ليس غريباً على لبنان وأهله مصطلح الأزمات. هذا البلد وُلد مجبولاً بالصراعات. يصنعها. يعكسها. يشهد عليها. يفيد ويستفيد منها. برغم ذلك، تبدو هذه الدورة من الأزمة غير مألوفة. لنقل أنها مختلفة عما عهدناه من أزمات سابقة.
إذا عُدنا إلى التاريخ، هناك دورة للأزمات اللبنانية والحروب اللبنانية. نال لبنان إستقلاله في العام 1943م، وإهتز إستقراره في العام 1958م، أي بعد 15 سنة. لاحقاً، كان الإهتزاز الكبير في العام 1975م، أي بعد 17 سنة. إنتهت الحرب في العام 1990م، ولم يصمد السلم الأهلي سوى 15 سنة، فوضع إستشهاد رفيق الحريري لبنان على سكة الحرب ـ الأزمة الوطنية المفتوحة. نحن الآن في العام 2020م، وهو المعدل التقريبي لدورات الأزمات الوطنية. هذه سيرة لبنان: حرب تقود إلى سلم ثم حرب تأخذنا إلى سلم وهلمجراً.
غير أن الأزمة الراهنة التي يمر بها لبنان ـ الطائف، تمتلك شخصية مختلفة عن سابقاتها. هذا البلد الواقف على خط التماس العالمي/ يعيش بين منزلتين. بين اللا حرب واللا سلم. يعيش لحظة استثنائية في مسار مشرق عربي مُكبّل بالفراغ القاتل منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003م. في هذا المشرق، لا سلم من دون حرب ولا حرب من دون لبنان، ولكن لبنان الحرب لطالما كان متنفساً للأزمات. جاءت الفورة النفطية العربية، وتحديداً الخليجية في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكبرت التناقضات الإقليمية. إنفجر لبنان، بينما كان العالم العربي يشهد رتابة سياسية على مسرحه غداة حرب العام 1973م.
في يومنا هذا، تنتشر الحروب في قلب الوطن العربي وبين العرب وجيرانهم شرقاً وغرباً وشمالاً. العرب واللاعبون الإقليميون يحتاجون إلى ساحات بلا حروب. لبنان بهذا المعنى ليس مؤهلاً ولا متنفساً، وبالتالي، لا خوف على سلمه الأهلي. الحروب الأهلية تحتاج إلى عناصر عديدة، أبرزها وأهمها التمويل. اليوم، لا أحد يريد أن يصرف فلساً ويموّل حروباً. الكل في المنطقة غارق بالهموم الإقتصادية والعجز المالي. الكل يفكر بنجاته أولاً. الكل ينأى بنفسه عن لبنان وغيره. لبنان بات اسير معادلة توازنات الرعب الإقليمية. لا هو في حالة حرب ولا في حالة سلم. إنه في منزلة بين الإثنتين.
يعاني لبنان بسبب كثرة الأدوار المطلوبة منه، شرقاً وغرباً. شمالاً وجنوباً. لبنان البلد يئن تحت وطأة OVER LOAD الأدوار المطلوبة منه دولياً وإقليمياً. لعلها لعنة الجغرافيا
ثمة دور لبناني أصيل في المنطقة لا يمكن تجاوزه. الموضوع لا يتعلق بزعيم أو طائفة أو حزب أو منطقة. إنه أعمق ويلامس الخريطة الاستراتيجية الكاملة للمنطقة. الأزمة التي يمر بها لبنان اليوم تلامس حقائق الدور اللبناني على الخريطة الاستراتيجية الكبرى. لعلها المرة الأولى التي نجد فيها أحزاب السلطة (من موالاة ومعارضة تتبدل بين حين وآخر) تتمسك بالدولة، ولو أن الأخيرة باتت هي الحلقة الأضعف.
ما يعاني منه لبنان اليوم هو العجز الوظيفي على الخريطة وليس إلغاء دوره الجغرافي وكل ما يحمله من إرث وتاريخ. يعاني لبنان بسبب كثرة الأدوار المطلوبة منه، شرقاً وغرباً. شمالاً وجنوباً. لبنان البلد يئن تحت وطأة OVER LOAD الأدوار المطلوبة منه دولياً وإقليمياً. لعلها لعنة الجغرافيا. إلا أن الأكيد أن لبنان السياسي، أي لبنان الناس، عجز حتى الآن عن خلق طبقة حاكمة تليق به وبدوره.
