف جوليان، “أنّ الشخص الذي يُقبل على تنفيذ الانتحار، يعجر عن مواجهة مواقف التهديد بما تتضمن من فشل وحرمان، وبخاصة عند الرجال، في ظل الاوضاع الراهنة، فيفقد وجدان التقدير الذاتي، وتنمو فيه نزعات إنهباطية، وفي هذه الحالة، يلجأ الفرد الى الانتحار هربًا من الصراع غير المحتمل”.

 ولا تعزل جوليان، في معرض هذا التحليل، وجود أسباب بيولوجية ايضًا، فهناك “روابط وراثية مشتركة بين بعض الاضطرابات النفسية الرئيسة؛ مثل اضطراب الاكتئاب، وثنائي القطب الذي قد يوصل الفرد إلى القيام بفعل الانتحار”. وتشير جوليان إلى أن الظروف التي يمر بها لبنان، والتي لم يشهد لها مثيلًا منذ عشرات السنين، أسهمت في تفاقم الاضطرابات النفسية عند كثيرين، ونقلتهم الى مرحلة أكثر تعقيدًا في حياتهم، مؤكدة أن للاعلام والمؤسسات دورًا أساسيًا في توجيه هذه الفئة من الناس، للاستفادة من برامج الدعم النفسي والمعنوي والمادي، للتخفيف من دافع اللجوء إلى الانتحار كوسيلة سلبية جدًا.

من بين المنتحرين الثمانين هناك 29 منتحرًا ولدوا بعد العام 1990، أي ما نسبته 37 في المئة، وهو ما يؤشر الى وجود فئات عمرية شابة لجأت الى الانتحار، الأمر الذي يدعو الى القلق

ماذا في تفاصيل أرقام الانتحار؟

في قراءة مقارنة ومفصلة لعمليات الإنتحار التي وقعت في لبنان، نجد أن المجموع العام لحوادث الإنتحار في آخر ست سنوات قد بلغ  728 حادثة، بينها 80 حادثة وقعت من أول كانون الثاني/ يناير حتى نهاية حزيران/ يونيو 2020.

وتظهر الأرقام أن عامي 2016 و2017 قد سجلا وقوع 271 حالة إنتحار، قابلها في العامين 2018 و2019 وقوع 327 حالة، بزيادة بلغت 56 حالة إنتحار، أي بارتفاع بلغت نسبته 17 في المئة.

توزعت الحالات على السنوات وفقًا لما يلي: 128 حادثة سنة 2016؛ 143 حادثة سنة 2017، أي بزيادة 15 حادثة، (إرتفاع بنسبة 10 في المئة)، ليستمر العدد بالتزايد في السنوات التالية، حيث وقعت 155 حادثة سنة 2018، أي بزيادة عن عام 2017 بلغت 12 حادثة، وما نسبته 8 في المئة، وقد ارتفع عداد الموت سنة 2019 بحيث سجل وقوع 172 حادثة، بزيادة 17 حادثة عن السنة التي سبقتها بزيادة بلغت 10 في المئة.

وبحسب إحصائيات الأشهر الستة الأولى لهذا العام، فإن المعالم تشير الى وتيرة متقاربة في الحوادث، حيث بلغت لغاية نهاية حزيران/يونيو 80 حادثة انتحار.

في قراءة تفصيلية للحالات الثمانين التي وقعت في الأشهر الستة الأوائل من هذا العام، فهي تتوزع شهرياً على الشكل التالي: 14 في كانون الثاني/يناير،  16 في شباط/فبراير، 11 في آذار/مارس، 13 في أيار/مايو، 8 في حزيران/يونيو. أي ما يعادل 13 حالة انتحار شهريًا، وذلك أقل بحادثة واحدة عن المعدل الشهري لسنة 2019 وبمعدل متساوٍ مع المعدل الشهري لسنة 2018 .

إقرأ على موقع 180  الحريات.. ثروة لبنان التاريخية المفقودة!

اللافت للنظر في جنسيات المنتحرين هو أن ما يقارب نصفهم لبنانيون، امّا الآخرون فمن جنسيات مختلفة. وجاءت الهويات كالآتي:

44 ضحية لبنانية بينهم 31 رجلاً و13 سيدة، 10 ضحايا إثيوبيات، 9 ضحايا سوريين بينهم 5 رجال و4 سيدات، 4 ضحايا بنغلادشيين بينهم رجلان وسيدتان، مصريان هما رجل وسيدة، ضحية من كل من: الهند، الكويت، روسيا، الفيلبين، غانا والسودان.

