علِّقوا المشانق!

هل يجوز أن نبدأ مقالاً بالصراخ؟ والله لو كان للحروف صدى، لخرق كلُّ الكلام الحزين المُقال في بيروت ولبنان، جدار الصوت في السماواتِ السبع. لكن، هل يمكن أن تنصرف الكلمات لـ"مديح الكراهية"؟ نعم وألف نعم. هذا المديح الذي جعل منه الكاتب السوري خالد خليفة عنواناً لروايته عام 2006 (ممنوعة من التوزيع في سوريا)، "وضع" خليفة على لائحة أهمّ روائيّي القرن العشرين.

عندما أقف على أرض بيروت وأتأمّل البحر الذي ابتلع أحبَّةً ومساكين ومقهورين وجائعين وموجوعين وأبطالاً، لا أرى إلاّ كرهي يطفو على سطح المياه. وحده نجا من الغرق مع الغَرْقى. يطفو ليدلَّ كإبرة البوصلة في اتجاهٍ واحد إلى القاتل. يدلُّ إليهم. إلى “هوذيك الناس”. لقد عرفتموهم، حتماً. وحزرتم، طبعاً، مَن يكونون. مثلما تحزرون، عادةً، اسم المرض الذي يموِّهه مَن يخبر عن مُصابٍ بمرض السرطان. يقول والأسى في العيون “معو من هيذاك المرض”. نحن، أيضاً، لا نقوى على لفظ أسمائهم. سنموِّهها، تماماً كما نموِّه مرض السرطان. هُم السرطان بعينه، فلماذا لم يوعز الجرَّاحون بعد لاستئصاله؟

نعود إلى “مديح الكراهية”. فالكراهية، كما يستنتج الكاتب خليفة، قيمةٌ إنسانيَّة موجودة في داخل كلّ إنسانٍ منّا. هي الوجه الآخر للحبّ. ولأنّنا نخجل من المجاهرة بالكره، نجاهر بالحبّ ولو كذباً. كم أكرههم. لا مكان في قاموس حياتي، بعد اليوم، إلاّ لكره مُحتلِّي السلطة في بلدنا. كلُّ شيء معهم انتهى. انتهينا. لا كلام أو اتفاق أو فترات سماح لحُكَّام لبنان. لا نستطيع المساومة معهم، مثلما لا نستطيع أن نساوم مع الموت. هُم طغمة اكتملت معها أوصاف الشرّ والرذيلة. طغمة حاكمة، بإمكانها أن توزّع إجراماً وفجوراً على كلّ حُكَّام المعمورة. طغمة عضليَّة، إذا شُتِم ركنٌ من أركانها تنجرح “كرامتها” فتضرب سواعدها الثوّار وتعتقل نصف الشعب اللبناني. أمّا عندما يموت نصف هذا الشعب اللبناني، تعود هذه الكرامة إلى سباتها العميق. فلا ترى حاجةً لسوْق موظَّفٍ بسيط إلى التحقيق، حتى. إذْ يقوم تكتيك حُكَّامنا في السلطة، على فلسفة “تصفية الماء من البعوضة وابتلاع الجمل بالمقابل” (إنجيل متّى- الأصحاح 23). ماذا بعد؟

سيبقى الرابع من آب/ أغسطس، يوماً فظيعاً في عمر بلدنا المشرَّع على الموت والنكبات والكوارث المقبلة. فلا اسم لما حصل في بيروت وضدّها. إنّه أكبر من إنفجار وأقلّ من ثوران بركان. ولكنّه ليس بالتأكيد مجرّد accident (حادث) يا سيّدي رئيس البلاد

لن يكون الحال بعد الرابع من آب/أغسطس 2020 مثل قبله. يجزم الجميع بهذه الكلمات. حتى الرئيس الفرنسي قالها بالفم الملآن، هو الذي نزل علينا كنقطة ماءٍ في رمال تصحُّرنا السياسي في لبنان. وسيبقى الرابع من آب/ أغسطس، يوماً فظيعاً في عمر بلدنا المشرَّع على الموت والنكبات والكوارث المقبلة. فلا اسم لما حصل في بيروت وضدّها. إنّه أكبر من إنفجار وأقلّ من ثوران بركان. ولكنّه ليس بالتأكيد مجرّد accident (حادث) يا سيّدي رئيس البلاد. لنقُلْ، إنّ ما حصل يقترب من حدوث أقصى أنواع الأذى بحقّ أرضٍ وشعب. إنّه أذى، يقف على عتبة الواقع الذي يعتبره اللبنانيّون كابوسيّاً: اندماج الغباء بالفساد وبالإهمال وبالاهتراء وبالإرهاب وبالإجرام. هو، إذن، “كوكتيل” لمقوِّمات الحُكم، نَقَل معركة اللبنانيّين مع سلطتهم الحاكمة، إلى مواجهةٍ مباشرة باللحم الحيّ. والأنكى، أن لا اسم واضحاً للخصم بل للمعتدي بل للعدوّ!

