هو رجل مختلف فى أزمان جديدة تقف فيها الولايات المتحدة على حافة الأسئلة الحرجة: ما مستقبل دورها فى نظام دولى جديد يوشك أن يولد من تحت أنقاض جائحة «كورونا»؟.. وما مدى قدرتها على مجابهة أزماتها الداخلية المتفاقمة بإنهاء الانقسام الفادح فى مجتمعها؟
لم يسبق لـ«ترامب» أن تولى منصبا سياسيا أو تنفيذيا قبل أن يصبح رئيسا للقوة العظمى الأولى فى العالم.
قفز إلى مقعده من حقل العقارات لا من ميادين السياسة.
كان ذلك انقلابا صاخبا فى معادلات السلطة والنفوذ وحسابات القوة وطبائع الرئاسات.
لم يكن من قماشة أى رئيس معاصر، خسر معركة تجديد ولايته، ولا المقارنة جائزة.
فهو لا يمتلك سجلا سياسيا وأمنيا يضاهى ما كان يحوزه «جورج بوش ــ الأب»، الرئيس الأسبق للاستخبارات الأمريكية، الذى خسر أمام المرشح الديمقراطى الشاب «بيل كلينتون» وغادر البيت الأبيض فى صمت وفق الأصول والتقاليد قبل ثمانية وعشرين عاما.
على ذلك النحو، تصرف الرئيس «جيرالد فورد» عندما لقى هزيمة مفاجئة أمام «جيمى كارتر»، برغم فوارق الخبرة والثروة والنفوذ.
تبعه «كارتر» إلى ذات التصرفات المنضبطة على القواعد الديمقراطية عندما لحقت به هزيمة مماثلة أمام «رونالد ريجان» الممثل السينمائى المغمور.
الخروج عن القواعد والأصول المتبعة بدا تعبيرا عن أزمة عميقة فى مؤسسات الدولة، تقاليدها تراجعت والثقة فى ديمقراطيتها اهتزت حتى بدت موضع تساؤل واختبار.
«ترامب» تجل للأزمة وليس الأزمة نفسها.
كان صعوده مؤشرا قويا على ترنح الطبقة السياسية فى الولايات المتحدة، التى جاء من خارجها، وبنى حملته على التنديد بفسادها.
منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى لحقت بسيرته الشخصية ظلال وتساؤلات مسجلة على شرائط تلفزيون، أو منشورة على صفحات جرائد، إلا أنه نجح بصورة لافتة أن يجعل من نفسه تعبيرا عن «الحلم الأمريكى» فى القوة والثراء وفق عنوان مسلسل تلفزيونى وثائقى عن قصة حياته.
الأفدح بالنسبة لإدارة توشك على مغادرة مواقعها إصدار قرارات استراتيجية مثل خفض القوات الأمريكية فى أفغانستان والعراق دون اعتبار لاعتراضات القادة العسكريين والحلفاء فى «الناتو» حتى يمكنه القول إنه التزم بتعهداته الانتخابية غير منقوصة عندما يحين وقت الإعلان عن ترشحه مجددا للرئاسة عام (2024)
لسنوات طويلة استقرت صورته فى مخيلة مدينة نيويورك كرجل مقاولات يستطيع أن «يحيل التراب إلى ذهب»، فكل مشروعاته ناجحة وكل معاركه رابحة رغم أية تجاوزات فادحة يرتكبها، أو فضائح يتورط فيها.
لم يكن ذلك صحيحا وفق شهادات من عملوا معه، لكنها قوة الصورة فى نهاية المطاف.
المثير ــ هنا ــ أن الرئيس الذى رفض بإصرار الإفصاح عن سجله الضريبى، حتى لا يتهم بانتهاك القانون، لم يكن يتورع عن إبداء فخره كرجل أعمال بمثل ذلك التهرب.
إحدى الوقائع الكاشفة فى سيرته الشخصية حصوله على مزايا ضريبية لا مثيل لها عندما أقنع حاكم نيويورك عام (1975) بإعفائه من الضرائب لأربعين سنة مقابل إقدامه على مشروعات عقارية لتحريك الاقتصاد فى أوقات كساد.