إستخدم اللبنانيون عدة وسائل للانتحار بينها: اطلاق النار، الحرق، تناول مادة سامة، الشنق. في حين استخدمت الإثيوبيات وسيلتي الشنق ورمي النفس من مكان عال. أما الأربعة البنغلادشيون، فقد استخدموا جميعًا وسيلة الشنق. وقد اختلفت وسائل انتحار الآخرين بين: اطلاق النار، الشنق، تناول مادّة سامّة، إحراق البدن، والقاء النفس من مكان عال.

ومن بين المنتحرين الثمانين هناك 29 منتحرًا ولدوا بعد العام 1990، أي ما نسبته 37 في المئة، وهو ما يؤشر الى وجود فئات عمرية شابة لجأت الى الانتحار، الأمر الذي يدعو الى القلق، لا سيما أن من بينهم 11 شخصاً (9 في المئة) ينتمون الى فئات عمرية حديثة جداً (بين 10 و20 سنة).

لوما أمهز جوليان: معظم هؤلاء المنتحرين لا يذهبون الى الموت هربًا من الحالة الاقتصادية فقط، بل أيضًا جراء تعرضهم لأزمات نفسية متعددة نابعة من المشاكل التي تعانيها الأسرة، أو من حالات اجتماعية لها علاقة بالعادات والقيم التي تحكم مجتمعاتنا

ماجد: نمط مقلق

لا تغيب حالات الإنتحار عن المجتمعات. تزيد أو تنقص بحسب ظروف تلك المجتمعات والمبادىء والقيم والمفاهيم التي تحكم أفرادها. ولكن ما يستدعي وجود حالة طوارىء نفسية واجتماعية في لبنان، هو أن هذه الظاهرة تزداد من سنة الى أخرى، بشكل تصاعدي، واللافت للإنتباه فيها وجود عنصرين أساسيين هما: كثرة المنتحرات من الأجانب العاملات في المنازل، وكثرة المنتحرين من صغار السنّ، والذين، بحسب المعالجة النفسية لوما أمهز جوليان، يحتاجون الى إعارة الاهتمام بشكل جدّي، من قبل الوزارات ذات الاختصاص، لا سيما أن معظم هؤلاء لا يذهبون الى الموت هربًا من الحالة الاقتصادية فقط، بل أيضًا جراء تعرضهم لأزمات نفسية متعددة نابعة من المشاكل التي تعانيها الأسرة، أو من حالات اجتماعية لها علاقة بالعادات والقيم التي تحكم مجتمعاتنا، كما أن هناك أطفالاً يقلدون مشاهد كانوا قد حضروها في مسلسلات تلفزيونية معينة، وهنا يتحمل الأهل بشكل رئيس مسؤولية مواكبة أولادهم خلال حضورهم مسلسلات وأفلاما تتضمن مشاهد عنفية، ومراقبتهم بمسؤولية وبأسلوب سلس في أثناء استعمالهم لهواتفهم، وتنبيههم من الولوج الى أفلام منحرفة، ومواقع تحتوي على مشاهد عنفية أو حميمية. وعلى وسائل الاعلام أن تتوخى عرض تلك الأفلام، في أوقات سهر الأولاد، كي تسهم في تجنيبهم متل هذه المشاهد المؤذية.

وقالت ريما ماجد، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت، لموقع Middle East Eye  البريطاني: “أصبح الانتحار شكلاً مُتطرِّفاً من الاحتجاج في هذه المواقف العصيبة، لكن على أيَّةِ حال فإن تدهور الصحة النفسية والانتحار نتيجتان للمشكلات الاجتماعية الأوسع”.

وبينما أوضحت ماجد أن المصاعب الاقتصادية لم تكن سبباً مؤكَّداً للانتحار، فإن “الأمر يتعلَّق بالإفقار – إدراك الناس أين كانوا وأين أصبحوا الآن”.

وتقول ماجد أن الحالات الفردية، مثل انتحار علي الهق، لطالما مثَّلَت مشكلةً يصعب اعتبارها “رمزية” ونزعها من السياق، في محاولةٍ لتصوير هذه الحالات باعتبارها وقائع منعزلة بدلاً من أنها تعكس نمطاً مُقلِقاً أوسع.  وختمت بالقول: “هناك أناسٌ أكثر بكثير ينتحرون في منازلهم، لكننا لا نسمع عنهم”.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

صحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الحريات.. ثروة لبنان التاريخية المفقودة!