لكن، لم تغيِّر فاجعة بيروت شيئاً من سلوكيّات سلطتنا. جلّ ما فعلوا هو التفكير بعقلٍ غبي وقلبٍ إجرامي، كيف سيجعلون الناس ينسون كارثة المرفأ، بأسرع وقتٍ ممكن. فكلّ اهتمامهم مُنصبّ، في هذه الساعات، على إيجاد “ثغرة” يُفْلِتون عبرها. وعلى اجتراح احتيالٍ ما، يمكِّنهم من التنصُّل من مسؤوليَّة ما جرى وتحميلها لآخرين. لما لا القضاء مثلاً؟ (تحديداً قضاء الأمور المستعجلة الذي قيل إنَّه أُعلِم بما يحويه العنبر 12). وهنا، لا يَسَعُ المرء إلاّ أن يقهقه بالصوت العالي على هذا الكمّ من الغباء وقلّة الحياء لدى أعضاء “سلطة نيترات الأمونيوم”. نعم، بات بإمكان سلطة الذلّ والظلام والإفلاس والجوع والنفايات واللصوص..، أن تسمّي نفسها، وبكلّ فخر، “سلطة نيترات الأمونيوم”. وللإشارة، هذا النعت غير متاح للجميع. هو يتوفّر، فقط، لمن قيَّض الله له قبْض المال الكثير (يُحكى عن مليونيْ دولار)، ليحصل ما حصل في مرفأ بيروت.

لكن، مَن يثأر لدم ضحايانا؟

على الأرجح، لن يقوى أيُّ عدلٍ في هذه المعمورة على اختراق خطوط الدفاع التي تنصبها سلطتنا الحاكمة حول نفسها، للتمويه (على) والعبث (بـ) وإخفاء الأدلّة في ساحة الجريمة. مطلق جريمة. ليس هناك أدهى من حُكَّامنا، ليحموا بعضهم بعضاً ويتستَّروا على جرائمهم ويخفوها. أحياناً، يخفون جريمةً بجريمةٍ أخرى. حُكَّامنا يُجرِمون مع الشهيق والزفير. إنّما، لا يتكبَّدون أيّ عناء لتبرير ما تقترفه أيديهم وعقولهم المريضة. فالقَتلَة لا يبحثون عن فلسفة، بل يبحثون عن أجورهم، كما يقول الكاتب الروماني وخطيب روما الشهيرCicero.

بتنا نعيش يا ناس، كما تعيش بعض الحيوانات، في أحسن الأحوال. بل، إنّ هناك قططاً وكلاباً تنعم بحياةٍ أكرم من حياة شرائح واسعة من اللبنانيّين

فمُنتَحلو صفة “الحُكم” في لبنان، لم يتركوا نوعاً من الجرائم “يعتب” عليهم. والمرعب، أنّهم انتقلوا من القتْل بـ”المفرَّق” إلى القتْل “جماعيّاً”. فلقد ضاهى نشاطهم، يا أصدقاء، نشاط مُحترفي الإجرام عبر التاريخيْن، العربي والغربي. وصل مستوى إجرامهم إلى حدِّ الإبادات والجرائم الفاشيَّة والنازيَّة وتلك المُرتكَبة في الغولاغ الستاليني. هم تتلمذوا، أيضاً، على أيدي أعتى الديكتاتوريّات العربيَّة. كيف لا، ومعظم رموز السلطة اللبنانيَّة دشَّنوا حياتهم السياسيَّة بالمذابح والمجازر والمقابر الجماعيَّة وغرف التعذيب والخطف والرهائن (في حروب لبنان). لكنَّهم، غادروا الـ style الدموي (لم يعد يماشي العصر)، فوجدوا ضالتهم في قاعات اجتماعات التآمر والتحاصص والزبائنيَّة وتحالفات الفساد وتفاهمات الإهمال. لقد لامس إجرامهم الخيانة والعمالة للعدوّ. أيُعقَل؟ نعم. فعمليَّة حسابيَّة بسيطة تُظهِر لنا كيف يخدم حُكَّامنا العدوّ. لكن، أيَّ عدوّ؟

