جاء ظهور النازية الألمانية في ثلاثينيات القرن الماضي نتيجة شعور معظم أبناء الشعب الألماني بالمذلة جراء الاتفاقيات التي أنهت الحرب العالمية الأولى، ومع تراخي الدول الأوروبية في التعاطي مع تنامى الوحش النازي بسرعة كبيرة، رأينا كيف غزا أوروبا وأخضع شعوبها لأبشع أنواع الاضطهاد والتعذيب والسحق بلا رحمة.
اليوم وبعد تسعة عقود بدأت الفاشية الصهيونية تُطل برأسها تحت عنوان أسماه الغرب في كل أدبياته “حكومة اليمين المتطرف” في “إسرائيل” كي يتجنب المقاربة الحقيقية لهوية هذا اليمين الذي بدأ يتنامى مع اغتيال رئيس الحكومة الأسبق اسحاق رابين على يد أحد عناصر اليمين الصهيوني المتطرف في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1995 ليعقب ذلك، وبما يُشبه لعبة “الدومينو” انهيار متسارع لليسار “الإسرائيلي” إلى حد اختفائه التام عن المسرح السياسي وبدء انطلاقة اليمين الصهيوني الفاشي بأيدولوجيا دينية توراتية تتستر بما تصفه بـ”الهولوكوست” إبّان الحرب العالمية الثانية، فكان أول ما فعله هو الإلغاء الفعلي لاتفاقية أوسلو الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية عام 1993 عبر سياسة قضم الضفة الغربية وإطلاق أوسع حملة استيطان فيها وسط عمليات اعتقال طالت الآلاف بلا تمييز بين مسن وطفل وعجوز وإمرأة.
وفي العام 2022، أطلق رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو مشروعه لما أسماه “الاصلاح القضائي” الذي هدف إلى اخضاع المحكمة “الإسرائيلية” العليا للسلطة التنفيذية، وبالتالي مع سيطرته على الغالبية البرلمانية وضمه معظم الأحزاب اليمينية المتطرف إلى حكومته، أكملت الفاشية الصهيونية الدينية سيطرتها على كل مواقع القرار التشريعي والتنفيذي والقضائي، ناهيك بالعسكري في الدولة “الإسرائيلية” تماماً كما فعل الزعيم النازي أدولف هتلر قبيل اطلاق حملته لاحتلال أوروبا.
المجزرة المفتوحة
جاءت الحملة العسكرية على قطاع غزة والضفة الغربية بعد “طوفان الأقصى”، في خريف العام 2023، لتكشف مدى تجذر الفكر الفاشي الصهيوني في المجتمع “الإسرائيلي” من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية من مشاهد لجرائم لا توصف اقترفها الجيش “الإسرائيلي” بكل ما يملك من قدرات عسكرية وتكنولوجية، شملت قصف المستشفيات والمستوصفات والمؤسسات الاعلامية والمؤسسات الانسانية الدولية المتعددة وسيارات الاسعاف والمسعفين ودور العبادة الإسلامية والمسيحية والمؤسسات التربوية وروضات الأطفال وممارسة أشكل مرعبة من التعذيب للمعتقلين، ذكّرنا بالتعذيب الذي مارسه الجيش الأمريكي في سجن أبو غريب السيء الصيت، وهذا النموذج الأخير يكاد يكون بسيطاً مقارنة بما فعل الجيش “الإسرائيلي” بالمعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين في سجونه. أضف إلى هذه الممارسات في فلسطين المحتلة جاءت الحملة الجوية الوحشية على لبنان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله وشرقه ليتكرّر المشهد نفسه الذي وثّقه الإعلام العالمي في قطاع غزة على مدى سنة كاملة.
إنّ التعقيدات الجيوسياسية التي تتحكم بدينامية الحرب الدائرة حالياً في الشرق الأوسط لا تُهدّد الأمن والاستقرار في هذه المنطقة فقط، بل ثمة خطر فعلي لتحول هذه الحرب إلى حرب عالمية كبرى، فإيران ليست دولة صغيرة وقدراتها ليست محدودة وهي تقيم على تخوم حليفها الروسي الذي لا يملك ترف تركها فريسة لأمريكا ولو كان نتنياهو هو الواجهة التي تعمل خلفها واشنطن
وليس خافياً أن هذه المجزرة المفتوحة ما كانت لتحصل وتستمر لولا الدعم السياسي غير المحدود من الغرب ولولا الدعم العسكري الذي بلغ حد إقامة جسور جوية لتزويد “إسرائيل” بالقنابل والذخائر على أنواعها من كل من واشنطن ولندن وبرلين وغيرها من العواصم الغربية، فضلاً عن الدعم المالي المفتوح أمريكياً.
