سأكتب عن طموحي المولود مُذ كنت مراهقًا، أن أحمل لواء طرابلس وقضاياها، ليس بسبب طموح ذاتي على أهميته فحسب، بل بسبب عشق أحمله كأغلب رفاقي وأبناء جيلي لهذه المدينة غير المصطنعة، العابقة بتاريخ مشرف والعالقة بحاضر ظالم ومستقبل مجهول.
قصة طرابلس ليست قصة مرفأ ومعرض ومصفاة ومطار، قصة طرابلس قصة دور ووظيفة. قصة ميناء وصيادين وصناع وحرفيين وبساتين من الليمون والبرتقال والزيتون. تاريخ علمٍ وعمل ونضال وعروبة ويسار وتَديُن. مدينة علّمني فيها اللغة العربية والشعر أساتذة مثل كمال ومارون خوري وأنطوان السبعلاني، والفرنسية كعزيز عبدو ونديم جبران أما الإنكليزية فجورج كرم وجوزيف بولس وعلم الكيمياء والفيزياء مهى علم الدين وغازي افيوني وزكريا فلاّح.
مدينة ليس التعايش فيها مفتعلٌ بل هوجزءٌ من تكوينها. المدينة التي هُمّشت عمدًا وعنوة منذ نشوء لبنان الكبير، والتي انتقل أهلها من الإيجابية إلى السلبية خلال عقود.
اليوم، سأكتب عن مدينتي التي كان لكُثُرٍ ثارات معها إقليميًا ومحليًا. عن مدينتي التي خرقتها أجهزة أمن محلية وإقليمية ودولية حوّلتها إلى صندوق بريد إنطلق في خمسينيات القرن الماضي واستمر إلى يومنا هذا. إنتفاضات طرابلس إنطلقت عام ١٩٥٨ ناصرية في وجه كميل شمعون وأنتجت حينها فتوات الأحياء القبضايات. ثم إنتفاضة تشرين لفاروق المقدم في العام ٦٨ والعام ٦٩ ودخول العامل الفلسطيني. ثم نشوء دولة المطلوبين في أسواق طرابلس الداخلية في آذار/مارس 1974، فالإنخراط في الحرب الأهلية عام ١٩٧٥، فالتدخل العسكري السوري عبر قصف مقرات حزب البعث العراقي عام ١٩٧٦، ثم نشوء حركة التوحيد الإسلامية بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية بداية، فالحرس الثوري الإيراني وعملها على تصفية اليسار من شيوعيين وبعثيين عراقيين وقوميين سوريين في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ثم الدخول السوري إلى طرابلس لإجتثاث تلك الحركة عام ١٩٨٥ مع ما خلّف هذا الإجتثاث ـ الذي لم يكتمل ـ من تدمير للمدينة وبناها التحتية بالكامل.
ليست طرابلس من كدّست أبناء الأرياف في أحيائها العشوائية، بل عدم إكتراث الدولة هو الذي دفع أبناء الريف إلى مغادرة أريافهم، فتحولت “حارات الأهل” مسكنًا للوافدين الجدد
مع عودة آلة الدولة إلى الدوران، وبعد إنجاز إعمار بيروت العاصمة اللؤلؤة، إلتفت الرئيس رفيق الحريري إلى طرابلس من خلال عقد مؤتمر لإنمائها في ٢٠٠٢. هذا الإنماء الذي بقي حبرًا على ورق لأسباب شتى يحتاج شرحها نصاً كاملاً، وصولًا إلى صولات وجولات باب التبانة وجبل محسن كإستجابة لصراعات اقليمية سورية – خليجية في زمن ما بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري وخلال تأليف الرئيس نجيب ميقاتي حكومته الثانية قبل عقد من الزمن. دائمًا كانت الشرارة من طرابلس والخسارة عليها وعلى أهلها الطيبين.
منذ العام 1958، تعامل الدولة المدينة اللبنانية الثانية على أنها مدينة مارقة. لكأن وظيفة هذه الدولة وأجهزتها، دائماً، أن تحاول إستعادتها عنوة أو إستخدامها سلاحاً لتهديد الآخرين وضرب أي سبيل لنهوضها وتحميل ابنائها حصراً مسؤولية ظلمها، تارة كونها (ناصرية، مؤيدة للقضية الفلسطينية، قندهار لبنان، مناهضة لحزب الله والتيار الوطني الحر)؛ وأطوارًا لأنها مدينة أغنياء واصحاب ثروات مكدسة لم ينفقوا ثرواتهم الفردية على إنماء العاصمة الثانية وقطاعاتها وتمكين أهلها.