يُعرَّف العدوّ، وبعيداً عن كلّ الزجليّات الوجدانيَّة، بأنّه مَن يأتي من خارج الحدود الجغرافيَّة والسياسيَّة، شاهراً السلاح على أهل البلد المعتَدى عليه. فيجتاز الحدود بالدبّابات والطائرات والسفن الحربيَّة. ويقتل ويدمِّر، من دون رحمة، كلّ مَن يتصدّى له ويعيق اجتياحه. لا ضوابط لشرِّه، متى استفحل في العدوان. فهو يبطش بكلّ ما يعرقله عن تحقيق مآربه التي تكون خواتيمها، عادةً، احتلالاً للأرض واستيلاءً على خيرات البلد وفرْضاً لقوانين العيش ومفاهيم السيطرة والحُكم. فكلّ مَن يحتلّ أرض الغير بالقوّة هو، إذن، عدوّ. لا نقاش في ذلك. مُسلَّمة يعرفها الصغير قبل الكبير في لبنان، تلقِّنها له كتبُ التاريخ التي لا تقارب مفهوم “العدوّ”، إلاّ من زاوية العداء للصهاينة. فهؤلاء لا يزالون، رسميّاً، عدوّ اللبنانيّين الحصْري. لكن هناك شكلٌ آخر لتظهير العداوة. كيف؟

إقرأ على موقع 180  إستطلاع "الدولية": التظاهرات راجعة.. هل تتراجع اجراءات كورونا؟

لا تخبرنا كتب التاريخ إيّاها، أنّ العدوّ ليس فقط مَن يأتي من خارج الحدود، حربيّاً أو سلميّاً. إذْ يمكن للعدوّ أن يمارس عداءه وعدوانه عن بُعد. فقد يسهّل جزءٌ من مواطني البلد المُحتلَّة أرضُه عدوان العدوّ، من خلال تنفيذ مخطّطاته وتحقيق غاياته. وهذا الجزء من المُسهِّلين يُسمَّى “عملاء”. وقد تكون العمالة واضحة وعلنيَّة يمارسها “بعضُ الشعب”، عبر مشاركتهم المباشرة في ترهيب وقمع إخوانهم في الوطن، كيلا يناهضوا ويتصدّوا ويقاوموا “صديقهم العدوّ”. وقد تكون العمالة مُلتبِسة وضمنيَّة يمارسها “بعض السلطة” (أو مَن هم في موقع المسؤوليَّة والقرار)، عبر مساعدة هؤلاء غير المباشرة في تنفيذ أجندات العدوّ وانتهاج السياسات التي تُضعِف الدولة ومؤسّساتها. والعمالة غير المباشرة، أخطر بأضعاف من العمالة المباشرة. لأنّها تقضي على كيان الوطن لمصلحة كيان العدوّ. فمن خلال العمالة غير المباشرة أو المقنَّعة، يمكن لعدوّنا أن يهاجم بالواسطة وطننا، وينهب خيراته، ويمارس علينا القهر والسلْب، ويتآمر لاستباحة خيراتنا. أليس هذا ما يقوم به، بالضبط، حُكَّام دولة “لبنان الكبير”؟ بلى.

فلقد دشّن لبنان بـ”عدوان 4 آب” حقبة جديدة في تاريخ الإرهاب الذي يمارسه النظام اللبناني الحاكم. فمعه، قد أصبح معظمنا، تحت خطّ المستوى المقبول لحياة كائنٍ بشري. بتنا نعيش يا ناس، كما تعيش بعض الحيوانات، في أحسن الأحوال. بل، إنّ هناك قططاً وكلاباً تنعم بحياةٍ أكرم من حياة شرائح واسعة من اللبنانيّين. صدّقوني، ليس هناك مبالغة في التشبيه. وعليه، كيف يمكن أن يصنِّف المواطن اللبناني حُكَّامه برأيكم؟ هل يجب أن يعتبرهم أصدقاء؟ أو أن يضعهم في خانة الأعداء والعملاء؟ فهُم يخترعون معادلاتٍ للبؤس في وطننا، لم تخطر ببال محتلٍّ أو عميلٍ أو عدوٍّ من قبل؟ لم يفعل أفعالهم العثمانيّون أو الفرنسيّون أو السوريّون أو الصهاينة حتى؟ للمرّة الأولى نشهد تفوّق العميل على أسياده. هذا ما حصل ويحصل في لبناننا، بعدما استلم حُكَّامه “أمانة الُحكم”.

