ليست هذه المقدمة سوى توطئة لمسألةٍ يبدو من الضّروريّ اليوم، وفي هذه الظّروف بالتحديد، تسليط الضوء عليها وإطلاق حوار موضوعي لا يخالف قاعدة تعدد الرأي، ذلك أنّ الأحداث الأخيرة في فلسطين كشفت ما كان نوعاً ما مغيّباً عن التناول النقدي. إذ برزت بشكل أكثر وضوحاً، معضلة “الفراغ” الواقع ما بين منزلتين: منزلة رفض فكرة الإسلام السياسي من جهة، ومنزلة الحثّ على المقاومة المسلّحة والتي هي بطبيعة الحال تتحرّك بأدوات الإسلام السياسي من جهة أخرى.
ينحى “التنويريون” إلى الدّعوة إلى حلّ مسألة النزاع مع إسرائيل من باب فكريّ واسع، يتخطّى المواجهات المسلّحة! ينتقدون تديين المسألة الفلسطينية، وتظهير قضية الصراع من باب دينيّ. ثم مواجهة هذا الصّراع بأدوات الدين. يرون في ذلك استدامةً للنزاع. لكن الكثير منهم وهم يناقشون الطريق إلى إنهاء الصراع، إمّا أنهم يغفلون عن ضرورة وأهمية الكفاح أو النضال المسلّح، أو أنّهم يمتلكون جرأةً أكبر للإجهار علناً برفض هذا الكفاح، لكونه مرتبطاً بطريقة أو بأخرى بالدين.
بالإمكان لحظ هذه المعضلة في الآونة الأخيرة بشكلٍ بارز مع مفكّرين اثنين. الأوّل مغربيّ، سعيد ناشيد، تعرّض مؤخراً لتجميد من العمل في السلك الرسمي لدواع فكرية. والثاني مصريّ، الأديب والمؤرخ يوسف زيدان، وله باعٌ في تناول مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث قدّم في محاضراته المجموعة تحت عنوان “عام اليهوديات” على اليوتيوب سردية جديدة لهذا الصّراع، مهدّت بلا أدنى شك لمسارات التطبيع مع كيان العدوّ.
وقبل الوقوف على مثل هذه الأراء تفصيلاً، لا سيما سرديات زيدان، لا بدّ من تحديد مسار الاعتراض. ينسى هؤلاء، وهم ينتقدون أدلجة الصراع، أن المواجهة على الأرض تتطلّب توازنات. بمعنى أن فعل الأدلجة ذاته، من الطّرف الإسلامي، هو فعل ردعٍ، وإن كانت قوة هذا الردع في ضعفه، أي في الأدلجة الدينية نفسها. لم يكن بالإمكان محاربة الأدلجة بغير الطريقة المثيلة. المعطيات على الأرض، لا في الكتب، لا تتيح بدائل. ثمة أمور هي فرض واقع. أنت تحتاج إلى العسكرة في كل الأحوال. إلى القوّة العمليّة على الأرض. قوة تمنع فعل الهزيمة الميدانية، ولولاها لما أتيح للمطّلع على المشهد بكلّيته رصد الثّغرات العسكرية والفكرية لسدّها في إطار الصّراع العربي الإسرائيلي، بل لكان أصبح في مكان آخر، يكتب ويفكر في أسباب الهزيمة الشاملة والاستيلاء المتكرر لا على الأراضي والموارد الفلسطينية وحسب، بل على نظيراتها العربية أيضاً، لا سيما وأن الأيديولوجيا الاسرائيلية تتخطى الحدود الفلسطينية. فإسرائيل بُنيت على أسس أيديولوجية، وعلى سردية دينيّة عابرة لحدود الدول الحالية. وباسم هذه السردية أصبح حتى التطهير العرقي أو التمييز العنصري عندها مقدّساً. دولة “الأبارتايد المقدّس”.
المشكلة الأكبر والتي تشكل أكبر خدمة للعدو تتمظهر حين يسعى “التنويريون” إلى خلق سرديات جديدة لأصل “الاستعمار” الاسرائيلي ثمّ يعيدون طرح هذه السرديات في أوقات اندلاع الجبهة الفلسطينية
ما يعمل عليه بشكلٍ حصريّ، ومن زاويةٍ واحدة، بعض المفكرين، هو أنّهم يركّزون على الجانب الثّقافي من الصّراع، ويُولون الأهمية لضرورة التنظير الفكري لمكامن الخلل، في حين يحكي لنا الواقع جانباً يتخطّى الثقافة ويتعدّاها.
