سعد محيو16/08/2020
افترضنا بالأمس أن السلام الإماراتي، وقريباً الخليجي، مع إسرائيل، لا تنطبق عليه سمة الانقلاب الجيو- سياسي وحسب ، كما السلام المصري والأردني والفلسطيني، بل هو أولاً وأساساً بمثابة زلزال حضاري. وسنقول اليوم لماذا؟
الزلزال الذي نقصده هنا لا يتعلّق بقيم الحق والعدالة في فلسطين، على رغم أنها هي المعنى الحقيقي للتاريخ ولفلسفة الوجود. ولا الظلم الذي ألحقه اليهود الإسرائيليون بحق حضارة مشرقية لم تكن لهم سوى الملاذ والملجأ طيلة 1400 سنة، من الأندلس إلى صفد والدار البيضاء واسطنبول (وحتى ما قبل ذلك مع الكنعانيين والمصريين والفرس)، ولا حتى بعد قيام من لا يملك بمنح فلسطين لمن لا يستحق.
ما نقصده هو التأثيرات الضخمة التي سيتركها اعتراف بعض الخليجيين بـ”الحق التاريخي لليهود في فلسطين” على الهوية الحضارية للإقليم العربي- الإسلامي. فإسرائيل ليست في الواقع مجرد دولة يكفي الاعتراف بوجودها على مفترق طرق آسيا وإفريقيا وأوروبا حتى يهدأ روع الآلهة الغاضبة التي تصطرع على أرضها المقدسة منذ فجر التاريخ، أو حتى يُبرم السلام والصلح بين أتباع يسوع وموسى ومحمد، بل هي كما كانت تقول كارين أرمسترونغ (The Holy war) عن حق تكثيف هائل لصراع الهوية في المنطقة. الهوية الحضارية على وجه التحديد.
خلال الحروب الصليبية، والكلام لايزال لأرمسترونغ، كان الأوروبيون يحاولون الخروج من قرونهم الوسطى الدموية عبر بلورة هوية جديدة اتخذت من الصليب شعاراً لها في حروبهم الشرق أوسطية. وهم اعتبروا أن هذا لن يكون مُمكناً ما لم يتم أولاً تقويض هوية الحضارات المشرقية، مُتمثلة في آخر عنقود فيها: الحضارة الإسلامية. وأصاب الصليبيون، استراتيجياً وإديولوجيا، حين اعتبروا أن السيطرة على فلسطين هو المدخل لهذا الهدف، لأن روح الحضارة المشرقية وهويتها ستهتز توازناتها بعنف إذا ما بُتر رأسها الفلسطيني.
وهذا ما عبّر عنه بدقة مذهلة الحوار بين صلاح الدين الأيوبي وبين أحد القادة العسكريين الصليبيين، حين كان الأول يمتطي جواده متجهاً إلى القدس للاحتفاء بفتحها. قال له هذا القائد: ماذا تعني لك القدس؟
أجاب صلاح الدين: “لا شيء”. ثم سار خطوات توقف بعدها واستدار إلى الوراء قائلاً :”كل شيء”.
إسرائيل تلعب الآن، ومعها الغرب الرأسمالي، الدور نفسه: بتر رأس الحضارة المشرقية الإسلامية في فلسطين ليس فقط عسكرياً وجيو- استراتيجيا، بل أيضاً إديولوجياً وثقافياً، أولاً عبر فصل الهوية اليهودية عن الحضارة الإسلامية التي لطالما كانت جزءاً مقبولاً ومصاناً فيها وفق مايصفه أرنولد تويني بـ”أعظم نزعة تسامح بين كل الأديان” ، ثم تسييد هذه الهوية نفسها على شتات هذه الحضارة.
مثل هذا التسييد لا يتم من خلال بعث الآلهة اليهودية (ألوهيم) الغاضبة في أنقاض معبد سليمان وحسب، بل أيضاً عبر مشروع مُتّسق مع ظروف القرن الحادي والعشرين: العولمة التكنو- رأسمالية النيوليرالية، التي يلعب فيها الرأسمال اليهودي دوراً بارزا. ها هنا نلتقي مع مشروع شمعون بيريز في “الشرق الأوسط الجديد” ومع نسختيه الأميركية (الشرق الأوسط الكبير ثم الموسّع) والأوروبيية (مبادرة برشلونة والاتحاد المتوسطي). ها هنا أيضاً نجد أنفسنا وجهاً لوجه ليس فقط مع مشروع جارد كوشنير في “صفقة العصر”، بل أيضاً مع بعض المشاريع الاقتصادية الخليجية التي تشكّل في الواقع امتداداً لهذه الصفقة.
شهدت حقبة أريعينيات القرن العشرين قبل وبعد قيام إسرائيل حركات فكرية – سياسية صهيونية (الصبارين والعبرانيين وغيرهم) تدعو إلى إعادة تهويد المشرق والخليج. والأرجح أن تنبعث هذه التيارات مجدداً الآن في إسرائيل. لا بل هي ستنبعث حتما
أين الهوية الحضارية المشرقية التاريخية في هذا الخضم الإديولوجي- الاستراتيجي اليهودي- الغربي الهادر؟
وفق مشاريع السلام الخليجية الراهنة، يجب أن تقتنع هذه الهوية بالأمور التالية دفعة واحدة:
– الاكتفاء بالفتات الاقتصادي الذي سيقدّم لها لقاء صفقة “السلام مقابل السلام”، والاحتفاء بتحوّل الفرد العربي والمسلم (خاصة الخليجي) إلى إنسان ذي بعد واحد استهلاكي، وتابع، وفاقد للهوية والذات ولمعنى الوجود الإنساني الحقيقي.
