لبنان وسوريا.. وكيفية مواجهة “سايكس بيكو الحقيقي”

يعيش لبنان مجموعة تحولات بنيوية، إن لجهة إعادة تكوين السلطة فيه، أم لجهة التطورات المتسارعة في الإقليم، والتي سيكون لها تداعيات في المرحلة المقبلة، وستؤثر من دون أدنى شك على الوضع الداخلي وكيفية إدارة البلد وتحديد مراكز القوى فيه، أو شكل العلاقة بين مكوناته من جهة وبنية النظام ربطاً بوظيفة لبنان المقبلة من جهة أخرى.

ثمة دعوة إلى الإلتحاق، بما تعتبره واشنطن مسار السلام في المنطقة، وهذا الأمر سيفرض تحديات كبيرة على الساحة اللبنانية، وستكون له انعكاسات على مختلف الأوجه والصُعد، وتحديداً على الجانب الرسمي المُمسك بمفاصل ومواقع السلطة، لأنه سيجد نفسه أمام معادلةٍ صعبة: إمّا التصادم مع التوجهات الأميركية؛ التي تتوافق مع توجهات العديد من الجهات الإقليمية الفاعلة؛ أو الذهاب إلى صدام مع مكوّنات محلية ترفض أن يتم التعامل معها بصفتها “مهزومة”. يُضاف إلى ذلك بداية إرهاصات لسجالات سياسية وطائفية ومذهبية، وعلى لسان مرجعيات عديدة – سياسية ودينية – ربطاً بالانتخابات النيابية المقبلة، وبما يؤشر إلى عملية شدّ حبال بين المكونات المشاركة في الحكومة، والتي لن تستوي على صراط قويم ولن تصمد أمام تحدياّت مصالح داعميها – الإقليمين وغير الإقليميين – فيما لو تطور المشهد وتفاقم.

***

يصرُّ رئيس الجمهورية، العماد جوزاف عون، على الحوار مدخلاً لحلّ العديد من القضايا، إن على صعيد السلطة أو مقاربة القضايا الخلافية مع الأفرقاء الداخليين- مثل الصلاحيات وموضوع السلاح- تحسباً لإنجرار البلاد إلى صدامٍ داخلي في حال الذهاب إلى إجراءات حاسمة لا تأخذ بالاعتبار الوقائع الداخلية والخارجية على حد سواء. لا ينتهي الأمر عند هذه الملفات. مثلاً هناك قضية الصراع مع العدو الصهيوني التي كان يُنظر إليها، على مدى العقود الماضية، بوصفها قضية تتجاوز الساحة المحلية، وبالتالي أية مقاربة غير منفصلة عما يجري من وقائع دامية من حولنا: حرب غزة، الحرب على ايران، الوضع السوري وتطوراته بعد سقوط نظام بشار الأسد، والقلق المستمر من طبيعة السلطة الجديدة في دمشق. وإذا ما أضفنا استمرار الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع لبنان في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، فلن يكون من المتوقع أن يبادر أي أحد في لبنان، في ظل كل ذلك، إلى خطوات عملية لا تتضمن الحصول على ضمانات معينة. والولايات المتحدة هي الجهة الوحيدة القادرة، حتى الآن، على تأمين مثل هذه الضمانات، وعلى ما يبدو فإنها لم ولن تلجأ إلى تقديمها.

ما يريده الأميركي والإسرائيلي

ما يريده الأميركي من لبنان، ويسعى إليه بكل السبل والضغوطات، هو الإجهاز على “المقاومة”، وبهذا المعنى يلبي المطلب الاسرائيلي ويتقاطع مع مطالب دول عربية وبعض الداخل الذي يعبّر عن موقفه هذا بكل صراحة. بالنسبة للإسرائيلي، فإن المشكلة في لبنان لا تتعلق فقط بالبُعد الميداني – العسكري، لأن فكرة التخلص من “المقاومة” كفكرة أو نهج أو ممارسة غير ممكنة. مشكلة الإسرائيلي في عدم تحقيق “مشروع سياسي داخلي” ينقل لبنان من مكان إلى آخر، كما حصل في العام 1982.

على هذا الأساس، جاءت الاندفاعة الأميركية باتجاه الداخل اللبناني، وبدأت الزيارات المتكررة للموفدين، والتي ركّزت على مجموعة عناوين: تثبيت الحدود مع الكيان المحتل، العلاقة مع سوريا وترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، إدخال سياسيين إلى لجان التفاوض بين لبنان والعدو، والتي بمضمونها لن تُفضي إلّا لانطلاق مسار التطبيع مع العدو الصهيوني. وعليه، فإن استمرار الضغط الأميركي؛ إن بالتهديد أم بالتلويح بالعقوبات أو بفرض حصار؛ ليس له أهداف سوى ما هو متعلق بمصلحة الكيان لجهة تثبيت التهدئة الهشّة القائمة على طول الحدود الجنوبية وفتح قنوات جديدة للتفاوض. وهذا ما تمّ تبادله بالأوراق بين لبنان والولايات المتحدة (ضمناً إسرائيل)، وكان مدار بحث لبناني مع الموفدين الأميركيين إلى لبنان، حيث تمّ التأكيد على أنّ الرد اللبناني يمثل الحدّ الأقصى الممكن واقعياً ما يسمح بتخفيف التصعيد تدريجياً. وإذا رأت واشنطن أنّ الرد اللبناني غير كافٍ تستمر بالضغط (سياسياً وإعلامياً)، وتعود للتلويح بحجب أو خفض الدعم الدولي، وفرض عقوبات على قوى وشخصيات سياسية لبنانية، وتترك العدو يفعل ما يشاء.