إدارة الصراع تحتاج الى تنظير واستراتيجيات وافكار بلا أدنى شك، لكن لا يمكن أن تُجابه الوحشية على الأرض بكتاب.. هذا نوعٌ من “الخبل”، وهو مصطلح كثيراً ما يستخدمه د. يوسف زيدان ويلصقه بالنضال العربي الراهن في سبيل القضية الفلسطينية. عندما يأتي من يسرق بيتي، لن أفكر في الكيفية التي سأعالج فيها أسبابه التي دفعته إلى السرقة، حتى لو توفرت له أسباب “تخفيفية” أو عقد نفسية، كما يلمح زيدان. بل سأبحث عن شتى طرق الردع، ولن أفكر في العواقب حتى. الهدف لوجستي بحت. فعلُ الرّدع. أما عن نجاعة الردع وهل كان بالإمكان اتخاذ وسائل أفضل وهل وهل.. كل ذلك يأتي في ما بعد.
عالمنا العربيّ، بالقدر الذي تأخر فيه عن إنتاج قوّة ودافعية عسكرية حقيقية تناضل من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية من الباب غير الديني، يبقى بحاجة إلى القوة العسكرية، وهذا في سلّم الأولويات. فكيف والحال أن الشعوب العربية يحركها الوجدان الديني، ويمثل الدين فيها طاقة محركة للحياة لا للنضال وحسب.
ولا يجب أن نتجاهل أن نفس التّحوّل إلى العامل الديني كان نتيجة مباشرة لوجود الكيان الغاصب. إذكاء العنصر الديني، ثمّ الفتن الداخلية بمسميات دينيّة هي أيضاً ليست مجرّد نتائج لوجود اسرائيل بل أهداف.
صحيحٌ أن اسرائيل تخاف من وجود كيانات قوية ومبنية على أسس علمانية في الجوار، لكنّ خوفها هذا لا يقلّ قدراً عن خوفها من الصّواريخ التي تحارِب من خلالها بعض الكيانات حولها، والمنطلقة من دعم الدول المستندة على العامل الدّيني. وهي بسبب هذه الصواريخ أو ما يرادفها اندحرت من لبنان. وهنا المعضلة. فإذا كان العنصر الديني ملتهباً إلى درجته القصوى في فلسطين وجوارها، ويشكّل عنصر تفتيت وانقسام بما هو عليه الشكل الحاضر، فهل يجب التخلي عن عنصر الردع الأساسيّ الوحيد لأنه دينيّ المنطلق، أم لا بد من استثماره لردع الوحشية الاسرائيلية، والسعي إلي زعزعة أسطورة ترسانتها، ثم العمل بشكل استراتيجيّ ومرحليّ على المسارات التنويرية، التي تنتج في ما بعد أطراً جديدة للمقاومة العسكرية، وأدوات أخرى تتكامل مع المقاومة العسكرية، كالأطر الاقتصادية والجماهيرية وغيرها؟
لا بدّ من التعامل مع الواقع راهناً من باب الواقع، لا من باب الحلُم. وبدلاً من التركيز، لا سيما في هذا الظرف بالذات، على نقد حركات المقاومة لربطها النضالي بالديني، أن يصار إلى نقد الأدلجة الاسرائيلية بالدرجة الأولى وفضحها وتعرية نموذجها بوصفه نموذجاً لا عنصريا غاصباً فقط وحسب، بل متخلّفاً عن كلّ الرّكب التنويري، على عكس ما تحاول إظهاره، وعلى عكس ما تعتقده شعوب العالم. يجب تعرية اسرائيل كصورة هي الأنصع لتحوّلات ما بعد التنوير، أي للتّحول إلى المشاريع الاستعمارية انطلاقاً من باب الليبرالية المتحوّرة.
