كان الشاب جوليو ريجيني (28 عاماً) قدم إلى مصر لإنجاز أطروحته في الدكتوراه حول العمالة المصرية التي كان يتابعها في كلية جيرتون بجامعة كامبريدج البريطانية.. التقى بعض المسؤولين في اتحاد العمال المصري.. ثم اختفى بشكل غامض يوم الإثنين في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2016، قبل أن يعثر عليه ميتاً بفعل الضرب والتعذيب..
شكّل العثور على جثة الباحث الشاب، فاتحة لسجال متعدد الأوجه بين الدولتين المصرية والإيطالية، استدعى الكثير من الزيارات المتبادلة لوفود سياسية وقضائية بين البلدين.. وتطلب سحب السفير الإيطالي من القاهرة لمدة تزيد عن عشرين شهراً، كما أثار الكثير من الصخب الإعلامي على مستويات شتى.
في التقرير الأول حول الحادثة الذي صدر عن أحد الأطباء الشرعيين في مصر بتاريخ الأول من آذار/مارس عام 2016، ورد أنه تم استجواب ريجيني لمدة لا تقل عن سبعة ايام، تعرض خلالها لتعذيب متواصل خلال فترات تتراوح بين 10 و14 ساعة في اليوم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. لاحقاً، أدلت باولا، والدة جوليو، بشهادتها أمام البرلمان الإيطالي، ومما قالته أنها لم تتعرف على جثة ابنها إلا من علامة فارقة في أنفه، لأنه كان مشوهاً “بصورة مرعبة”، وقالت والدة ريجيني أن “معركة عائلتنا اصبحت معركة لحقوق الإنسان وجوليو كان مرآة للانتهاكات التي ارتكبت يوميا في مصر”.
نقطة في بحر
اثار خبر مقتل ريجيني ضجة عارمة في أماكن كثيرة من العالم، سرعان ما جرى ربط الحادثة بحوادث مماثلة تشهدها مصر، وتنطوي على اختفاء اشخاص في ظروف غامضة، فسارع قرابة 4500 ناشط أكاديمي من جنسيات مختلفة إلى توقيع عريضة تدعو للكشف عن ملابسات الحادثة، مع سواها من الأحداث المشابهة، التي يجري التعتيم عليها دون أن تجد من يتابعها. كما دخلت جماعات حقوقية مصرية على الخط معلنة أن التعذيب يحمل بصمات الأجهزة الأمنية المصرية، في حين نفت الحكومة المصرية واجهزتها الأمنية هذه الاتهامات بشدة.
حادثة فردية؟
مؤخراً، أعلنت النيابة العامة الإيطالية عن مطالبتها بمحاكمة أربعة ضباط من جهاز الأمن الوطني المصري أمام القضاء الإيطالي بتهمة قتل ريجيني، ومنحتهم فرصة عشرين يوماً للمثول أمام المحاكم الإيطالية المختصة، قبل أن تجري محاكمتهم غيابياً.. وتكليف الإنتربول الدولي مهمة اعتقالهم.
عدد الضباط المصريين الذين انطلقت منهم لائحة الإتهام الإيطالية بلغ سبعة في البداية، لكنه تقلص تدريجياً ليستقر على أربعة، هم رئيس قطاع “الأمن الوطني” (“أمن الدولة” سابقاً) اللواء طارق صابر، الذي سُربت أنباء، تم نفيها لاحقاً، عن تقاعده بعد شهور من الحادثة، بالإضافة إلى العقيدين حسام حلمي، وآسر كمال، والرائد شريف مجدي عبد العال. ما بدا لافتاً للإنتباه في بيان القضاء الإيطالي حرصه الواضح على حصر التهمة بالضباط المصريين الأربعة، ونفي أي شبهة عن مرجعياتهم الرسمية والأمنية.. الأمر الذي قوبل باستهجان برلماني وإعلامي وشعبي في إيطاليا، حيث استغرب كثيرون إختزال القضية إلى حدود الحادثة الفردية، مشددين على أنه ليس هناك من خصومة شخصية بين الضحية وبين المتهمين.