قيل عن ردة الفعل العالمية على الفاشية الصهيونية الصاعدة بأنها تعبير عن عجز، وقال آخرون لا بل عن انحياز أعمى يبلغ حد الشراكة الكاملة في الجريمة، لكن الأمر يقتضي توغلاً أعمق في الموضوع؛ فهذه الفاشية الصهيونية وُلدت ونمت وترعرت في كنف هذا الغرب تماماً كما حصل مع ولادة النازية الألمانية ونموها وتمددها، وقد كشفت السياسات الغربية عن نفاق لا حدود له في التعامل مع القضايا الإنسانية الذي صنف بموجبه البشر نوعان؛ نوع يخضع لمعايير أخلاقية وآخر لا يشمله أي معيار. وهنا يحضر مشهد الحرب في أوكرانيا التي تقارب عامها الثالث، حيث لم يألُ الغرب جهداً في دعم حكومة تضم في صفوفها نازيين جدداً سبق للولايات المتحدة أن أدرجت منظماتهم على لوائح الإرهاب لديها. برغم ذلك، زوّد الغرب، وما يزال، هؤلاء النازيين بكل أنواع الأسلحة والذخائر والتقنيات بعشرات وربما مئات مليارات الدولارات، ما أطال أمد الحرب حتى يومنا هذا.
“كارتيلات” السلاح
وبين دعم النازيين الجدد في أوكرانيا والفاشية الصهيونية الصاعدة في فلسطين المحتلة يُطرح التساؤل عمن وراء هذا الدعم غير المحدود وما هي مخاطره على السلام العالمي؟
عند التحقيق في أي جريمة بسيطة تُرتكب، يبدأ البحث أولاً عن المستفيد من وقوع الجريمة. وفي حالتنا هذه لا يحتاج المرء إلى طول بحث ليتأكد أن المستفيد الأول هو “كارتيلات” السلاح في واشنطن والعواصم الحليفة لها، إذ أن آلاف المليارات التي دفعت في الحرب على أفغانستان واليمن وليبيا والعراق وسوريا وأوكرانيا وفلسطين المحتلة ولبنان هي عبارة عن شلال مال يتدفق في خزائن هذه “الكارتيلات” من أموال دافعي الضرائب، وهذه “الكارتيلات” تحتاج دائماً إلى قيادات متعطشة للدم وعلى استعداد لفعل ما لا يتصوره عقل من أجل ايديولوجياتها المتطرفة، وهل هناك أفضل من الفاشية والنازية لتحقيق هذا الأمر؟
إنّ خطابي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي والجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يدلان على أنه يُقدّم نفسه على رأس حكومته الفاشية بوصفه خط الدفاع الأول عن ما يُسمى “العالم الحر” في مواجهة “محور الشر”، بحسب وصفه، وللمصادفة فإن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يقول الأمر عينه عن نفسه، وهما بهذا المعنى مصيبان ولكن بفارق أن “العالم الحر” الذي ينطقان باسمه هو عالم حرية “كارتيلات” السلاح الذي يُدير كل هذه الحروب بلا كلل ولا ملل ولا يرف له جفن أمام هول المجازر التي يتسبب بها كل هذا السلاح وكل هذه الذخائر.
وكما تحوّل الوحش النازي إلى خطر على الإنسانية في الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح أكثر من خمسين مليون انسان، فإن نتنياهو وحكومته الفاشية الصهيونية (بالمناسبة ولدت الدولة العبرية في العام 1948 من رحم الحرب العالمية الثانية و”المحرقة”) تنتظره النتيجة نفسها، فهو انتقل من حمام الدم الذي نفّذه في فلسطين المحتلة إلى حمام دم آخر في لبنان وعينه مفتوحة على أنهار من الدماء في كل أنحاء منطقتنا، وذلك بدعم ممن كانوا سبباً في “محرقته” وعلى حساب من كانوا تاريخياً يعاملون اليهود أحسن معاملة!
إنّ التعقيدات الجيوسياسية التي تتحكم بدينامية الحرب الدائرة حالياً في الشرق الأوسط لا تُهدّد الأمن والاستقرار في هذه المنطقة فقط، لا سيما مع استمرار الدعم الغربي غير المحدود لنازيي أوكرانيا، بل ثمة خطر فعلي لتحول هذه الحرب إلى حرب عالمية كبرى، فإيران ليست دولة صغيرة وقدراتها ليست محدودة وهي تقيم على تخوم حليفها الروسي الذي لا يملك ترف تركها فريسة لأمريكا ولو كان نتنياهو هو الواجهة التي تعمل خلفها واشنطن، كما أن الصين لا تملك ترف ترك دولتين مثل روسيا وإيران وحيدتين في مواجهة أمريكا وحلف “الناتو”. من هنا فإن خطر تمدد الحرب في منطقتنا وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة هو خطر جدي ويقف وراء هذا الخطر “كارتيلات” السلاح التي تتولى مع أخواتها “كارتيلات” النفط والمصارف وشركات التأمين تحديد هوية الرئيس الأمريكي.