لبنان الذي يتحضر.. للمجهول!

تقول رواية، أنّ أحد الزعماء المحليين إشتكى لجليسه من أنّه إذا ما ضرب رجل رجلاً آخر من غير طائفته، فإنّ الحادث يغدو شأناً إنجليزياً - فرنسياً، وأنّ اضطراباً يمكن أن يحصل بين البلدين إذا ما اندلق فنجان قهوة على الأرض. لقد كان هذا شأنُ لبنان دائماً عندما تنقلب ساحاته في لحظة إختلال في التوازنات إلى ساحات مجنونة لألعاب القبائل والأمم!

في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، كان لبنان قد بلغ حافة الهاوية والانهيار الشامل، لولا رسو التوازنات على حسان دياب. لكن حكومته لم تؤلّفها الرغبات والمصالح العميقة وإنما الذعر مما هو آت. إستجاب الزعماء الأقوياء بشيء من التملق لبعض شعارات الناس في الشوارع. وأفسحوا المجال للوافد الجديد بسيل من الحيرة والتشكك وإحتفاظهم بحق النقض، كلما لامست الحكومة خطوطهم الحمر.

تشكلت هذه الحكومة على وقع إنهيارات نقدية واقتصادية مهولة، وفي ظل أوضاع إجتماعية غاية في القسوة، وأمام نخبة سياسية انتهازية تجهد لإبقاء قبضتها على السلطة، ولو بطريقة “الوصاية” غير المعلنة. مع تقدم الأيام، تراوحت علاقة النخبة والحكومة بين التعاون الخجول والتهديد بتفكيكها. بعض القوى المؤلَّفة لها، أرادت الحكومة منزوعة السلاح ومجردة من أدوات الإصلاح والتغيير الفعلي.

إستجابت هذه الحكومة لقائمة من الشروط كالإفراج عن العميل عامر الفاخوري والسير في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي وعدم إقالة حاكم مصرف لبنان وآخرها التعيينات الإدارية التي كادت أن تفجّر الحكومة بصورة مهينة. ثم بدأت موجة الاعتراضات في الشارع على خليط من الشعارات الإجتماعية والسياسية، والمستجد في بعضها نزع سلاح المقاومة بالتزامن مع تطورين إقليميين رئيسيين. الأول، مسارعة “الحكومة الإسرائيلية” إلى طرح مشروع ضم الضفة الغربية إلى أرض “إسرائيل”. والثاني، إقتراب موعد تطبيق قانون “قيصر” لمزيد من الإحكام والضغط على سوريا.

دلالات التوقيت

كل عناصر الوجع يمكن أن تجعل اللبناني ينزل إلى الشارع للتعبير عن غضبه، غير أن ذلك لا ينفي أن بعض التظاهرات تأتي في خدمة أهداف سياسية واضحة، خارجية وداخلية، سواء مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة. في الخارج، ترتبط بالوضع الكارثي الذي تأزم داخل الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفشي وباء “كورونا” وفشل إدارة ترامب في التعامل مع أزمة انهيار الاقتصاد، من جانب، وغياب استراتيجية موحّدة لمواجهة جائحة “كورونا” معطوفة على أزمة الهوية التي برزت مع مقتل “جورج فلويد” على يد شرطي أبيض ما أثار احتجاجات عارمة تهدد بصراعات أهلية جديدة، من جانب آخر.

يأتي ذلك أيضاً في ظل توتر في العلاقة بين أمريكا من جهة وكل من الصين وروسيا وإيران وفنزويلا من جهة أخرى، على خلفيات سياسية واقتصادية حادّة، في حين تبدو السياقات الدولية مفتوحة على المجهول. من جانب آخر، تواجه إسرائيل أزمة بنيوية عميقة، فيما رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يعاني من اهتزازات مجتمعية وسياسية، وضغوط قوية على خلفية خياراته التي تكاد كل مرة تضع الكيان أمام مواجهات مع الفلسطينيين أو مع إيران وحلفائها، غير محسوبة النتائج.

بالنسبة لترامب، فإنّ فتح مواجهة خارجية في المنطقة، وتحديداً في لبنان، سيشتِّت بنظره الاهتمام الشعبي الأمريكي عن مسؤوليته عن كل الإخفاقات الداخلية، ويضمن من خلال تأييد “إسرائيل” بضم الضفة الغربية وقوف اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة إلى جانبه في هذه الأوقات العصيبة. والأهم من ذلك بالنسبة لترامب في علاقته مع اللوبي اليهودي المتشدد في الولايات المتحدة، هو تمويل ودعم حملته للانتخابات الرئاسية. يرمي ترامب أيضًا من خلال تقديم هذه المكافأة الكبيرة لإسرائيل إلى تعديل موقف أمريكا وإعادة التوازن والهيبة إلى صورتها القوية التي تراجعت بسبب الضربات التي تلقتها القوات الأمريكية في العراق بعد استشهاد اللواء قاسم سليماني.