الإرهابيّون على الأبواب والعملاء في السلطة، فكيف تقبلون يا لبنانيّين بهؤلاء الحُكَّام؟ كيف تقبلون يا ثوّار 17 تشرين الأول/أكتوبر بهذا الاستسلام؟

ماذا بعد هذا الخراب؟

كلّ الدول أدبرت عنّا. ولا يظنّن أحد، أنّنا نفتقد عطف المجتمع الدولي وودّه وعونه! هي مجرّد إشارة، إلى سابقة لم تُسجَّل في تاريخ الأمم. فالجميع، من دون استثناء، أعرضوا عن مساعدة لبنان. لقد نُمي إليهم، أنّ علماء الفلك عثروا في فضاء الدولة اللبنانيَّة على “ثقب أسود متوحِّش”، يلتهم شمساً واحدة كلّ يوم تقريباً. وبحسب المعلومات المتوافرة، فإنّ هذا الثقب هو الأسرع نموّاً ويبدو أنّه جائع للغاية. أمّا الدول المقتحِمة بصداقتها الساحة اللبنانيَّة، فباتت تصوغ “خطابها التدخُّلي” من دون قفَّازات. قبل أسابيع، قال وزير الخارجيَّة الفرنسيَّة بلغته الديبلوماسيَّة لحُكَّام لبنان، ما مفاده، “أنتم كذّابون”. وهو وقف بالأمس وراء رئيسه ايمانويل ماكرون وهو يقول للحُكَّام إيّاهم بلغةٍ أوضح قليلاً، ما مفاده، “أنتم بلا أخلاق”. أعلن الوزير الفرنسي أنّ المجتمع الدولي لم يعد يثق بوعود الإصلاح الكلاميَّة للمسؤولين اللبنانيّين. وعاد الرئيس الفرنسي وأكّد على كلامٍ غير مسبوق، في تاريخ الديبلوماسيَّة الدوليَّة، ينضح إهاناتٍ وتوبيخاً لسلطة دولةٍ (من المفترض أنّها) مستقلّة.

فأمام الناس الذين هُرِعوا للترحيب به وشكر عاطفته تجاههم، بصق ماكرون بوجه حُكَّامنا جملتيْن رهيبتيْن: “لن تمنح فرنسا المسؤولين اللبنانيّين شيكاً على بياض”؛ و”ستُوزَّع المساعدات الفرنسيَّة مباشرةً على الناس أو عبر الأمم المتحدة ولن تصل إلى جيوب الفاسدين”. يا إلهي، أين ستخبِّئ وجوههم؟ يا أرض انشقِّي وابلعيهم! معقول؟ كيف يستطيع “مسؤولٌ” في العالم، أن يبلع هكذا كلاماً ولا يرفّ له جفن حياء؟ لقد منعتهم الكورونا من أن يمدّوا يدهم متسوِّلين أمام الزائر الفرنسي. لكنّ الجائحة أعمت أبصارهم أيضاً. فظنّ حُكَّامنا أنّ السماء تمطر في عزِّ صيفنا الملتهب. كيف حالكم طمِّنونا عنكم؟

تسأل رسائل الأصدقاء والأحباب، في الوطن والمهجر، اللبنانيّين بعد زلزال بيروت. نحن بخير شكراً، يجيب مَن لم يبتلعه عصْف الدمار. ما زلنا أحياء رغم كثرة الموت. لكنّنا لا نعرف كيف نوقف موتنا الآتي! متى سيُحاسَب القَتلَة؟ يُلحّون في السؤال. الله أعلم. كتب الروائي البريطاني George Orwell مرّةً يقول، “إنّ الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيّين والمحتالين والناهبين والخونة، لا يُعتبَر ضحيَّة، بل شريكاً في الجريمة”. وقالها أمس، مواربةً، الرئيس الفرنسي في مؤتمره الصحافي. حيث أكملت أسئلةُ الصحافيّين آخر حلقة في مسلسل الفضيحة الموصوفة. فماكرون أجاب مَن سأله “كيف تقبل بلقاء السياسيّين والمسؤولين وزعماء الأحزاب” متعجِّباً: “أنا لم آتِ بهم. أنتم مَن انتخبهم وجعلهم في السلطة!”

كلمة أخيرة. يتّخذ الكاتب والفيلسوف الوجودي الفرنسي Albert Camus‏ من أسطورة الفتى الإغريقي سيزيف، رمزاً لوضع الإنسان في الوجود. وسيزيف، هو هذا الذي قُدِّر له أن يصعد بصخرةٍ إلى قمّة جبل، لكنّها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح، فيُضطرّ إلى إصعادها من جديد، وهكذا.. للأبد. هل يمكن أن يرضى اللبنانيّون بقَدَر سيزيف؟ الإرهابيّون على الأبواب والعملاء في السلطة، فكيف تقبلون يا لبنانيّين بهؤلاء الحُكَّام؟ كيف تقبلون يا ثوّار 17 تشرين الأول/أكتوبر بهذا الاستسلام؟ إقتضى أن نكثِّف في قلوبنا الغضب والكراهية والحقد عليهم، ونعلِّق لهم المشانق في الساحات.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الزلزال الإنتخابي الفرنسي آتٍ.. أية ارتدادات مجتمعية سيُولّدها؟