الاستثمار فى الأزمات من مقومات شخصيته، التى تراكمت خبراتها.
برغم ما هو معتاد عنه من صدام مع «الميديا»، إلى حدود لم يسبقه إليها أى رئيس، إلا أنه أكثرهم غراما بالكاميرات، يسعى إليها ويشتبك معها، تعلم فى استوديوهات البرامج التى دأبت على استضافته كيف يعرض نفسه على الرأى العام، وفنون التهرب من الأسئلة المحرجة.
كان ذلك من ضمن أسلحته فى الوصول إلى الرأى العام، غير أنها ارتدت عليه عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة.
هناك فارق جوهرى بين رجل مقاولات يتباهى بقدرته على كسب المال والتهرب الضريبى، ورجل دولة تتوقف مصائر شعوب ودول على ما قد يصدر عنه من تصريحات وتفلتات.
قبل عقود طويلة سألته مذيعة أمريكية: ماذا يفعل إذا خسر ثروته، أو تهددت بالخسائر امبراطوريته العقارية؟
أجاب دون تردد: «سوف أترشح لرئاسة الولايات المتحدة».
كان يعنى ما يقول.
إذا ما طرح السؤال نفسه بصيغة معدلة: «ماذا تفعل إذا اضطررت لمغادرة البيت الأبيض بقوة الدستور؟».. فإن إجابته المرجحة: «سوف أعمل للعودة إليه فى الانتخابات التالية 2024».
لأسباب تكتيكية لم يلوح «ترامب» بمثل هذا السيناريو حتى الآن، فأى تلويح يقوض أية مزاعم يتبناها عن تزوير الانتخابات، وينسف أى جدوى للملاحقات القضائية، التى يخسرها واحدة بعد أخرى دون أن يتوقف.
بشكل أو آخر فهو يستثمر بتصرفاته غير المسبوقة وغير المعتادة فى الانقسام الأمريكى الفادح وفى اهتزاز المؤسسات الأمريكية، ساعيا لفرض كلمته على قادة الحزب الجمهورى، سواء كان فى السلطة أو خارجها، إما أن يكونوا معه أو أن يخسروا قواعدهم الجماهيرية.
عدم السماح بأى نجاح محتمل للرئيس المنتخب فى تخفيف الانقسامات والاحتقانات السياسية والعرقية جوهر حملته الانتخابية المبكرة.
لا تعنيه خسارة الدعاوى القضائية واحدة إثر أخرى، ولا انسحابات بعض شركات المحاماة التى كلفها بتبنى مزاعمه خشية التأثير السلبى على سمعتها، بقدر ما يعنيه وضع العراقيل والعوائق أمام الرئيس القادم لإفشاله قبل أن تبدأ مهمته (20) كانون الثاني/يناير المقبل.
لا هو مسموح للرئيس المنتخب بالاطلاع على التقارير الاستخباراتية، التى تساعد بالضرورة على التأهب للمهام العاجلة التى تمس الأمن القومى.
ولا هو مسموح لفريقه أن يطل على المعلومات الطبية الضرورية لمواجهة الجائحة وتخفيف وطأتها على ما تعهد فى حملته الانتخابية.
اتخذ قرارات مصيرية بالوقت بدل الضائع كمنع وكالة الخدمات العامة الفيدرالية من تخصيص الميزانية اللازمة لبدء نقل السلطة، وإقالة مسئول الأمن السيبرانى للانتخابات «كريس كريبس» لنفيه مزاعم تزوير الانتخابات، وإعفاء وزير الدفاع «مارك إسبر» بذريعة تقاعسه عن إنزال الجيش لفض التظاهرات، كأنه إعفاء انتقامى بأثر رجعى.
الأفدح بالنسبة لإدارة توشك على مغادرة مواقعها إصدار قرارات استراتيجية مثل خفض القوات الأمريكية فى أفغانستان والعراق دون اعتبار لاعتراضات القادة العسكريين والحلفاء فى «الناتو» حتى يمكنه القول إنه التزم بتعهداته الانتخابية غير منقوصة عندما يحين وقت الإعلان عن ترشحه مجددا للرئاسة عام (2024).
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“