ثمن الخروج من المأزق الراهن واضح.. لكن من الذي سيدفعه؟
تدفعه الطبقة المتوسطة في لبنان التي لطالما شكّلت صمّام الأمان السياسي والإقتصادي والإجتماعي. هذه الطبقة كان لها دورها البارز منذ ستينيات القرن الماضي، وتحديداً منذ بداية العهد الشهابي. هذه الطبقة تكاد تنقرض اليوم وتنزلق لتصبح فقيرة. مدخرات العمر باتت سجينة في المصارف. اقتصاد البلد محاصر. كورونا يخلط الأوراق. الفضاء الإعلامي متوتر. مطار رفيق الحريري الدولي مفتوح، لكن إلى أين؟
عندما نتصفح وسائل الإعلام الرقمية اللبنانية، لا نجد من يدعو الى الحوار، وإذا دعا، فإن الدعوة تأتي متأخرة. ثمة تصفية حسابات بين سياسيين يبرعون في لعبة حافة الانهيار. غير أن الانهيار الكلي إن وقع، أي الإرتطام الكبير والمدوي، (لا يبدو أن المجتمع الدولي يقبل به في ظل معادلة توازن الرعب) سيؤدي حتماً الى سقوط النموذج السياسي والإقتصادي الذي أفرزه إتفاق الطائف.
ما يشهده لبنان من OVER LOAD الأدوار ناتج عن حالة اللاحرب واللاسلم. حقبة لا أحد يستطيع أن يحدها بأفق زمني. حقبة أدت إلى تعطيل السياسة. هل يمكن أن تكون القاعدة مقلوبة؟ أي أن يكون هناك دور للبنان في لحظات الفراغ الإقليمي؟ وهو دور مارسه، في السابق، سياسيون ومفكرون وصحافيون وشعراء وأدباء لبنانيون أدركوا أن موقع البلد لبنان هو صانع الدور اللبناني وليس العكس كما يحلو للبعض الإدعاء.
لقد صرف سياسيو لبنان جهداً كبيراً في ابتكار عناوين لدور بلدهم في خضم الأزمات. كالحياد والنأي بالنفس وغيرها من العناوين التي لم يكتب لها الحياة. آن الأوان لإختراع تجمعات وأرقام وأحزاب جديدة
أين فريقا 8 آذار و14 آذار؟
ألم يعش لبنان طفرة اقتصادية في حقبة الإنقسام العامودي بين هذين الفريقين؟
لقد عاش لبنان طفرة اقتصادية هائلة بعد حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005م وإستمرت حتى العام 2011م برغم حرب تموز/يوليو 2006م وأحداث 7 أيار/مايو 2008م. ترافقت هذه الطفرة مع فيضان للدور اللبناني على كامل رقعة المشرق العربي، في إشارة الى أن لبنان الدور مطلوب ومرغوب من قبل المتصارعين. يكفي أن نتذكر كيف كان هذا البلد موجوداً على جدول أعمال المملكة العربية السعودية وقطر وإيران وفرنسا وتركيا وروسيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول.
تبدلت الصورة حالياً. “العالم ينأى بنفسه عن لبنان”، على حد تعبير دبلوماسي عربي مخضرم في بيروت. عبارة تختصر شخصية الأزمة. أعطي لبنان الكثير من فترات السماح. إعتقد الخارج أن اللبنانيين صاروا ناضجين وأنهم بلغوا سن الرشد السياسي. الحقيقة المفجعة أن لبنان الذي كان ينتج سياسة وأفكارا وثورات صار مقبرة للأحزاب والأفكار والثورات. إنتهت الديناميات السياسية التي تشهد تفاعلاً بين هذا المعسكر وذاك. ثمة من يقول بالفم الملأن أن كل لبنان أصبح محسوباً على فريق 8 آذار. لكن أين 14 آذار ومن هو المسؤول عن إنتكاساتها أمام جمهورها وأمام حلفائها الإقليميين؟
لقد صرف سياسيو لبنان جهداً كبيراً في ابتكار عناوين لدور بلدهم في خضم الأزمات. كالحياد والنأي بالنفس وغيرها من العناوين التي لم يكتب لها الحياة. آن الأوان لإختراع تجمعات وأرقام وأحزاب جديدة. خلطة أو توليفة سياسية تجعل المنتج اللبناني حاضراً على الطاولة الإستراتيجية الكبرى.
قد تكون 8 آذار صاحبة مصلحة في تجديد نفسها، بخطابها وقواها، حتى تشكّل قوة دفع تجعل 14 آذار تستعيد قوامها وحضورها السياسي مجدداً. توازن الحد الأدنى من شأنه أن يستدرج لاعبين خارجيين. تاريخياً، هناك توازن مبني على قاعدة ابتزاز الخارج بالداخل والداخل بالخارج، لكن يجب توافر عناصر الجذب هنا وهناك.
يحتاج فريق 8 آذار إلى سعد حريري ما أو من يلبي وظيفته عند الجمهور نفسه والعمق العربي نفسه. يسري ذلك على آخرين أبرزهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. لا بد من شريك مسيحي في الخانة ذاتها؟ هل من عقول لبنانية قادرة على الإبتكار وإستدراج الداخل لتوازن يفتح الباب أمام مقاربات خارجية جديدة للداخل اللبناني؟