يُسيّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دوريات مشتركة مع القوات الروسية في شمال شرق سوريا بعد قمته الناجحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ثم يذهب لمعانقة الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي وصفه قبل أسابيع بـ ” الاحمق”، بينما الرئيس السوري يتهمه بـ “اللص”. لكن ترامب الذي جاهر بالنفط كسبب وقح لبقائه في سوريا، بعد ضغوط البنتاغون واللوبيات العريقة في التنكيل بالعرب، كان قد قال أيضا في الرسالة نفسها لشريكه في الأطلسي أردوغان: “تعال نتفق على صفقة جيدة”. لا شك أنهما في لقائهما يوم الأربعاء قد اتفقا على الصفقة. ولا شك كذلك أن روسيا كانت وما زالت تفتح كل الأبواب والنوافذ والمنافذ لكل الصفقات مع شريكها التركي كي تحافظ على دورها القوي في سوريا والمنطقة، وتعزّز دور الدولة السورية.
في جانب آخر، تبدو العلاقات الايرانية التركية مثيرة للاهتمام، فأردوغان الذي تجنب السير في ركب من أدانوا طهران بعد الاعتداءات على منشآت آرامكو السعودية، يحافظ على علاقات تجارية واقتصادية ممتازة مع ايران، لكنه يسمع رأيين من الداخل: الاول يقول انه ” يزعجني” هو ذلك الذي ينتقد بشدة إقامة قواعد عسكرية تركية في سوريا، والثاني يقلقه المستقبل الايراني فيحذر من إحتمال امتداد لهيب العراق الحالي الى الداخل الايراني، فيلاقي تصريحه هذا صدى إيجابياً عند القيادة الايرانية عبّرت عنه بوضوح وزارة الخارجية الايرانية.
العالم ينتظر ما ستؤول اليه أحوال ترامب، وينتظر وضوح الرؤيا حول مستقبل انتخابات ٢٠٢٠ ليقرّر مع من يعقد الصفقة، مع ترامب أو مع البديل؟
لنترك جانباً إسرائيل التي تغذي كل الصراعات وتستفيد منها، ونرى الواقع كما هو: تعيش أميركا حاليا أكثر أوقاتها اثارة وحساسية، مع بدء الجلسات العلنية لعزل ترامب في مجلس الشيوخ تحت عنوان فضيحة” أوكرانيا غيت” يوازيها تقدم التحقيقات حول تضخيم ترامب لثروته واستغلال منصبه بغية الحصول على أموال من المصارف.
العالم ينتظر ما ستؤول اليه أحوال ترامب، وينتظر وضوح الرؤيا حول مستقبل انتخابات ٢٠٢٠ ليقرّر مع من يعقد الصفقة، مع ترامب أو مع البديل؟ فهذه الصين مثلا ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تنتظر بحذر قبل الاقدام على تلك ” الصفقة التاريخية” التي يروّج لها الرئيس الاميركي بقوله إن “بكين خدعتنا لسنوات طويلة بسبب الرؤوساء السابقين، لكنها تبقى أفضل من أوروبا” لجهة التجارة والرسوم الجمركية. هو تارة يعد بأنهار اللبن والعسل مع الصين، وتارة يهدد بمزيد من الرسومات والعقوبات. تجد الصين الفرصة مناسبة تماما الآن للحصول من الرئيس الأميركي على أكبر تنازلات في مجال رفع الرسوم الجمركية عن صادراتها، والا فهي ستنتظر البديل.
يريد الرئيس الأميركي في ما بقي له من وقت، أن يحقق شيئا عظيما في الخارج. لم تنفع رواية قتل البغدادي بالكثير. لا ينفع تهديده الاوروبيين بإعادة الدواعش لعندهم بمساعدته. فهم يناهضونه في ملفات كثيرة تبدأ بطبيعة التصرف مع أوروبا، وتمر بغدره بالكرد، وبتضييعه فرص السلام الفلسطينية الإسرائيلية بعد إجراءاته حيال القدس، وبدفعه إيران مجددا الى التطرف النووي، وصولا الى سعيه الآن لضرب المحور الايراني في العراق ولبنان واليمن وسوريا.
إيران تنتظر كما الصين وروسيا مآلات الانتخابات الاميركية. هي تجيد لعبة الانتظار في هكذا أوقات. لا بأس ان قدّمت جزرة الاكتشافات النفطية الهائلة، لا بأس كذلك ان نصحت بتسهيل المفاوضات بشأن اليمن، لا بأس ان رفعت الصوت متهمة أميركا وإسرائيل بالتآمر في العراق ولبنان. كل هذه أوراق تريد استخدامها لصد أميركا أو جذبها بشروط إيرانية بعدما فعلت العقوبات الاقتصادية فعلها في الداخل الايراني وعند حلفاء طهران. وفي هذا رد أيضا على العقوبات، فالصين جاهزة لصفقة نفطية كبيرة مع إيران تكمل صفقاتها الكثيرة معها.
أردوغان ذهب باتجاه ترامب بغية الحصول على مكاسب أكثر في هذا الوقت الحساس. السعودية استقبلت وزير الخارجية مايك بومبيو الذي وعدها قبل اشتعال العراق ولبنان، بان أميركا ستعمل معها لمعاقبة ايران ووضع حد لدورها. تريد الرياض وأبو ظبي الحصول على أكبر قدر من دعم ترامب قبل مغادرته او التجديد له. سارعت أميركا الى اتهام طهران بإشعال الوضعين في العراق ولبنان. إسرائيل كانت وما زالت تسعى لإقناع الرئيس الاميركي بعدم الاكتفاء بخنق طهران اقتصاديا، وانما بالإجهاز عليها وعلى حزب الله في هذه الاوقات المناسبة. وهو لن يفعل. لذلك من المهم مراقبة الأداء الإسرائيلي حين يشتد الخناق على رقبة ترامب، فدوره بالنسبة للقدس والجولان نُفذ بنجاح باهر بالنسبة لإسرائيل وما عاد قادرا على تقديم المزيد.
سنبقى اذا وحتى انقشاع الرؤيا الاميركية في أوج صراع سيحتدم أكثر بين المحاور
لو نظرنا عن قرب الى التطورات الملتهبة في المنطقة أي العراق ولبنان وسوريا واليمن، نرى تماما أن في اللحظات الاميركية الحاسمة هذه، ثمة رأيان في أميركا، أولهما يتحدث عن خطورة هذه الفوضى على المنطقة وعلى مصالح أميركا وحلفائها بسبب غياب رؤيا واضحة لدى الإدارة الاميركية، وثانيهما يجزم بأن هذه لحظة مفصلية لقلب المعادلات، فمن بوليفيا التي اطيح برئيسها، الى فنزويلا المضطربة الى هونغ كونغ المتمردة على الصين بدعم أميركي، الى العراق فلبنان، لاحظوا التشابه الكبير في ما يحصل في الساحات. ثمة من يريد ببساطة سرقة غضب الناس الصادقين والفاقدين أي أمل بسلطات فاسدة، وتوظيفه في صراع المحاور مباشرة أو عبر الجيل الرابع من الحروب. وبين الناس، من يسيرون أيضا في هذا الاتجاه مع الأسف.
سنبقى اذا وحتى انقشاع الرؤيا الاميركية في أوج صراع سيحتدم أكثر بين المحاور، وسينزف الدم العربي مجدداً في وقت الانتظار لأنه لا توجد أي رؤيا عربية لتطورات العالم…من لا يرى ذلك فهو اما أعمى أو متواطئ.