تستند الرواية الإيطالية إلى إفادات شهود متنوعي الإنتماءات، بينهم أحد المصريين، وهو كان موقوفاً في سجن الدقي، أقرب مركز للشرطة إلى مكان إختفاء ريجيني، حيث نقل عن الباحث الإيطالي أنه كان يطالب بوجود محام، أو بمشاركة أحد موظفي سفارة بلاده في التحقيق الذي يخضع له، قبل أن يجبر على الصعود إلى سيارة غير حكومية انطلقت به نحو مكان مجهول. كما تحدث متهم آخر عن مشاهدته لجوليو وكانت آثار التعذيب بادية عليه، بصورة متسقة مع تقرير الطبيب الشرعي في روما.
الضابط الكيني.. والصدفة
جمع التحقيق الإيطالي خيوطاً متعددة للجريمة، جاء أبرزها من العاصمة الكينية نيروبي بمحض الصدفة.. شاءت الظروف أن يتشارك الرائد المصري مجدي عبد العال، بينما كان يتابع مؤتمراً افريقياً للأمن استضافته كينيا في شهر آب/أغسطس 2017، مائدة العشاء مع بعض زملائه من الضباط المصريين، إضافة إلى ضابط كيني لا يزال اسمه غير معلن بهدف حمايته..
مدفوعاً بظنه أن الضابط الكيني يجهل اللغة العربية، استفاض عبد العال في الحديث عن كيفية ملاحقة الأمن المصري لجوليو ريجيني بعد الشك بكونه ينتمي إلى أحد اجهزة المخابرات الأجنبية، وبأن وجوده في مصر كان لهدف استخباراتي، قال الكثير مما كان يستوجب التكتم عليه، ولم يتردد الضابط الكيني في إخبار الجهات الإيطالية المعنية بما سمعه. إفادة الضابط الكيني المتستر على هويته شكلت الدافع وراء زيارة قام بها النائب العام الإيطالي، سيرجو كولايوكو، إلى نيروبي حيث استمع لشهادة الضابط الكيني، ثم أرسل مذكرة قضائية إلى السلطات المعنية هناك للتحقق من ملابسات ووقائع تلك الشهادة، ومن موثوقية الشاهد نفسه.
التقط التحقيق الإيطالي خيوطاً رئيسية للجريمة، بينها أن ريجيني خضع للمراقبة لأكثر من أربعين يوماً قبل اختطافه، وأن الأمن المصري فرض على شريكه في السكن، المدعو محمد الصياد، مراقبته وإخبار الأجهزة بتحركاته دون معرفته، كذلك جرى تكليف حارس العقار الذي كان يسكنه بأمر مماثل. كما كشفت جريدة “التايمز” البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر عام 2019 أن نورا وهبي، زميلة جوليو في الجامعة، وهي كانت من ابرز المقربين إليه، تولت إبلاغ السلطات المصرية بتحركاته.
وذكرت “التايمز” أمس (الأربعاء) أن البرلمان الإيطالي الذي يحقق في القضية، سيرسل وفدا إلى جامعة كامبريدج لمساءلة الدكتورة مهى عبد الرحمن وهي المشرفة على رسالة الدكتوراه التي كان يعدها ريجيني حول النقابات العمالية المصرية، وذلك من أجل تقديم أدلة حول طبيعة الرسالة التي كان يجمع لها البيانات في القاهرة عام 2016 عندما اختطف وعذب وقتل على يد قوات الأمن المصرية.
وكانت عبد الرحمن قد قالت إن ريجيني هو الذي اختار الموضوع بنفسه لكن المحققين الإيطاليين وجدوا رسالة إلكترونية منه لوالدته، يفيد فيها أن مهى عبد الرحمن هي من وجهته للبحث في هذا الموضوع الحساس، كما شجعته للتقدم بطلب منحة من جمعية بريطانية اسمها أنتيبود، والحصول على دعم 10.000 جنيه استرليني!
