يُعاقبون بيروت الكوزموبوليتية.. بالموت الأبدي!

بيروت إغتالوها دفناً للعار، ظناً منهم أن الكوزموبوليتية هي العار. لم تمت بيروت ولن تموت. الأهم من ذلك أنها تزينهم شرفاً. هي شرف الأمة.

بيروت مدينة متوسطية كوزموبوليتية. مدينة تعج بالحياة. يلتقي فيها الإيمان ونقيضه. النقيض يمنحها الحياة. لا إيمان دون ضلالة. حيوية المدينة نابعة من ضلالتها. ملأى بالطقوس الدينية المسيحية والإسلامية. ألَقها لم يكن نابعاً من الجوامع والكنائس بل من الضلالة. عهر المدينة هو ما يؤدي الى هواء المدينة. يجعل المرء حراً، كما قيل في القرون الوسطى. روح المدينة في التمرد والحرية.
حرية المدينة مرهونة بحرية الفرد. المدينة عصيان وتمرّد. عصيان على السلطة، تمرد على الجماعة. شرف المجتمع في المدينة، في الحريات المتجسدة فيها. بعد أن صادرت الجماعات حروب التحرر الوطني، بقي لنا الحرية في المدينة. بقي لنا تمرد المدينة. من هذا التمرّد، تنطلق الثورة مرة أخرى. وقد انطلقت مرات عديدة، وقمعت مرات أكثر.

لا يحتاج المرء في المدينة إلى خمار. المدينة هي الستر الحقيقي. لا يحتاج الى عبادة. الطقوس الدينية عبادة افتراضية. تكثر فيها الجوامع والكنائس. لكن المقاهي والخمارات أماكن للعبادة أهم. العبادة هي حيث يلتقي البشر طوعياً للنقاش. هياكل الدين يلتقي الناس فيها لسماع الوعظ. هذا ما لا نحتاجه. نحتاج الى الحوار والنقاش. في المقهى عبادتنا. في بيوت الدين عبادتهم. عهدنا مع الله حقيقي. عهدهم افتراضي. ومن قال إن الله بحاجة للمنافقين؟

تسكُعنا في المدينة لم يكن هامشياً. نغيب في أزقتها. نصير نكرات. بالتعريف يتحوّل المرء في المدينة مواطناً عندما يصير نكرة. نكرات نحن. مواطنون نحن. ثوار نحن. أهل المدينة. هنا حيث لا يعرف واحدنا الشخص الآخر. لكن الصوت ينتقل من واحد لآخر. يتكوّن الرأي العام. تتشكّل الديمقراطية برغم طغيان النظام الاستبدادي. بؤرة دائمة للثورة. يخافها الطاغية. يزرعها بأجهزة المخابرات. يحولها الى ريف. والريف لا ينقذه. يهب هواء المدينة على الريف. لم يبق في لبنان ريف.  بقي النظام ريفياً بعكس المدينة والريف. هذه مأساته. ما التحق النظام بحداثة المدينة والريف. بقي على الهامش. الحرية في جوهر النظام. لم يستطع القمع إلا أن يكون عرضياً. علم النظام في مجتمعه شيئاً وغابت عنه أشياء.

في أزقة بيروت حريات عاهرة. عهرها خروجها على النظام. بين الجميزة – مار مخايل ووسط البلد بضع خطوات. العبور الى ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر استغرق بضع دقائق، وكأن الانفجار كان ضرورياً. التدمير كان ملحاً لمحو بؤرة الثورة. النار تمتد وتنتشر من وسط بيروت الى بقية الوطن العربي. لم يكن أهل بيروت يعرفون ذلك. ربما كانوا يدركونه في قرارة نفوسهم. دفعوا الثمن غالياً. نعزي أنفسنا. المأساة كبيرة. الدمار كبير. البكاء كثير. الإحباط يدمي القلوب. أحياناً ننسى أن طائر الفينيق منسوب إلينا.

