جاء العيد وبدأ البكاء على أطلاله. وتدفَّقت الردحيَّات المُنتحِبة على خراب الوطن. لم يستطع معظم اللبنانيّين الوقوف وقفة عَرَفة، فوقفوا على أطلال البلد. تماماً كشعراء الجاهليَّة. فهؤلاء، كانوا يذهبون إلى حيث كان يعيش المحبوب، ليَشرعوا بالنحيب على اندثار المكان وذكرياته. كانوا كالذي يذهب برِجليْه إلى مملكة الآلام والأحزان، للتحسُّر على عمرٍ جميلٍ هارب بلا عودة. لم يكن شعراؤنا يكتفون بالتأوُّه. إنَّما كانوا يتفكَّرون، وهم يتأمَّلون المشهد الكئيب المرسوم أمامهم. كانوا يبثّون أسئلةً في الخلاء. أسئلة تنطق بلسان حالهم أو بلسان المقال. لماذا ومتى وأين وكيف و…؟ كأنّهم، بأسئلتهم، كانوا يطهِّرون أرواحهم وأجسادهم من النسيان والقسوة. كأنّها المحرقة عندما تطهِّر الكيان. وعلى نارها، تغلي العاطفة في قِدْر الأيّام الراحلة. ويحترق القلب، في بوتقة الزمن الجارف. زمنٌ لا يكترث لأوجاع أو مشاعر أو أفكار. ألا يشبه انتحابُ اللبنانيّين اليوم على أطلال الوطن، انتحابَ الشعراء بالأمس على أطلال الأحبَّة؟ بلى.
كان كلّما لاح عيدٌ في الأفق، تردِّد صديقتي في الغُربة على مسمعي: “يا إلهي كم أكره الأعياد!”. “لماذا؟”، أسألُها. “يخيفني الحنين. فهو كالسكين الذي ينكأ جراحي”، تجيب. كانت تلك الصديقة مقطوعة من شجرة. لا أهل لها ولا عائلة ولا وطن. هجرتْ لبنان منذ زمنٍ طويل. أي، قبل أن يُمسي جحيمنا الدائم. تمرّ في بالي، ونحن في خضمِّ “العيد الكبير” (كما يسمّونه)، فأسأل نفسي: أيْنَها اليوم لترى ما نراه؟ لا عيد عندنا ولا أعياد. ولا بيوتاً ومواسم نشرِّعها للعيد، أو شمساً تشرق على الناس، أو طيوراً تغنّي في السماء. لقد غادرتنا كلُّ ضحكة وبهجة، وفارقنا كلُّ أمل ورجاء. صرنا كمَن يغنّي على عودٍ بلا أوتار. حتى الربّ، يبدو أنّه تخلَّى عنّا. أيقاصصنا؟ أيتركنا بعدما مشينا طائعين إلى حتفنا؟ كأنّه يسألنا ولا ينتظر الجواب: أتشكون يا لبنانيّين الجوع، وعناقيدُ كرومكم أبْشَمَت كلَّ لصوص لبنان؟
قد يخجل المواطن اللبناني من المجاهرة بتمنِّيه الموت لحُكَّامه. لذا، نسمعه يكتفي بترداد المثل المَجَري القائل “في موت الذئب عافية للغنم”
يرنُّ هاتفي رنّةً تنبيهيَّة، إيذاناً بوصول رسالة. أحدهم بعث لي تسجيلاً بصوتٍ معدنيِّ النبرة، يذكِّر بذاك الصوت الذي ينطلق من الـ answering machine عندما يتّصل الواحد منّا بمؤسّسةٍ ما. يرمي محتوى الرسالة الصوتيَّة إلى التهكُّم على الوضع الذي وصلنا إليه بفضل “الكلِبتوقراطيَّة” اللبنانيَّة، المصطلح الذي يعني “حُكم اللصوص” في لبنان. ينطلق التسجيل: “أهلاً بكم في الجمهوريَّة اللبنانيَّة. إذا كنتَ تريد أن تموت بالكوڤيد-19، إضغط على الرقم 1. إذا كنتَ تريد أن تموت باللحوم الفاسدة، إضغط على الرقم 2. إذا كنتَ تريد أن تموت على باب المستشفى، إضغط على الرقم 3. أمّا إذا كنتَ تريد أن تموت فقْعاً، إضغط على الرقم 4. لطلب الموت بأيّ طريقة، إضغط على رمز النجمة. شكراً لاستخدامكم خدمة موَّتني وريَّحني. إنّ زعماء الوطن في خدمتكم”. إذن، هو الموت بالمَجَّان يُوزَّع على أهل لبنان. الموت البطيء، السريع، الفُجائي أو المقصود. يأتيهم من كلِّ حدبٍ وصوب، ويطوِّقهم من شتّى الاتجاهات. هو لا يستثني أحداً، للمفارقة، سوى الجلاّدين. سوى جلاّديهم. أيُعقَل؟ لماذا لا يطالهم الموت مثلنا؟