– اعتبار الهوية العبرية – اليهودية بداية تاريخ المنطقة ونهايته. وهذه ليست مجرد كلمات بلاغية فضفاضة، إذ شهدت حقبة أريعينيات القرن العشرين قبل وبعد قيام إسرائيل حركات فكرية – سياسية صهيونية (الصبارين والعبرانيين وغيرهم) تدعو إلى إعادة تهويد المشرق والخليج. والأرجح أن تنبعث هذه التيارات مجدداً الآن في إسرائيل. لا بل هي ستنبعث حتما.
– قبول قيادة إسرائيل للمنطقة، على اعتبار أنها القوة الأكثر ديمقراطية وتطوراً تكنولوجيا. أي عملياٌ قبول زعامة يهود إسرائيل للعالمين العربي والإسلامي. ومرة أخرى هذه ليست مجرد تعابير فضفاضة، لأنها من أسف مقبولة علناً الآن من بعض الخليجيين وحفنة مرتزقة من المشرقيين، ناهيك عن أنها هدف مطروح منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل العام 1897: “إسرائيل شعاع النور والحضارة لكل الشعوب”.
– نسف الهوية الحضارية – التاريخية للإنسان المشرقي (خاصة الخليجي)، عبر تفتيتها إلى هويات فرعية منغلقة طائفية ومذهبية وقبلية وإثنية، أو هويات هجينة مُتعولمة منقطعة الصلة بحضارات المنطقة وقيمها ومبادئها. وهذا قد يتم من خلال إخضاع الإنسان المشرقي إلى سطوة تكنولوجيا الثورة التكنولوجية الرابعة وشركاتها وجيوش مراكز الأبحاث الجرارة التابعة لها، والتي فصّل دورها بدقة المفكر العربي البارز جورج قرم.
هذه بعض سمات الزلزال الحضاري الذي قد يتسبّب به اندفاع بعض الخليجيين إلى الاعتراف بحق الحركة اليهودية الصهيونية في فلسطين. وهو زلزال، كما أسلفنا، في غاية الخطورة لأنه يأتي في وقت تندفع فيه كل أمم العالم وحضاراته في سباق محموم للحفاظ على قيمها ومداميكها الحضارية، ما قد تقيها شر تسوناميات عولمة تكنو- رأسمالية مُغرقة في ماديتها الميكانيكية، وفي تدميرها للبيئة وحتى لأسس الحياة برمتها على كوكب الأرض.
ماذا حلّ بأرض الحضارات والرسالات الأخلاقية – التوحيدية، كي تقبل بمثل هذا المصير الصهيوني- الرأسمالي الغربي البائس؟ كيف احتجبت هذه الشمس المشرقية التي نشرت على كل العالم قاطبة دفء العواطف والحب والضمير، ونعمة الحرف والعلم والمعرفة، وحافز تجاوز الانسان لمحدودية الإدراك الحسي والقفز نحو عوالم أبعاد داخلية وخارجية لا تخطر على بال، لتحل مكانها ظلامية عتاة الأمراض النفسية الصهيونيين واتباعهم من بعض العرب الآن؟
كيف سمحت الثقافات العريقة الأولى في التاريخ هذه المُنتمية إلى حضارة مشرقية واحدة، أن يفقد ناس هذا الاقليم المشرقي المتوسطي الشاسع الممتد من حوض البحر المتوسط إلى أعالي الهضبة الإيرانية – التركية، ذاكرتهم الجماعية، وثقتهم بأنفسهم، وإيمانهم بدورهم في التاريخ، ليصبحوا أشبه برواد فضاء انقطع الحبل الذي يربطهم بسفينتهم الأم وتاهوا في فضاء بهيم ليس له قرار، أو ليتحوّلوا بين ليلة وضحاها من أسياد العالم الأخلاقيين والمُبدعين إلى عبيده الهامدين والتابعين؟ كيف يمكن أن يقبلوا بإدخال مليار ونصف المليار مسلم وأكثر من 100 مليون مسيحي مشرقي من خرم إبرة 5 ملايين صهيوني مُغرقين في أمراض نفسية عاتية عمرها 2000 سنة يعالجونها بحديد ونار الكراهية والانغلاق والاحقاد ونفي الوجود الإنساني لسبعة ملايين فلسطيني، بدل العودة إلى الاندماج بالحضارة التي احتضنتهم وحمتهم من محاكم التفتيش الاسبانية والمحارق النازية؟
كيف، ولماذا، ومَنْ، مزّق ويمزّق الوحدة الجيو- ثقافية العريقة لهذا الاقليم عبر قبول قطع رأسها الفلسطيني، ويدفع شعوبه نحو مهالك حروب طائفية ومذهبية وقومية وإثنية مدمّرة وعاتية ومريعة لا سابق لها سوى ربما الحروب الدينية – الجيو سياسية الأوروبية في القرن السابع عشر، التي قتلت نصف سكان القارة ودمّرت معظم معالمها الحضرية؟
طيلة قرنين ونيّف، كان المشرقيون يحاولون الخروج من عثراتهم الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لكنهم كانوا سرعان ما يَغرقون، أو يُغرقون، في مستنقع آسن يعج بكل أنواع الأوبئة والأفاعي والكوابيس المُتخيّلة أو الحقيقية، أساساً بسبب ما فعله الغربيون بهم طيلة هذين القرنين كما يعترف بشجاعة بول كينيدي.
والآن يأتي السلام التطبيعي الخليجي مع كيان عنصري- ديني- شوفيني مُغلق ليتمم مسيرة ومضاعفات هذا الزلزال الحضاري.
فهل ينجح؟ (للحديث صلة)
(*) السلام الإماراتي – الإسرائيلي: زلزال جيو- سياسي أم حضاري؟