كنت قد كتبت في مقال سابق بعد الإعلان عن صفقة القرن عن ضرورة نشر بعض الدراسات التي تفضح تفاصيل تركيبة اسرائيل المتخلفة بكل ابعادها الداخلية والخارجية. مركز “بيو” الأميركي للأبحاث الاستقصائية مثلاً، نشر في تموز/ يوليو عام 2019 دراسة تفيد بأن حرية الاعتقاد الديني في إسرائيل مماثلة لتلك الموجودة في دول مثل السعودية، وأن إسرائيل من بين الدول العشرين الأكثر تقييداً لحرية الدين حول العالم! وأنها تحتل المرتبة الخامسة في العالم بـ”العداء الاجتماعي على خلفية الأعراف الدينية”، والسادسة عالمياً في “التوترات والعنف بين الأديان المختلفة”. من هنا يجب أن يبدأ التنوير. من فضح الاسرائيلي، لا من المجاهرة بنقد الكفاح المسلح لأن الدين أحد أسباب السلاح!
المشكلة الأكبر والتي تشكل أكبر خدمة للعدو تتمظهر حين يسعى “التنويريون” إلى خلق سرديات جديدة لأصل “الاستعمار” الاسرائيلي ثمّ يعيدون طرح هذه السرديات في أوقات اندلاع الجبهة الفلسطينية. سرديات منطلقة من التسامح الديني، ومن “قصة” تاريخية مختلفة لوعد بلفور، ومن كون القدس عاصمة لكل الأديان. وهذا ما يعمل عليه أمثال الدكتور يوسف زيدان. ليس الهدفُ هنا التنقير أو قمع النقاش. المطلوب عكس ذلك.. ويوسف زيدان تحديداً له الأثر الهام في الكثير من أفكاره وأعماله على كثيرين تفتحت عقولهم على الأسئلة العميقة من خلال إنتاجه. والقضية الفلسطينية في العمق تحتاج الى الفكر بقدر حاجتها إلى العسكرة ربما، حتى لا يتم توظيف العسكرة في ما يخدم مشاريع فئوية او تقسيمية، وحتى لا تذهب دماء المناضلين سدىً إذا لم توظّف توظيفاً جيداً في السياسة. هذه مسألةٌ لا نقاش فيها. كما أن القضية الفلسطينية نفسها مفتوحةٌ على الكثير من النقاشات التي لا يجب الخوف من طرحها تحت عناوين القداسة. لكنّ المسألة تصبح “فاقعة” حين توظّف بعض الأفكار بل وحتى الحقائق والمفاهيم في إطار لا يعين على حلّ مسألة النزاع ولا على إيقاف دوامات العنف بقدر ما يقوّي المغتصِب ويعطيه نوعاً من المشروعية على الغصب من باب التسامح الديني. هذا ما يحدث حين توظّف الأفكار و”الحقائق” في السياسة توظيفاً مجرداً.
الطريق إلى إنهاء دوامات العنف هو طريقٌ من الخيال طالما أن هناك دولة تملك أيديولوجيا توسعية وتقونن التمييز العنصري والتطهير العرقي وتشرّع الاستيطان وسلب بيوت الناس، وتقيم دورات تثقيف للتلامذة في المدارس يتم خلالها مثلاً عرض تمثيلي لإعدام شاب فلسطيني بإطلاق الرصاص نحوه وهو ملقى على الأرض، أو إطلاق كلاب جائعة على شاب فلسطيني لتمزيق جسده
في الأيام الأخيرة، تعرّض يوسف زيدان للكثير من الانتقادات، بل وحذفت بعض المنشورات على صفحته بعد التبليغ عنها، بسبب تعليقاته على الحدث الفلسطينيّ. وهي تعليقات جديدة ـ قديمة في كلّ الأحوال. وأغلب تعليقات زيدان بل كل موقفه من الصراع العربي الاسرائيلي ينطلق من ردات الفعل العربية لكي يدينها، لأنه سبق وبرّر فعل الوجود الاسرائيلي على أرض فلسطين من منظار تاريخي وديني ونفسي، ليعتبر بعد ذلك أن آلية حل هذا الصراع تقع على عاتق الطريقة العربية في التعاطي مع هذا الوجود، بعد فهم سياقات التواجد الاسرائيلي في المنطقة. وهو لهذه الغاية، حاول في سلسلة من المحاضرات أن يهدم الكثير من المفاهيم السائدة، والتي لا بدّ من سرد مقالٍ مفصّل حول أبرز