قد يخجل المواطن اللبناني من المجاهرة بتمنِّيه الموت لحُكَّامه. لذا، نسمعه يكتفي بترداد المثل المَجَري القائل “في موت الذئب عافية للغنم”. لكنّ أهل السلطة لا يخجلون. بل، يتعجَّبون ممّا أسموه “خطاب الكراهية” الذي رشح من المواقع التواصليَّة. إذْ اندلعت ردود فعل اللبنانيّين لتسخر، بقهرٍ وتشفٍّ، من هلع نواب الأمّة وزعمائها، بعد شيوع خبر قرْع فيروس كورونا أبواب البرلمان اللبناني (أُعلِن لاحقاً أنّ هناك عصابة تزوير للفحوصات). اغتاظ بعض الحُكَّام وجمهورهم، عندما استشفّ لهم السِتْر. أي، عندما لمسوا لمْس اليد حجم الحقد الذي يُكنِّه لهم الناس. الواضح، أنّ حُكَّامنا تآلفوا مع الشتيمة، وتساكنوا مع اتّهامات تجريمهم تهبط عليهم أمطاراً من الشُهُب. فبتقديرهم، لا قيمة أو مفاعيل في هذا البلد للشتائم والاتّهامات. وعليه، يبلع لصوص الحُكم كلَّ ما يصدر عن الشتّامين والمتَّهِمين، إنَّما يغصُّون بفكرة أن يفرح الناس لمرضهم أو يتمنّوا هلاكهم. لماذا يا ترى هذه الغصَّة؟ ومنذ متى يهمُّ حُكَّامنا ما يشعر به الناس؟ هل يقلقون من أن يستجيب الربّ لدعواتِ المقهورين؟ إذْ يُقال، إنّ هكذا دعوات لا تُرَدّ.
لماذا تكرهوننا أيّها اللبنانيّون؟ يسأل أهل السلطة ببلاهة الجاهل، وهم لا يدرون ماذا يسألون. وسؤالهم يذكِّر بسؤال أصدقائهم الأميركيّين في مطلع الألفيَّة الثانية: لماذا يكره العرب والمسلمون أميركا؟ وإذا كانت الإجابتان مختلفتيْن، إلاّ أنّ خلفيَّتهما لا تختلف: إنكار المجرم لجُرمه. ولكن، هل الضغينة في طبيعة اللبناني؟ قطعاً لا.
لم يخلق المواطن اللبناني وفي فمه ملعقة مصنوعة من الشرّ والتنازع والتخاصم والحقد على الآخرين. لكنّ رحلته في هذه الحياة، لم تكن يوماً سهلة أو طبيعيَّة. لقد إقتبس في هذه الرحلة، جميع “فنون” التفرقة والتطرّف والفئويَّة والعنصريَّة. ولا سيّما، عندما استفحل أولياء بلده في تخريب البلد، كلٌّ على طريقته. هم رضَّعوه طفلاً مع الحليب، كلَّ صنوف المشاعر السلبيَّة. وعندما كبر قليلاً وبدأ وعيه بالتشكُّل، قسَّموا له البشر فِرَقاً وأطيافاً وجماعات. درّبوه على تقنيّات فرْز البشر. علَّموه كيف يميِّز، من خلال بضع “علامات”، بين لبنانيٍّ وآخر. وأفهموه كيف يجب أن يشعر تجاه هذا اللبناني أو ذاك. لقد أوحوا إليه، متى ومَن يجب أن يحبّ من الناس أو يكره. ومتى ومع مَن يجب أن يتكافل أو يتنافر. وأفتوا له، وهذا هو الأخطر، متى يحقّ له (شرْعاً) أن يتخلَّص من “الآخر”. وهذا “الآخر” هو “المختلف” عنه. سواءٌ أكان ذلك الاختلاف في الفكر أو الرأي أو اللون أو الجنسيَّة أو الدين أو المذهب أو القوميَّة..، لا فرْق.