بيروت المدينة العاهرة تكشف كل عورات الوطن العربي. ليس في قطر عربي واحد آخر مجتمع ينام ويستفيق على نغم إسقاط النظام وإسقاط الرئيس وإسقاط كل الطبقة السياسية. هي معزوفة الأمهات لأطفالهن كي يناموا. عندما يستفيقون يكون النغم ما زال في آذانهم وفي وعيهم. مدينة لا تعرف النوم. أرادوها أن تنام موتاً أبدياً. اللبنانيون مشهورون بالنقيق على مدار الساعة. النقيق اليومي تحوّل إلى سيل عارم في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. تشرين شهر الحرائق في لبنان. إطفاء حريق الثورة يتطلّب حريقاً مضاداً. ثورة مضادة. وهذا ما حصل عندنا في القويطع. في كفتون، أرقى قرى لبنان. عدة الشغل مألوفة. مجرمون غير لبنانيين، ربما لاغتيال سياسي لبناني معروف على موعد للعشاء في قرية مجاورة. والده اغتيل رئيسا شهيداً. يقتل الأبطال الثلاثة من أهل القرية وهم من بيئة معادية للرئيس الذي اغتيل من 38 عاماً. اغتيل أبطال ثلاثة. نجونا هذه المرة من فتنة. الرجاء أن ننجو في المرات القادمة من فتنة تشعل حرباً أهلية طائفية. كل اغتيال سياسي ينتج شهيداً. ما أكثر الشهداء عندنا.

بيروت عاصمة الدولة. خطفوا الدولة. بيروت مركز السياسة. دمروا السياسة. بيروت عاصمة الثقافة العربية. فرّغوا الثقافة وطمسوا العروبة. الانعزالية لم تعد كذلك. الحياد ضد الانعزالية

بيروت عاصمة عربية. عاهرة العواصم العربية. بكل فخر. عاهرة لأنها تختلف عن بقية العواصم. طاغيتها لا يستطيع أن يكون مستبداً. مدينة تعصى على الإستبداد. فيها حريات عميقة الغور. لم تستطع الحرب الأهلية إقتلاعها. ولم تستطع الوصاية تدجينها. عاصمة لدولة مخطوفة. لكنها بشكل أو بآخر، لسبب أو لآخر، عاصمة العواصم العربية. حيويتها الإجتماعية والسياسية تجعلها كذلك. حيويتها مقياس للحيوية العربية المدفونة تحت طبقات الإستبداد والثورة المضادة.

بيروت عاصمة الدولة. خطفوا الدولة. بيروت مركز السياسة. دمروا السياسة. بيروت عاصمة الثقافة العربية. فرّغوا الثقافة وطمسوا العروبة. الانعزالية لم تعد كذلك. الحياد ضد الانعزالية. في الانعزال تكون مع الروح الجماعية جزئياً. مع الحياد تكون مع الغير. صرنا مع الغير كلياً، أو هكذا حاولوا، حتى صرنا نتمنى أي شيء آخر حتى الحياد. كي تكون عاصمة الدولة حقيقة، يجب أن نسترد الدولة وأن يكون لها سياق. هل تستطيع المدينة أن تعوّض عن ذلك؟ كانت أشبه بالمدينة – الدولة. فعلوا كل شيء لسلخ الدولة عن المدينة، ثم تدمير المدينة. يقولون إهمالاً لتجهيل الفاعل. ننتظر التحقيق. لا نعرف، هل نثق بالتحقيق المحلي أو الدولي أو بكليهما؟ رؤوسنا تدور. نستعيد عافيتنا مع بناء بيروت.

إقرأ على موقع 180  هذا "الشرق الأوسط" لِمَن: وحدة عربية أم امبراطورية إسرائيلية (1)؟

كانت الكوزموبوليتية مكروهة في أيام المد القومي الذي أعلى الأمة فوق الدولة، فإذا بالكوزموبوليتية ملعونة في أيام الإستبداد الشوفيني، وهو جديد على لبنان. الكوزموبوليتية صلة بالعالم. تفقد معظم مدن ساحل المتوسط الجنوبي والشرقي كوزموبوليتيتها. إشارة الى فقدان صلة المنطقة بالعالم. منطقة مصابة بالإنعزال. دين أو أمة قومية تنحسر من مجال واسع هو العالم إلى الإنغلاق والدوران حول الذات الجماعية. يُراد لنا إنغلاق المجتمع على نفسه، وهذا أخطر من الخراب المادي.