منذ ذلك الحين، وطرابلس تهرول وراء كرامتها الوطنية. إنتمائها. لقمة عيش ابنائها. إزالة تهميشها وحرمانها المسؤولة عنه الدولة قطعًا وساستها الذين لم يخرجوها من كونها جمهورية طرابلس وليس مدينة طرابلس اللبنانية. أما اخصام ساستها، فقد إستغلوا كل خطوة وخطأ، للنيل من المدينة وإستهدافها وشيطنتها وتدعيشها: من سمح بنمو دولة المطلوبين في أسواق المدينة المملوكية عام ١٩٧٤؟ من منع تشغيل مرفئها ومعرضها وأحرق مصفاتها؟ من أسمى طرابلس قندهار عام٢٠٠٠؟ من أدخل كوكتيلاً من المطلوبين من كل أنحاء العالم إلى مخيم البارد عام ٢٠٠٧ لإعلان إمارة أُسّها في طرابلس؟ من جاء طرابلس عنوة وزرع فيها أزلامه في أكثر من مرحلة وعهد؟ من عطّل كل إحتمال لإطلاق قطاع منتج فيها؟ من سلخها عن الدولة رويدًا رويدًا؟
ليست طرابلس من كدّست أبناء الأرياف في أحيائها العشوائية، بل عدم إكتراث الدولة هو الذي دفع أبناء الريف إلى مغادرة أريافهم، فتحولت “حارات الأهل” مسكنًا للوافدين الجدد وانتقل متوسطو أو ميسورو الحال إلى المناطق المستحدثة. طرابلس عنوان الظلم في جمهورية سعى قادتها لإختلاق أعداء من أبناء وطنهم سمحوا لأي كان أن يتدخل ويستعمل العاصمة الثانية صندوق بريد على ظهر أبناء طرابلس والمدن والقرى الأخرى.
لم تعد طرابلس بحاجة إلى خطاب سياسي مجلجل ولا لمتابعة تفاصيل تافهة حول تأليف حكومة ترضي رئيسًا للجمهورية قويًا ومبتعدًا عن معاناة الناس الحقيقية، وحكومة مستقيلة عاجزة منذ التأليف، ورئيس حكومة مكلف عنيد ومكابر. كل حل لا يبدأ من معالجة الأزمة الإقتصادية الإجتماعية لا يعوّل عليه
نال قادة الأحزاب في لبنان تمويلًا واسعًا من الخارج، وعلى ظهر المدينة فرضوا أتاوات على الداخل تضمن إستمرارهم.
على ظهر أبناء طرابلس، شدّ قادة الطوائف وأصحاب المزارع عصب طوائفهم ومناطقهم، على الرغم من أن الأضرار التي الحقتها إنتفاضات طرابلس باهل المدينة أنفسهم كانت أكبر بما لا يقاس من أثرها على الآخر. ليست سياسة التباكي والبكاء ما ينفع الآن ولا سياسة العزل والإنعزال وليست سياسة مواجهة التافه بتفاهة والسفيه بسفاهة.
لم تعد طرابلس بحاجة إلى خطاب سياسي مجلجل ولا لمتابعة تفاصيل تافهة حول تأليف حكومة ترضي رئيسًا للجمهورية قويًا ومبتعدًا عن معاناة الناس الحقيقية، وحكومة مستقيلة عاجزة منذ التأليف، ورئيس حكومة مكلف عنيد ومكابر. كل حل لا يبدأ من معالجة الأزمة الإقتصادية الإجتماعية لا يعوّل عليه. وكفى لوماً للناس الذين فقدوا أموالهم وأرزاقهم ومداخيلهم وقدرتهم على شراء حفاضات وحليب أطفال. كيف لا يخرج هؤلاء لفعل ما يستطيعون فعله والنيل مما تطاله أيديهم. ليس على الجائع حرج. ولوكان الفقر رجلًا لقتله عليًّا بسيفه.
أول الغيث يكون بتبني الدولة القادمة من ثورة الناس لسياسة إنماء متوازن: ليس كل مشروع لطرابلس يجب أن يكون مرفقًا بمثيل له في سلعاتا أو بعقلين أو النبطية. فطرابلس مدينة تحتضن أكثر من نصف مليون مواطن لبناني تنقصهم شبكة أمان إجتماعية.
الحل يكون بإقرار حق المواطن المقيم في طرابلس بالحصول على مستحقاته من دولة خذلته منذ تأسيس لبنان الكبير. التعليم مسألة أساسية، كما خلق مشاريع وطنية تؤمن وظيفة جدية للمدينة وفرص عمل إنتاجية من طرابلس لكل لبنان من خلال تأمين محفزات تجذب المستثمرين لإقامة مشاريع في المدينة ومحيطها.
إن إنتماء المدينة للدولة سبيل أوحد لنهوض البلاد كلها.
وإلى أن تنجلي المعركة السياسية الكبرى حول مستقبل لبنان، لن يحمي المدينة إلا تمسك أبنائها بهذاالإنتماء وإقامة أكبر تحالف وطني لإعادتها إلى الوطن وإلا سلام على لبنان الذي حلمنا به وأردناه ولا نزال نريده حتى ينقطع النفس.
هناك مثل شعبي في طرابلس يقول:”رغيف ما تقسْم، ومقسوم ما تاكل، وكُلْ لتشبع”. كيف نأكل والرغيف غير متوفر وإذا توفر فقسمته ممنوعة علينا وكسرته تقف في حلق من يجب أن يقدمها للمدينة وأهلها. فليقتسم الرغيف كل جائع ولتعطِ الدولة كل الأسباب لإنتاج “الخبز” كي يشعر المواطنون لمرة واحدة أن دولتهم راع صالح. وليعلم الجميع ألا قيامة للبنان إذا لم تنهض عاصمته الثانية.
إستنهاض طرابلس هو دور وطني مؤسساتي وإجماعي وليس دورًا محليًا أو مناطقيًا أو مذهبيًا أو فرديًا في كل الأحوال.