إنْ تمنّوا الهلاك لكم، فهذا التمنّي هو بمثابة الرصاصات التي تُطلَق دفاعاً عن النفس. حينئذٍ، تصبح أسئلة المفاضلة مشروعة: هل إنّ تمنّي الموت للحاكم أفظع من دفْع هذا الحاكم الناسَ إلى الموت؟ وهل “الجُرم” الأوّل جناية، و”الجُرم” الثاني جنحة؟
يبقى المهِّم، وجوب أن يكره هذا “الآخر المختلف” لأنّه يجهله. أمّا الأهمّ، فهو ضرورة أن يُبقي على جهله هذا. وفي اللحظات العصيبة، يتعلَّم كيف يستدعي ويستنهض بضع زجليَّات فولكلوريَّة محفوظة له في أرشيف البلد. وبينما يتفنَّن جهابذةُ “النظام” في اختيار أساليب التنكيل بالناس، يوعزون للّبنانيّين كي يتقيَّئوا المقولات الببّغائيَّة التي حفَّظوهم إيَّاها عن ظهر قلب. فهي برأيهم، تساعد جدّاً في ترطيب الأجواء المتشنِّجة. خصوصاً في الأعياد الطائفيَّة، وعندما تُفتَح نوافير الدم لتروي الزرع. اسمعوا ما أنتجه النظام اللبناني للشعب في مئة عامٍ: “أحبّوا بعضكم”…”نحنا لبعضنا”…”خلقنا سوا ومنبقى سوا”.. و”كلّ عمرنا عايشين سوا”… وصولاً إلى أهزوجة “مرحبتيْن ومرحبتيْن ويْنُن هالدبِّيكة وَيْن…”. ومع الأيّام، تحوَّل المواطن اللبناني إلى تركيبةٍ تستوطنها أشدّ المتناقضات. وأمسى وجدانه حالةً نموذجيَّة (تستحقّ الدراسة) تتصارع فيه الأعراض الأشدّ فتكاً في بنية الشخصيَّة. لقد أسَّست طبيعةُ النظام اللبناني، بشكلٍ كبير، لهذا الخلل البنيوي. وهي أفرزت عيوباً في حياة البلد السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والمؤسّساتيَّة والمهنيَّة. وأفرزت هذه العيوب، بدورها، نوعاً من الحُكَّام يشبهون كلَّ شيء إلاّ الحُكَّام. هم، بمعنى أوضح، أشباه رجالٍ ولا رجال (بالإذن من الإمام علي). يتهالكون على الشرّ والأذيَّة واستباحة الحقوق والمبادئ والقيم. معروفٌ أنّ الشرّ لا يُلقي سلاحه حتى يلفظ آخر أنفاسه. وهذا هو شرُّهم، لا يعرف الصلح والمهادنة. عملوا بوحيٍ منه وأنجزوا. فلم يُبقوا في بلادنا غصناً غير مُنتَهَبٍ، أو وجهاً غير مُستَلَب. وتسألون أيّها المُتحكِّمون بنا، لماذا يكرهكم اللبنانيّون؟ هل من المعقول ألاّ يستوقفكم هذا التقهقر في مستوى الأمل عند الناس، إلى حدٍّ باتوا يرون في فيروس الكورونا سبيل خلاصهم منكم؟
وهم إنْ تمنّوا الهلاك لكم، فهذا التمنّي هو بمثابة الرصاصات التي تُطلَق دفاعاً عن النفس. حينئذٍ، تصبح أسئلة المفاضلة مشروعة: هل إنّ تمنّي الموت للحاكم أفظع من دفْع هذا الحاكم الناسَ إلى الموت؟ وهل “الجُرم” الأوّل جناية، و”الجُرم” الثاني جنحة؟ يفسِّر أهل القانون، أنّ جريمة القتل لا تعني، حصْراً، أن يطلق الجاني مباشرةً النار من سلاحٍ حربي على الضحيَّة. بل، يكفي أن يضع ضحيّته في ظروفٍ يغلب عليها الموت. ليكون بذلك قد ارتكب جريمةً موصوفة. ويعطينا التاريخ مثالاً ساطعاً في هذا الإطار: الإبادة الأرمنيَّة.