الكوزموبوليتية ليست تعبيراً عن فقدان الهوية، كما كان أمثالنا يدعون. هي إنفتاح على العالم، وإندراج فيه، وتأكيد للذات في العالم. لا ضير في المبالغة بالقول إن الكوزموبوليتية تحمي الوحدة الداخلية. هي تأكيد لتعددية سوية. المجتمع غير المتعدد غير موجود. ربما صح القول إنه لا يستحق الوجود. النفس التي لا تتحمل إلا أشباهها هي نفس ضعيفة. نؤكد أنفسنا بالإختلاف لا بالتشابه والتماثل.

تحولنا الى دولة فاشلة. الرجاء أن لا نتحول الى مجتمع فاشل. يبدو أن السلطة السياسية تسعى من أجل ذلك

إغتيال الكوزموبوليتية في بيروت يضاف إلى الكارثة. هو بمثابة موت الروح إضافة إلى موت الجسد. يكفينا مدن بلا روح، مجتمع بلا روح. مجتمع يغلب عليه الإنغلاق. عقل يُظلم فيه الفكر. وعي لا نهاية له إلا الاستسلام. مرح، فرح، عهر، زندقة، شك، تساؤل، عبثية، هيدونية، كل ذلك هو ما يضع المدينة في مواجهة الوجوم والحزن والإستسلام والإنعزال والإنضباط. الطوعية لن يكون لها مكان في لبنان. ستبقى بيروت عاصمة التمرد.

لا يتطوّر المجتمع إذا كانت المدينة – العاصمة تشبه نفسها. يحصل التطوّر إذا كانت المدينة تخرج من ذاتها، وتحمل المجتمع لأن يخرج من ذاته، بتجاوز الانغلاق، ليندرج في العالم. تعددية بيروت كان هنا معناها، كما كان إبنها الذي اغتالوه منذ خمسة عشر عاما. سمّوها متوسطية في حينه. وهل مدينتنا غير متوسطية؟ سمّوها شرق أوسطية. وهل الشرق الأوسط إلا جزءاً من عروبتنا؟ لسنا بمعرض البحث عن عالم يسعنا. نسعى لأن تتسع آفاقنا فنتسع للعالم.

                    وتحسب أنك جرم صغير/ وفيك استوى العالم الأكبر

الحاجة هي أن تتصالح السلطة مع مجتمعها. ولا تخاف منه. الآن تتعاطى السلطة مع ثورة تشرين وإنفجار 4 آب/أغسطس وكأنهما لم يحدثا. المجتمع يفهمها جيداً. هي التي لا تفهم. ولا تريد أن تفهم. والمسألة تتعدى سوء الفهم. هي طبقة سياسية تعاقب مجتمعها. تريده أن ينسجم معها بدل أن تنسجم معه. تعاقبه بدل أن يعاقبها. تقبض عليه بدل أن يقبض عليها.

الانهيار حصل والطبقة السياسية تتصرف وكأن الأحوال على ما يرام. يبدو أنهم يعتقدون بأنهم منتصرون بالانهيار؛ منتصرون على شعبهم. حوادث امنية هنا وهناك. غير معروف إذا كانت الأحوال مضبوطة. لكن ماذا يمنع أن تتطوّر الأمور الى عصيان مدني؟ هل سيقبل الشعب أن تعاقبه السلطة للمصائب التي تحل به؟

تحولنا الى دولة فاشلة. الرجاء أن لا نتحول الى مجتمع فاشل. يبدو أن السلطة السياسية تسعى من أجل ذلك.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  هذا "الشرق الأوسط" لِمَن: وحدة عربية أم امبراطورية إسرائيلية (1)؟