في أواخر القرن الثالث عشر، نجح المماليك بطرد ما تبقّى من الصليبيين من ساحل بلاد الشام، وباشروا بحملة هدفها تغيير الهوية السكانية عبر تشجيع قبائل كردية وتركمانية على الإنتقال إلى الساحل. في ذلك الوقت، ازدادت اهميّة بيروت لفترة قصيرة، كمرفأ ومركز للتجارة على الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، وذلك لسبب بسيط هو أن المدينتين الساحليتين الأهم من بيروت وقتذاك، وهما عكّا وطرابلس، تضررتا من جرّاء حرب المماليك ضد الصليبيين. كلتا المدينتين، كانتا بالنسبة إلى المماليك، تملكان مزايا وامكانيّات استراتيجيّاً وسكّانياً: مرفأ أفضل، مواصلات أسهل إلى مدن بلاد الشام الداخلية، سكان أكثر الخ. لذلك، عندما أعاد المماليك إعمار هاتين المدينتين، غدت بيروت مدينة ثانوية، وبقي هذا الأمر مستمراً حتى القرن التاسع عشر. هذه هي مشكلة بيروت عبر التاريخ: مدنٌ أخرى على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسّط مثل صور، صيدا، قيسارية، وحيفا، كانت ملائمة أكثر منها لمتطلبات ذلك الزمن.
إذا ابتعدنا عن السفسطة التاريخية. صار لبيروت شأن عبر التاريخ ليس ربطاً بالمكان. بيروت ثابتة. صحيح أن الضعف الظرفي للمدن المجاورة يعطيها أرجحية على غيرها وحتماً يمكن للمصالح الخارجية أن تقدمها على ما عداها أو تقدم غيرها عليها.. هنا يصبح الأمر مرتبطاً بالسياسة والإقتصاد أو بالجيوسياسة. هذا بالتحديد، مثلاً، ما فعله الرومان عندما حوّلوا بيروت إلى مركز لهم. موقعها وفّر لهم امتيازات كثيرة: مدينة سكانها قليلون ويمكن جعلها رومانية بكل ما للكلمة من معنى. لها عزلة طبيعية ولكنها أيضا في قلب امبراطوريتهم الشرقية، لكن هذا الدور لم يدم، فتركها الرومان.
تميزت الحقبة العثمانية التي بدأت في مطلع القرن السادس عشر، وإستمرت حتى مطلع القرن العشرين، بعدم إلحاق بيروت وطرابلس بمتصرفية جبل لبنان، بل ألحقتا بولاية سوريا. في هذه الحقبة التي نشأت فيها الجامعة اليسوعية والجامعة الأميركية ومرفأ بيروت (بصيغته الحديثة) وسلسلة من شبكات الطرق تربط بيروت بطرابلس وتربط المدينتين ببلاد الشام، بدأت ترتسم معالم هوية بيروت المدينة الكوزموبوليتية.
في القرن التاسع عشر تحديداً، بدأت رياح الازدهار تهبُّ مجدّداً على بيروت. هذه المرّة أيضاً، تلاقت عوامل عديدة ساعدت بيروت تدريجيّا ليس فقط على الارتقاء لفترة طويلة لا يبدو أنّها قريبة من نهايتها (برغم الانفجار الرهيب). حصل ذلك حين تلاقت عوامل داخلية وخارجية. العامل الداخلي يتعلق بالحرب الاهلية في جبل لبنان (1840 و1860). العوامل الخارجية تتعلق من جهة بحاجة دمشق إلى مرفأ قريب لتصدير بضائعها، ومن جهة أخرى، بحاجة الغرب إلى إخضاع جبل لبنان والمشرق تدريجيا للهيمنة الأوروبية، وهو أمر أطلت نُذره مع انشاء نظام المتصرفية. هناك أيضاً عامل ديني – سياسي: حاجة فرنسا (الأم الحنون) إلى نقطة مركزية في شرق المتوسط بعد خسارتها مصر، نتيجة مغامرة نابليون بونابرت الفاشلة ومن بعدها فشل حليفها محمد علي في السيطرة على الدولة العثمانية.