ما أتى عليه زيدان فيها. على سبيل المثال لا الحصر، هدم زيدان مفهوم الصهيونية، موضحاً أنه كما مفهوم الماسونية وكما فكرة بروتوكلات حكماء بني صهيون، كل هذه مجرد اختراعات عربيّة في إطار تضخيم خيالي للعدو بغرض تبرير الفشل العربي. وعندما طرح رواية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، قدمها في إطارٍ مختلف تماماً عن سردية الإحتلال، بحيث أنه يكاد يصوّب في حديثه على “جميل” اليهود في “حرب التحرير” في فلسطين لتخليصها من الإنتداب البريطاني: “بدأ الهاجانا يهاجموا الجنود الانكليز زي ما كانوا العرب بيعملوا بالزبط، فلما رُفع الانتداب البريطاني عن فلسطين وغير فلسطين، أعلنوا دولة. مين اللي متضايق؟ العرب. متضايقين لي يا عرب؟ علشان خدوا أرضنا. طب مهو مش انتو حاجة واحدة؟ هي مش الديانات مرتبطة والحق المقدس مرتبط؟ طب ما خليكوا خلاص. لأ احنا اصحاب الأرض. طب ما دول يهود. لأ دول صهاينة”.
من المستفز جداً بالنسبة لكل من يشاهد راهناً صور الأطفال تحت الركام أن يقرأ توجيهاً من زيدان للمسلمين والمسيحيين بأن يتبعوا خطوات السلم، دون أن يدعو الطرف المعادي أقله للامتناع عن الوحشية والعنف. هل المطلوب أن نبتسم للقاتل والمغتصب عندما نرى أنيابه ومخالبه؟ نحن عندما ينكسر زيتون أرضنا بسبب عاصفة ثلجية نتألم ألماً شديداً، فكيف بمن يريد أن يخرجنا من بيتنا بكل برودة. هل سنقول له خذه وسنحاول أن نحلّ المعضلة بطريقة فكرية تجنباً للدماء!
“الله، في عقيدة المسلمين وفي القرآن، اسمه: السلام. فكونوا يا مسلمين مع الله، مع السلام.. والله، عند مختلف الكنائس وفي الأناجيل، هو المحبة.. فكونوا يا مسيحيين مع الله، مع المحبة.. وبس”. ربما كتب زيدان هذه التغريدة الأخيرة في توقيت استشهاد طفل في غزة. على أمهات الأطفال أن يسامحوا أعداءهم لأن عوالم الورد الطوباوية تملي علينا بالحب. إنه الخبل مجدداً. أول طريق الحب رفض العدوان. أنت عندما يفرض أحدهم عليك فكرته تسمي فرضه عدواناً.. فكيف وهو يفرض عليك وجوده وسلاحه وو..
يقول المفكر المتنور في موقف آخر: المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، أو بتعبير أدق: “المعضلة المعقّدة.. يحتاج حلُّها جهودًا مخلصة ونوايا صادقة من أطراف النزاع، جميعهم وبلا استثناء. أما الجعجعة الرقيعة والقعقعة الفارغة والمتاجرة بآلام الأبرياء، فهي أمور جرَّبناها طويلا ولم نجد لها جدوى، إلا تحقيق مكاسب شخصية لتجار الحرب ومقاولي الموت المجاني”.
كيف لمن عاين الحرب والاعتداء عن قرب أن يقرأ هذا الكلام بهدوء. نوايا صادقة من أطراف النزاع؟ ما محل النوايا الصادقة من الإعراب؟ هل يمكن نسب النوايا الصادقة لدولة مستعمِرة تمارس العنف يومياً، بل تقوننه؟ ثم ما هي الأمور التي جربناها من قبل؟ نحن في لبنان مثلاً جربنا الاندحار الاسرائيلي بفضل قوة السلاح التي تسميها أنت يا زيدان قعقعة وجعجعة ومتاجرة بآلام الأبرياء. ولم يحصل تحولات حقيقية في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي الا بفضل القوة هذه.. على أمل أن تستكمل التحولات بفعل انصهار عوامل القوة والفكر. لكن ما يحدث يشكل عامل ردع حقيقي لكبح الكثير من طموحات العدو التوسعية والاستيطانية. وصحافة العدو في الآونة الأخيرة كفيلة بشرح الردع الحاصل. يستطيع زيدان وأمثاله قراءتها.