تمثل خطة الضم وقانون “قيصر” في حالة تطبيقهما عدواناً يراد من خلالهما دفع المنطقة إلى اهتزاز كبير ينفجر في وجه إيران وحلفائها

بالنسبة للجانب الإسرائيلي، فإن خطة الضم تحتاج إلى توتير دوائر المحيط الجغرافي وإنهاك حزب الله وسوريا وإشغالهما بالأزمات الاجتماعية.

في الحقيقة، تمثل خطة الضم وقانون “قيصر” في حالة تطبيقهما عدواناً يراد من خلالهما دفع المنطقة إلى اهتزاز كبير ينفجر في وجه إيران وحلفائها.

أما من الجهة المحلية، فإنّ الحديث عن سريان قانون “قيصر” بدأ يثير نوعًا من الجدل والتوتر العالي بين القوى المحلية، ويستنفر أدوات أمريكا والسعودية والإمارات وتركيا في محاولة لدفع حزب الله، إما إلى تليين تصلبه حتى يقبل بتسوية جديدة أو دفعه للإنكفاء وإرغامه بإنتخابات نيابية مبكرة وحكومة بديلة برئاسة شخصية موالية للولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الضغط عليه للقبول بتوسيع دور “اليونيفيل” جنوباً وشرقاً وشمالاً.

أما من جهة حزب الله، فإنّه يعي تمامًا أن التطورات المحلية والإقليمية ستعرِّض استقرار لبنان وأمنه لمرحلة عاصفة من الإضطرابات. وحالة الجدل السياسي في الميدان، يتم تعزيزها بالضغوط المالية والتلاعب بسعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية. وقد شهدت الساحات والمناطق المختلفة خلال الأيام الماضية هجومًا واضحًا على سلاح المقاومة ومطالبات بنزعه وقطعاً للطرقات من أجل رفع الكلفة عليه وتحميله مسؤولية التدهور الذي وصل إليه لبنان، وتعقيد حساباته مع حلفائه ما يضطر بعضهم إلى إعادة تقييم علاقته مع الحزب، وربما البحث عن بدائل أقل كلفة ومخاطرة.

فرصة جديدة للإنقضاض!

ما ينبغي الالتفات إليه في ضوء هذا المشهد:

أولاً: لجوء بعض القوى المعادية للمقاومة إلى الاستثمار أكثر في تدويل الصراع الداخلي لإسقاط حكومة حسان دياب وإيجاد نوع من التوازن الذي خسرته بعد إنتخاب العماد ميشال عون عام 2016 رئيساً للجمهورية أو بعد الإنتخابات النيابية عام 2018. هذه القوى تسعى ليكون لقوات “اليونيفيل” دور أوسع سواء في تطبيق القرار 1559 أو توسيع دورها في إطار القرار 1701 لتقييد حركة المقاومة.

إقرأ على موقع 180  "جحيم بيروت".. آثاره بيئياً وصحياً وسبل الوقاية

ثانياً: تعتبر بعض القوى المحلية أنّ قانون “قيصر” وضم الضفة الغربية سيأتيان بتداعيات إستراتيجية وأمنية لن تكون في مصلحة حزب الله. وأنهم أمام فرصة جديدة تشبه مرحلة اغتيال الرئيس الحريري لتصدر المشهد من جديد.

ثالثاً: إنّ هذه القوى تراهن على رجحان إنهيار الدولة ما يفرض تحضرها لمرحلة مختلفة لجهة التوازنات محلياً وإقليمياً.

دياب أو الفوضى

وعلى هذا يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: لا يوجد ما يشير بشكل مباشر إلى قدرة القوى المعارضة للحكومة على إسقاطها في الوقت الراهن، ولا يبدو أنّ بعض شركاء المقاومة كتيار المردة والرئيس نبيه بري الممتعضين من تصرفات رئيس الحكومة حسان دياب يدفعون باتجاه هذا الخيار.

يرى حزب الله أنّ إستمرار حكومة حسان دياب وحمايتها مصلحة وطنية عليا، خصوصاً إذا كان بديلها الفوضى

ثانياً: ليس من الصعب رؤية التباين بين شركاء الحكومة. وردود الفعل المتعلقة بالتعيينات الإدارية، والأخرى الخاصة بالمفاوضات مع صندوق النقد وغيرها من الملفات، تمسّ وحدتها وتقدم فرصة للشارع لمواصلة ضغوطه. وبالنظر إلى تواضع الخطوات الإصلاحية، فإنّ حجم التأييد الشعبي سيتناقص خصوصاً أنّ القوى التقليدية التي عمدت إلى تحركات مشبوهة خلال الأزمة الأخيرة وقبلها من غير المتوقع أن تُظهر نوايا جادة لمساعدة الحكومة في تجاوز هذه الأزمة الوطنية.

ثالثاً: هناك شبه إستحالة للوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي والنقدي والاجتماعي في ظل الحكومة الحالية. الخارج سيواصل ضغوطه الاقتصادية وقوى الداخل ستلجأ إلى تجريد الرئيس دياب وحكومته من أدوات الإصلاح الفعلية لحسابات ترتبط بمصالح شخصية وطائفية وغيرها.