فالمَقْتَلة التي ارتكبها العثمانيّون بحقّ الأرمن، لم تكن قتلاً بالمباشر لهم جميعاً. إنَّما نفَّذوا بهم المجازر، بشكلٍ منهجي (1915-1923)، من خلال الترحيل القسْري لهم في ظروفٍ إنسانيَّة قاسية جدّاً. فمات مئاتُ الآلاف على الدروب جوعاً وعطشاً. وهذا، بالضبط، ما تفعله الطغمة الحاكمة باللبنانيّين. لقد خطفت هذه الطغمة الشعب، وجرَّدته بدمٍ بارد وعن سابق تصوُّر وتصميم، من كلِّ شيء. فهي لم تكتفِ بهدْر المال العامّ، بل سَطَت (ولا تزال تسطو) على كلِّ الثروات الطبيعيَّة وغير الطبيعيَّة في البلد. ووصلت يد لصوص الحُكم إلى مال اللبنانيّين الخاصّ. أي، المال الذي جنوه بتعب العمر وعرقه، في الوطن والمهجر. ماذا بعد؟
عندما يوصل أحدُهم أحداً إلى البؤس والمجاعة والانتحار، أي، بمعنى أدقّ، إلى الموت، يضع القانون الدولي هذا الـ”أحدهم” ضمن خانة المجرمين المرتكبين “جرائم ضدّ الإنسانيَّة”. وهنا نسأل بعض المتزلِّفين والمنتفعين والمصطفِّين وراء أكباش الطوائف كالخواريف السائرة للذبح في يوم العيد: كيف تصنِّفون حضراتكم هؤلاء الحُكَّام؟ من أتباع المهاتما غاندي؟ حُكَّامنا ليسوا مجرمين عاديّين، بل هم مرتكبو جرائم ضدّ الإنسانيَّة. نقطة على السطر.
يقول Voltaire أحدُ الفلاسفة الفرنسيّين التنويريّين: “من الممنوع أن تقتل إنساناً، لأنّه ستتمّ معاقبتك كونك ارتكبتَ جريمة. لكن بإمكانك أن تنجو من العقاب، إذا قتلتَ الكثير من الناس. إذّاك ستُكرَّم، لأنّك بطلٌ في الحرب”. يا للسعد يأتينا كالرعد. ها هم أبطال حروبنا يروحون ويجيئون أمام أنظارنا، ويحاولون أن يمارسوا علينا سحراً خاصّاً، من خلال تسليط ابتساماتهم السمجة علينا. هم يعتقدون أنّ بإمكانهم ،عبر هذه الابتسامات، أن يموِّهوا جرائمهم! ويستنتجون ببلاهة الجاهل (الآنفة الذكر): إنّكم يا لبنانيّين تكرهوننا لقصور وعيكم. اعرفونا فتحبُّونا. الكارثة أنّنا نعرفكم جيّداً جدّاً. فحُكَّامنا طبقة من اللبنانيّين الموبوئين بجرثومة السلطة، يعيدون تدوير نفسهم كلَّ بضع سنوات. فلا يعنيهم الوطن، على قدْر ما يعنيهم تربُّعهم على عرش هذا الوطن. من هنا، تصبح، وبنظرهم فقط، كلُّ السياسات والصِيَغ التدبيريَّة التي يجترحونها (بتفوُّقٍ استثنائي) صالحة. ما دام “العرش” مُصاناً لهم ولوَرَثَتهم.
كلمة أخيرة. لقد همسوا لنا صغاراً، أنّه في زمن الأعياد تكون أبواب السماء مفتوحة. إقتضى أن نرفع بصرنا للعالي وننظر إلى البعيد البعيد.. ونُهَمْهِم كلاماً كثيراً. كلُّ عيدٍ وأنتم بخير.