مشكلة زيدان أنه ينطلق من فكرة بسيطة جداً لمسألة النزاع. وكأن المسألة هي مجرد “خْناقة” دينية. وكأن لا أطماع غربية من وجود اسرائيل. وكأن النفط ليس عاملاً محركاً. وكأن المسألة هي فقط أن هرتزل (“وهو يهودي مش متدين بالمناسبة.. هو بعيد خالص مع الدين بس متعاطف مع الناس”.. هكذا يقول زيدان) أرادوا أن يحلوا مشكلة اليهود في كل العالم ويحلوا مشكلة شتاتهم ويعيشوا بحب مع من كانوا جيرانهم قبل أن يغتصبوا أرضهم. وكأن لا أطماع توسعية لاسرائيل. وكأن لا تمييز عنصريا مقوننا. ربما الأولى بـ”مستنير” مثل زيدان أن يعمل ليل نهار على تقويض النموذج المتخلف لإسرائيل، لأن تقويض اسرائيل هو أول الطريق لإنهاء دوامات العنف.
يحيلنا زيدان إلى أن مشاكل الصهاينة ناتجة عن عقدهم النفسية (لدى اليهود وخصوصاً الاسرائيليين منهم لا سيما المتدينين مشكلات عويصة وعقد نفسية ناتجة عن تاريخهم الكئيب..). يا للعمق. علينا أن نفهم عقدهم النفسية لنتعامل معهم بذكاء. لدينا من الوقت ما يكفي، ومن الصبر ما يكفي، لأن نفكر بطريقة العلاج النفسي لإسرائيل. يقول ابن مصر، وهو بالمناسبة يستحي بمصريته، وكأن في المسألة عقدة نفسية عنده. دونية ربما. وإلا ما معنى أن يفتتح محاضرة له بجملة مقيتة: “الذكاء المصري هو ذكاء محدود عموماً”.. ومن يشاهد محاضراته، لا سيما في “عام اليهوديات”، يرى كيف أنه “يسلخ” العرب سلخاً، وعندما يصل إلى اليهود يصبح ودوداً في النبرة واللهجة.. “أنا قابلتهم في دول أوروبا. ناس وُدَعَاء أوي يوقفوا كدا في المطار يكلموا الناس المسيح جاي. هم مهووسين دينيا بس ما بيمارسوش عنف.. وهنا بقى فصحافتنا تقول شهود يهوا وتتهيألك إن الناس ليها قرون”. بهذه القدرة الإستيعابية الزيدانية علينا أن نستوعب اسرائيل. ربما علينا أن نحارب اسرائيل بجلسات التنويم المغناطيسي. يريد الدكتور أن يقدم لنا الحقائق التاريخية التي توصل إليها في إطار بحثه التاريخي – وكل أبحاثه يشكر عليها كثيراً، وهي مفتوحة للنقاش كما يقول – لكن أن توظّف هذه الأبحاث سياسياً بالطريقة التي تقوي اسرائيل مباشرةً في الوقت نفسه الذي يدعي فيه أنه بهذه الطريقة يحقق السلام العادل!
القوة تسبق الفكر مع اسرائيل. الواقع يسبق التاريخ. الردع يسبق الحلول، والطريق إلى إنهاء دوامات العنف هو طريقٌ من الخيال طالما أن هناك دولة تملك أيديولوجيا توسعية وتقونن التمييز العنصري والتطهير العرقي وتشرّع الاستيطان وسلب بيوت الناس، وتقيم دورات تثقيف للتلامذة في المدارس يتم خلالها مثلاً عرض تمثيلي لإعدام شاب فلسطيني بإطلاق الرصاص نحوه وهو ملقى على الأرض، أو إطلاق كلاب جائعة على شاب فلسطيني لتمزيق جسده.. هذه أيضاً حقائق.
أكبر خطر على “التنوير” توظيفه في السياسة توظيفاً ظالماً، فيما بعض الوقائع على الأرض واضحة كل الوضوح.