واذا ما استثنينا “اعلان القدس” الذي يريد أن “يُهدي” ادارة الشرق الاوسط إلى الكيان الاسرائيلي، فان بقية تفاصيل جولة بايدن لم تكن كما ارادها رُبّان السفينة الامريكي؛ لان الزعماء العرب الذين التقاهم في جدة لم يتحدثوا باللغة التي إشتهاها لخطاباتهم، بل تميزت كلماتهم بلغة نقدية للسياسة الامريكية حيال القضايا الرئيسية في الشرق الاوسط.
مقابل هذا المشهد، تبدى مشهد آخر في اللحظة التي وطأت فيها أقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أرض مطار طهران. هو مشهد أحد أبرز “المتمردين” علی السياسة الامريكية في المنطقة والعالم. صحيح أنها المرة الثالثة التي يزور فيها بوتين طهران، لكنها كانت هذه المرة زيارة مختلفة تماماً. كان بوتين مُنشرحاً. فرحاً. اكثر هدوءاً علی عكس المرات السابقة. راقبتُ حركاته حتی عندما جلس علی بعد ثلاثة أمتار من مقعد المرشد الايراني السيد علي الخامنئي مُلاصقاً لجدار الصالة، لم يكن مُتضايقاً وانما كان يستمع بإنصات شديد. وحينما همّ بالمغادرة كانت المصافحة مع المرشد تدل علی عزم مشترك بخوض غمار جدول أعمال طويل الامد يصب في مصلحة البلدين أولاً وضد الهيمنة الامريكية (السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية) ثانياً. هكذا قرأتُ زيارة الرئيس الروسي القصيرة إلى طهران من دون إهمال أبعاد القمة الثلاثية وماذا حملت في طيّاتها. ولكن ماذا بعد؟
في عهد الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي، أرسلت طهران إلى الحكومة الامريكية او بالأحرى إلى جهات في الولايات المتحدة رسالة حذرت فيها من مغبة ممارسة المزيد من الضغوط علی ايران لان ذلك سوف يجبرها على منح امتيازات للصين وروسيا للتواجد في المياه الخليجية او في مياهها الإقليمية الممتدة من سواحل العراق شمالاً حتی بحر عُمان وشمال المحيط الهندي جنوباً
للمرة الأولى تُوّقع ايران عقداً نفطياً مع شركة “غازبروم” الروسية العملاقة بقيمة 40 مليار دولار. هذا العقد علی اهميته الاقتصادية للطرفين؛ الا انه ايضاً يسمح لروسيا باقامة “مستوطنة” في منطقة جزيرة كيش الواقعة في وسط المياه الخليجية للتنقيب واستخراج النفط من حقل نفطي ايراني غير مستخرج منه سابقاً. وفي الشمال منه سوف تعمل الشركة الروسية لتطوير حقل بارس الشمالي المشترك مع قطر لانتاج الغاز الطبيعي. وبعبارة اكثر وضوحاً، فان هذين الموقعين الإيرانيين سيكونان شاهدين علی تحرك جميع القطع البحرية في المياه الخليجية بما في ذلك قطع البحرية التابعة للاسطول الخامس الامريكي المتمركزة في سواحل البحرين. لا ننسی ان حقل بارس الشمالي غير بعيد عن قاعدة الاسطول الخامس الامريكي. هل ان هذا الامر مهمٌ لواشنطن؟ ببساطة لا يخلو من اهمية ومن قلق للجانب الامريكي.
في عهد الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي، أرسلت طهران إلى الحكومة الامريكية او بالأحرى إلى جهات في الولايات المتحدة رسالة حذرت فيها من مغبة ممارسة المزيد من الضغوط علی ايران لان ذلك سوف يجبرها على منح امتيازات للصين وروسيا للتواجد في المياه الخليجية او في مياهها الإقليمية الممتدة من سواحل العراق شمالاً حتی بحر عُمان وشمال المحيط الهندي جنوباً. الآن ماذا يحصل؟ روسيا نفطياً في وسط المياه الخليجية وليست علی الساحل؛ والصين اقتصاديا في ميناء جاسك المطل علی مدخل مضيق هرمز؛ ولربما حلّت ضيفا اقتصاديا علی جزيرتي كيش وقشم الايرانيتين حسب اتفاقية التعاون الاستراتيجية الموقعة بين البلدين بقيمة 280 مليار دولار.
هنا يبرز السؤال؛ هل هذه الخطوات تخدم المصلحة والسيادة الايرانية خصوصاً في ظل الشعار الذي لا تزال ايران تتبناه منذ زمن الثورة بعنوان “لا شرقية.. لا غربية”؟.
في الاستراتيجية، ربما لا؛ لكن في التكتيك نعم. المُبرر أن إيران تحاول تعزيز مصادر قوتها من دون ان تتخلی عن ثوابتها. هي الآن عضو في منظمة شنغهاي التي تؤهلها للتعامل والتبادل الاقتصادي مع اعضاء هذه المنظمة التي تضم دولاً تحتوي نصف سكان البشرية. وهي ايضاً تقدمت بطلب الانضمام لمنظمة “البريكس” وهاتان المنظمتان الاقتصاديتان برئاسة روسيا والصين وتضمان اقتصاديات واعدة كالهند والبرازيل وجنوب افريقيا اضافة الی عدة دول آسيوية غنية بالموارد الاقتصادية والبشرية كإيران.
لا أحد يختلف كثيراً في النظرة إلى كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا بوصفها دولاً كبرى ووازنة عالمياً، سياسةً وإقتصاداً وأمناً.. وامكاناتها هائلة؛ وهذه النظرة أيضاً موجودة عند الإيرانيين، بفارق أنّهم لا يُسلمون بقدرية الهيمنة الأمريكية علی مقاليد العالم، وهي نظرة باتوا يتشاركونها مع العديد من الدول التي تتأثر سلباً بالممارسات الأميركية غير الصائبة في كافة مناطق النزاعات والتي صارت جزءا من ذاكرة شعوب هذه المناطق.. بالمعنى السلبي للكلمة!