وأعلنت وزارة الخارجية الإيطالية أنها ستشرع في اتخاذ مجموعة من القرارات خلال الساعات القليلة القادمة، من أجل حث الاتحاد الأوروبي على الاهتمام بقضية ريجيني باعتبارها قضية أوروبية وإتخاذ موقف موحد بصددها.
ولمصر روايتها
بالمقابل، فقد جهدت أجهزة الأمن المصرية في صياغة روايتها للحادثة حيث أعلنت وزارة الداخلية المصرية في 24 آذار/مارس 2017 عن عثورها على متعلقات ريجيني بمنزل شقيقة أحد أعضاء التشكيل العصابى الذي تم استهدافه ليل 23 آذار/مارس بالقاهرة الجديدة، والذي تخصص في سرقة بعض الأجانب بالإكراه بانتحال صفة ضباط شرطة، حيث عٌثر على “كارنيه” مزور، منسوب صدوره لوزارة الداخلية، عليه صورة أحد الجناة المفترضين.. في وقت لاحق صدر بيان مكرر عن الداخلية يفيد أنه تمت تصفية أربعة من المتهمين بقتل الباحث الإيطالي بعد الإشتباك معهم أثناء محاولة توقيفهم. وهو البيان الذي رفضته وزارة الخارجية الإيطالية، واعتبرته غير موثوق.
بين الروايتين
في الفترة الفاصلة بين حدوثها وبين قرار القضاء الإيطالي وضع اليد عليها، شهدت قضية مقتل ريجيني الكثير من الملابسات المثيرة للإهتمام:
– في 24شباط/فبراير 2016، كشفت الداخلية المصرية عن “تشعب دوائر اتصالات ريجيني وتعدد علاقاته والتي تم تحديد بعضها”، وقد ألمحت في بيانها إلى أن مقتله قد يكون ناتجاً عن حالة “ثأر شخصي”.
-في 11 آذار/مارس 2016، أقر وزير القضاء المصري أحمد الزند أن الطب الشرعي المصري قدّم تقريرًا حقيقيًا لإيطاليا، مؤكدًا الآتي: “ما جاء في التقرير عن ريجيني هو الرواية التي يعلمها الجميع، ولا يمكن إخفاؤها”، وأضاف: “نحن مستعدون لتحمّل الثمن السياسي والأعلى من السياسي عن التقرير”. وجاءت تصريحات الزند ضمن حوار تسبب في إعفائه من منصبه بعدها بيومين في 13 اذار/مارس، بقرار من رئيس الحكومة بعد اتهامه بالإساءة للنبي محمد، وقد تم تقديم بلاغ ضده للنائب العام بخصوص تصريحاته في قضية ريجيني والتي “حملت إشارات إلى احتمال تورط جهة شرطية” بحسب مقدم البلاغ.
-في 12 حزيران/يونيو 2016، أعطت روما الضوء الأخضر لبيع مصر فرقاطتين بقيمة 1.3 مليار دولار، برغم قضية ريجيني، فيما أعربت أسرة ريجيني عن “شعورها بالخيانة” من قبل الحكومة الإيطالية. يذكر أنه في 2018 وصلت مشتريات مصر من السلاح الإيطالي إلى 77 مليون دولار، أي أعلى من السنوات الماضية. وتعتبر إيطاليا من أكبر شركاء مصر التجاريين وتقوم شركة إيني الإيطالية بإدارة حقل ظهر للغاز الطبيعي.
-في أيلول/سبتمبر 2017، تعرض المحامي الحقوقي إبراهيم متولي الذي يمثل عائلة ريجيني، أثناء التوجه للقاء فريق عمل الأمم المتحدة المعني بحالات الاختفاء القسري، للاختطاف، ولم يحول رسميا للتحقيق حتى تعرف إليه صدفة زميل محامي له في أحد مباني الإدعاء العام الحكومية.