رابعاً: ما هو محتمل أنّ الإدارة الامريكية ستتشدّد في تنفيذ العقوبات على سورية من بوابة قانون “قيصر”، وهذا الأمر سيشكّل تكبيلاً وضرباً للإقتصاد اللبناني في ظل عجز واضح لدى الحكومة اللبنانية سواء لجهة الالتفاف عليها أو الذهاب إلى خيارات “الشرق”.

خامساً: من الصعب حالياً معرفة كامل تداعيات قانون “قيصر” على لبنان. لكن من غير المستبعد أن يشكل ذلك مدخلاً لإنهيار الاقتصاد والمجتمع، كما صرح بذلك أكثر من مسؤول أمريكي سابقاً. إذ يعتقد بعض المسؤولين الأمريكيين أنّ هذه الإجراءات القاسية ستدفع حزب الله إلى التراجع والإنكفاء.

سادساً: لم تكن دلالات إرتفاع سعر الدولار مقابل الليرة خافية على أحد. إذ لا يوجد شك في تعبيره عن رغبة أمريكية بخلق فوضى مذهبية وطائفية لتحميل حزب الله وسلاح المقاومة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمالية. وفي المقابل، هناك أدوار بارزة لتركيا التي تريد تأسيس حضور لها على حساب انكفاء اللاعب السعودي. بدا واضحًا، أن ليل السبت في 6-6-2020 وما تلاه كاد أن يضع البلد في مواجهة عسكرية مباشرة بين شباب من أحياء مختلفة، أو إنزلاق البلد إلى فتنة قد تأمن لها العديد البشري المطلوب. وهذا ما أكدته تقارير الأجهزة الأمنية اللبنانية وأيّدته وسائل إعلام خارجية.

سابعاً: يرى حزب الله أنّ إستمرار حكومة حسان دياب وحمايتها مصلحة وطنية عليا، خصوصاً إذا كان بديلها الفوضى، وبالتالي، فإنّ وقوفه إلى جانبها بغض النظر عن تباينات أعضائها أو الإختلاف معها في بعض الملفات، هو تثبيت لموازين القوى وتعزيز لمسار الإصلاح في هياكل الدولة، وإنحياز لطموحات الشعب اللبناني في النهوض بالبلد نحو الأحسن.

ثمة إعتقاد في واشنطن وتل أبيب والرياض تحديداً بأن الفوضى أصبحت بالفعل جزءًا من المعادلة اللبنانية

رهانات مفتوحة

ماذا تريد الإدارة الأمريكية من لبنان في هذه المرحلة تحديداً؟

أولاً: تعتقد الإدارة الأمريكية وحلفاؤها أنّ ما حصل في لبنان وما يمكن أن يحصل خلال الأيام والأسابيع القادمة بإمكانه تغيير قواعد التدافع وموازين القوى الداخلية. ثمة إعتقاد في واشنطن وتل أبيب والرياض تحديداً بأن الفوضى أصبحت بالفعل جزءًا من المعادلة اللبنانية، وأن خيارات حزب الله لمواجهة العقوبات والحفاظ على تماسك الحكومة وحتى تموضعات حلفائه الجديدة محدودة. وأن الحزب لم يعد قادراً على  توفير الحماية لبيئته، وأكبر دليل على ذلك نزول “مناصريه” إلى ساحات التظاهر منددين بالأوضاع المعيشية.

ثانياً: إن الإدارة الامريكية تحتاج إلى ما هو أكثر من النجاح في الفوضى. أي إلى دفع الحكومة الحالية نحو تسوية فعلية، في ما يتعلق بشروط صندوق النقد الدولي، ودفع حلفائها إلى تغيير ميزان القوى بصورة ملموسة، والضغط على حزب الله بصورة متصاعدة بإعتباره يشكل مصدر التهديد الرئيس لأمن إسرائيل ووجودها. وكذلك يريد من حلفائه الضغط لمواجهة تعاظم الدعم الذي تقدمه إيران له لتحقيق مناخ إقليمي معاكس يضمن تخليه عن سياساته في كل من سوريا وفلسطين على وجه الخصوص.

ثالثاً: تعتبر الإدارة الأمريكية وحلفاؤها أنّ المزيد من تورط حزب الله ضد الجماهير الغاضبة على خلفية المطالب الإجتماعية ودعمه للحكومة الحالية سينجح في إقناع عموم اللبنانيين بمسؤولية الحزب عن تدهور الأوضاع، ما سيدّمر سمعته ويقوّض حجته ويدحض روايته بأنه حامي الإستقرار الداخلي. فالمطلوب هو خلق ذلك المناخ العام بعدم قدرة اللبنانيين على تحمل تكلفة الخيارات الباهظة التي يعتمدها الحزب، داخلياً وخارجياً.

(*) كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ليس بالإحتواء تنتصر أمريكا.. أين "صُنّاع" قرارها؟