بيروت كانت وما تزال بيروت: بفقرائها وأغنيائها، بأحيائها الفاخرة وازقتها البائسة، بزعرانها وأوادمها، بمثقفيها ومتزلفيها، بمستعربيها ومستغربيها، بمحتشماتها وعاهراتها، بسكرجيتها ومتدينيها، بأبراجها وبيوتها الصغيرة. بفنادقها ومشرديها. بشوارعها وساحاتها القديمة والجديدة
الحدث الأبرز هو قيام دولة لبنان (في الأساس كمستعمرة فرنسية) عاصمتها بيروت في العام 1919. لم تشهد المدينة في كل تاريخها أي شيء مشابه لهذا، لذلك يجب علينا أن ننظر إلى سنة 1919 (وليس 1920) كلحظة تأسيسية لبيروت التي نعرفها اليوم، مع ما سبقها من عوامل اهّلت بيروت للتحول من مدينة ثانوية إلى مدينة لا يمكن الاستغناء عنها، فحصل دفق سكاني كبير إليها. هناك من جاء إليها بحثاً عن فرصة عمل، تجارة و”بزنس”، دراسة، أو إلتجأ إليها هرباً من مجازر، كوارث. أيضا أتى من أراد الفرجة والانبهار إلخ… أتوا “من كلّ فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم” (كما تقول الآية القرآنية). جاؤوا إلى بيروت مع أحلام لا نهاية لها. نعم، بيروت أحلامها هي أحلام أهلها. وأحلام بيروت تتغير مع تغيّر أهلها. هناك من جاء من سوريا وفلسطين وبلاد أخرى، وهناك من نزح إليها من مناطق لبنانية ومعظمهم من أهل الريف. تركوا أماكنهم لأنها لم تعد قادرة أن تغذي أحلامهم وسيرورة حياتهم، فانتقلوا إلى بيروت حتى يكملوا الأحلام ويزيدوا عليها أحلاما جديدة. لا ينفي ذلك أن بيروت كانت وما تزال مشتهاة من غزاة وقوى خارجية لتحقيق مطامع ومصالح على حساب أحلام أهلها ولاجئيها.
إذا أعاننا التاريخ على قول شيء عن بيروت، فهو أنّ مستقبلها مرهون بإرادة أهلها. إذا كانت ارادة أهلها مقسومة، فلا حول ولا قوة. إذا كانت موحدة، فهي ستتجاوز محنتها وترسم صفحة جديدة من مستقبلها. بوحدة أهلها تستطيع أن تستثمر برئيس فرنسا إيمانويل ماكرون لا أن يستثمر هو أو غيره فيها. هذا ينطبق على كثير من الدول التي تهرع الآن لمساعدة بيروت وأهلها، بينما كانت حتى الأمس القريب تتفرّج على بيروت وهي تختنق تدريجياً.
إذا أعاننا التاريخ على قول شيء عن بيروت، فهو أنّ هذا الحدث – بهوله ودماره المرعب والكارثي إقتصادياً وإعمارياً وإنسانياً – لن يعيد بيروت إلى من يريد لها أن تتقوقع، فجغرافية المنطقة تختلف جذرياً اليوم عمّا كانت عليه قبل سنة 1919. لذلك لا ينفع استذكار التاريخ هنا. لا صيدا ولا طرابلس أو أية مدينة أخرى في لبنان قادرة على أخذ مكانة بيروت (إلا إذا إنتهى مشروع لبنان كبلد موحد، وهذا نقاش لن أخوض فيه). هذا لا يعني أن بيروت ستعود إلى دورها الذهبي التي عرفته بين خمسينيات القرن المنصرم وحتّى بدء الحرب الأهلية في سنة 1975 حين لعبت المدينة دورها الإقليمي بإمتياز كمركز مالي ومصرفي ومخابراتي وإستشفائي وجامعي وكممر للترانزيت إلى دول المنطقة. هذا الدور ذهب ولن يعود، ومشكلة بعض أهل بيروت أنهم يريدون ما أوصلهم إلى الحرب الاهلية. هم يسترسلون في الحلم ويرفضون ما هو جلي. أصبح حلمهم أكبر من بيروت، فأثقل كاهل مدينتهم وعجزت عن تغذية أحلامهم. كأن بعض أهلها لا يريدون الاقتناع بأن عليهم التفكير ببيروت مدينتهم لا بخرافات الماضي، سواء البعيد أو القريب. أن يرموا تاريخها جانباً ويركزّوا على حاضرها. لا ينفع التغني الدائم بأن بيروت كانت مركزاً لدراسة القانون في زمن الرومان، أو هي “سويسرا الشرق” في زمن ما قبل الحرب الأهلية. بيروت لن تكون لا باريس ولا سويسرا الشرق ولا عاصمة الشرائع والقانون. بيروت كانت وما تزال بيروت: بفقرائها وأغنيائها، بأحيائها الفاخرة وازقتها البائسة، بزعرانها وأوادمها، بمثقفيها ومتزلفيها، بمستعربيها ومستغربيها، بمحتشماتها وعاهراتها، بسكرجيتها ومتدينيها، بمدارسها وجامعاتها ومستشفياتها الخاصة والرسمية، بأبراجها وبيوتها الصغيرة. بفنادقها ومشرديها. بشوارعها وساحاتها القديمة والجديدة.
هم صنعوا بيروت الكوزموبوليتية. أي تأريخ آخر يراد به فقط سرقة عرقهم وأحلامهم وتضحياتهم المجبولة بشوارعها وبناياتها ومؤسساتها. هم من بنوا بيروت الحديثة – بيروتهم. وكأي مدينة بناها مهاجرون ولاجئون، هي تفخر بهم لأن أحلامهم جعلتها ست الدنيا، كما قال الشاعر نزار قباني.