لن يعرف أحد ماذا كتب مستشارو الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في تقريرهم المسبق عن افتتاح زيارته إلى لبنان بلقاء مع السيدة فيروز. من المفترض أن يكون الملف الخاص بالزيارة قد تم إعداده لكي يراجعه ماكرون قبل مغادرته باريس. وسيكون بوسع الباحث المختص والمهتم أن يطّلع على هذا الملف يوماً ما في الأرشيف الرئاسي الفرنسي. لكن حين يعلن قصر الإليزيه، أن أول محطة في جدول أعمال الزيارة ستكون مع “موعد على فنجان قهوة مع فيروز في أنطلياس مساء الاثنين” (مع أن منزلها الحالي يقع في بلدة الرابية المتنية فيما أنطلياس هي البلدة التي احتضنت الرحابنة وفيروز تاريخياً)، يكون قد أقدم على خطوة استثنائية في لحظة استثنائية.
وحدها الرئاسة الفرنسية تعرف بالضبط ما هو مغزى رسالتها من وراء هذا اللقاء/الحدث، وما هي أبعادها ودلالاتها، لأنها هي التي وضعت تصوراتها انطلاقاً من حساباتها بوصفها الطرف “المُرسِل” للرسالة. الدخول في عقل الإليزيه وعقل ماكرون هنا، هو عملية تفسير وتأويل يقوم بها أي متلقٍ، تبعاً لمنظاره وموقعه وتجربته.
عموماً، تبدو فكرة لقاء رئيس دولة أجنبية بفنانة كبيرة، مألوفة بين الدول. ويبدو الإعلان الفرنسي المقتضب عن هذا اللقاء عادياً أيضاً لولا كلماته الثلاث: “فيروز”، “أنطلياس” و”قهوة”، وكلها تحتمل تأويلات متعددة الأبعاد.
أولاً، وهنا العنصر الأهم، يتعلق الأمر برمزية السيدة فيروز، بوصفها أيقونة وطنية، جامعة للبنانيين، ومجسدة لفكرة لبنان الجميل، المزدهر، لبنان كنموذج للتعايش بين الطوائف والمذاهب والثقافات المتنوعة، المنفتح على محيطه العربي وعلى الغرب، والذي دمرته الحرب الأهلية و”حروب الآخرين على أرضه” منذ 1975. ترمز فيروز وأغنياتها إلى لبنان الذي يحلم به أي مواطن، إلى شيء آخر مختلف بالمطلق عما هو واقع الحال اليوم.
وحين يستهل ماكرون زيارته من بيت هذه الـ”فيروز”، يكون بذلك يتماهى مع ما يريده أي مواطن عادي في هذا البلد. هكذا، يسجل نقاطاً إضافية في تحقيق أهداف الدبلوماسية العامة الفرنسية، المتمثلة في مزيدٍ من كسب ودّ الجمهور اللبناني، وتوسيع دائرة الدخول إلى “قلوب وعقول” اللبنانيين، وتمتين العلاقة المباشرة أكثر فأكثر بينهم كمواطنين في بلد أجنبي وبين فرنسا كدولة صديقة وحليفة، بل كـ”أم حنون” تأتي لنجدة “إبنها” الذي سقط أرضاً بضربة الرابع من آب/أغسطس الكارثية. يساهم ماكرون إذاً في تشكيل صورة ميثولوجية، تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ العلاقات اللبنانية ــ الفرنسية منذ عام 1920، أي منذ تاريخ نشأة دولة لبنان الكبير وحتى اليوم.
اسم أنطلياس مشتق من اليونانية ويعني “أنتي هيليوس”، أي “قبالة الشمس”.. وسواء كان الإليزيه مدركاً لمغزى اسم أنطلياس أم لا، في حساباته وخلال تخطيطه للزيارة، لا يمكن تجاهل أي تأويل يعطي لزيارة ماكرون التي استهلها من أنطلياس، بعداً جيوسياسياً
كذلك، تحتل فيروز مكانة راسخة في وجدان الرأي العام العربي، ولا سيما الفلسطيني، كما في أذهان بعض الرأي العام العالمي. صحيح أن ماكرون يعطي الآن أولوية قصوى إلى الأزمة الوجودية اللبنانية، لكن لا يمكن أن يمر لقاءه مع فيروز من دون توجيه رسالة ضمنية ذات بعد أوسع وأشمل. قد لا يتلقى كل الجمهور العربي رسالته بإيجابية، لأن من ينبذ فرنسا بسبب ماضيها الاستعماري، أو من يكرهها لأسباب إيديولوجية خاصة به، لن تدغدع مشاعره زيارة كهذه. لكن فرنسا الحريصة دوماً على تأكيد ثوابت سياستها العربية التقليدية، المبنية على تحقيق التقارب والتفاعل الثقافي مع العرب، والمتمسكة بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة وفقاً لمبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتحقيق السلام العادل والاستقرار في عموم الشرق الأوسط، لن تجد في لبنان أفضل من فيروز لتجديد هذه الرسالة (إنْ كانت مقصودة أم لا).
ثمة رسالة جانبية أخرى توجهها فرنسا ربما من خلال لقاء ماكرون مع فيروز، تتعلق بما تمثله بطلة فيلم “سفر برلك” من رمزية تحررية لبنانية ضد هيمنة السلطنة العثمانية بما تمثله الأخيرة من ظلم واستبداد في وعي اللبنانيين. هكذا، وفي خضم الكباش الفرنسي ــ التركي من ليبيا إلى منطقة شرق المتوسط، لعل ماكرون يريد أن يغمز من قناة “السلطان”، مسدداً ضربة رمزية في مرمى الطموحات “النيو عثمانية” لرجب طيب أردوغان.
ثانياً، لعل ورود اسم بلدة أنطلياس الساحلية، في الإعلان عن لقاء ماكرون مع فيروز، كان مقصوداً أيضاً، لتوجيه رسالتين ضمنيتين. واحدة إلى المنظومة السياسية اللبنانية الفاسدة، إذ أن أنطلياس ترمز إلى العاميات الشعبية في القرن التاسع عشر ضد الظلم الاجتماعي في إمارة جبل لبنان (…). وأخرى إلى تركيا، تندرج في نفس إطار المواجهة الفرنسية معها وانحياز فرنسا إلى اليونان في الصراع على مصادر الطاقة في منطقة حدودية بحرية متنازع عليها. لماذا؟ لأن اسم أنطلياس مشتق من اليونانية ويعني “أنتي هيليوس”، أي “قبالة الشمس”. قد يكون مستغرباً وخيالياً هذا التأويل، أو كناية عن “هلوسة” بنظر البعض. لكن سواء كان الإليزيه مدركاً لمغزى اسم أنطلياس أم لا، في حساباته وخلال تخطيطه للزيارة، لا يمكن تجاهل أي تأويل يعطي لزيارة ماكرون التي استهلها من أنطلياس، بعداً جيوسياسياً كهذا.
أخيراً وليس آخراً، يقول الإعلان إن ماكرون يلتقي فيروز على فنجان قهوة في بيتها في أنطلياس. وللقهوة هنا هويتها التي قد تكون تفصيلاً ثانوياً في البرتوكولات، لكن في ظل هذه التأويلات، خصوصاً تلك التي تحمل بعداً “أنتي عثمانياً” في السياسة والاقتصاد، تكتسب هوية القهوة دلالة لا يمكن تجاهلها. فأي نوع قهوة ستقدم السيدة فيروز لماكرون: القهوة التركية المعتادة في البيوت اللبنانية أو العربية، أو “الإسبرسو” أو “الأميركانو”؟