كذلك سيلجأ العدو إلى التصعيد الميداني في حال استشعر بأنّ لبنان غير منفتح على تعديل موازين القوى، ولن يتوقف العدو عن محاولة إعادة فرض شروطه بالقوة قبل أيّ نقاش، حتى لو اضطر إلى فتح حربٍ جديدة.

الأميركي يريد الإجهاز على “المقاومة” في لبنان.. والإسرائيلي يسعى لتحقيق “مشروع سياسي داخلي” ينقل لبنان من مكان إلى آخر، كما حصل في العام 1982

في الوقت نفسه، يبدو حزب الله مستعداً للتفاعل مع المقترحات أو مشاريعها، لكن ضمن معادلاته هو لا ضمن شروط خارجية، ما يجعل المرحلة المقبلة تتجه نحو احتمالين: إمّا الدخول في مرحلة تدوير الزوايا وصياغة حلول وسط، وإمّا تصعيد جديد يُخشى أن يتحول إلى تفاوض بالنار.

ومن نافل القول أن الإدارة الأميركية لا تهتم بالدبلوماسية إلّا بقدر ما تخدم مشروعها، وهذا ما يُجَاهر به علناً من دون الحاجة إلى واجهات أو منصات محلية. فالأميركي ينطلق من ثابتة “مصلحة العدو” ويقارب على أساسها كل الملفات، بما في ذلك ملف السلاح. في الوقت نفسه، لا يُعطي الأميركي أي ضمانات، ولا يستطيع إرغام العدو الاسرائيلي على شيء، ما يُبقي التطبيع “بوابة الخلاص” المتبقية والمُتاحة. وهذا ما صرّح به علانية الموفد الأميركي، مارك برّاك، بأن الولايات المتحدة لا تستطيع (أو لا تريد) أن تفرض على إسرائيل أي شيء. كما لا يمكنها منعها من فعل أي شيء.

شبح التقسيم يلفُّ سوريا

تعيش الساحة السورية مخاض إعادة تكوين السلطة في ظل انفتاح غربي وأميركي وخليجي على النظام القائم في دمشق، يترافق مع وعود بالدعم المالي. هذه الوعود مرتبطة بإخراج سوريا من دائرة الصراع والتناقض الرئيسي مع عدو يحتل أجزاء واسعة من الجنوب السوري، وذلك تمهيداً لانخراط “سوريا الجديدة” في مسار الاتفاقات الأبراهيمية التطبيعي..

إقرأ على موقع 180  سوليفان وبلينكن... ثنائي "الاستعادة" الأميركية

غير أن ذلك دونه تحديات داخلية، فالنظام السوري لم يستقر بعد، لأسباب عديدة، أهمها صعوبة قيام نظام دولة بالمعنى العلمي للمصطلح، نتيجة توزع الولاءات في الحكم الجديد بتعدد الدول الحاضنة للمجموعات المسلحة واختلافاتها العقائدية ومرجعياتها، إن بالمنطلقات أو بطبيعة تكويناتها الفقهية والدينية. فالأحداث في الساحل السوري ومن ثم تفجير كنيسة “مار الياس” في دمشق، كانا نذير توترات دينية وعرقية ما يجعل شبح التقسيم قائماً وموجوداً. وموضوع الأكراد وتوقيع الاتفاقات لا يلغي المطلب الدائم بإقامة كيانات مستقلة جهوية أو مذهبية أو أقله نظام فدرالي أو حكم ذاتي.

معنى ذلك أن سوريا تمر اليوم بمرحلة انتقالية. فالرئيس أحمد الشرع لديه عشرات آلاف المقاتلين لكنه لا يستطيع السيطرة على الأرض ولا على الجغرافيا لأسباب عديدة، منها وجود حيثيات محلية (درعا، السويداء، الساحل، مناطق قسد..)، بالإضافة إلى صراعات داخل الجماعات المنضوية اليوم في الحكم سببها تعدّد الولاءات الخارجية، فمنها من يرفض التنازل عن المنطلقات الفقهية، ومنها من يتعامل ببراغماتية استثنائية ومنها ما هو متردد حتى الآن. عليه، تصبح مقاربة الشأن السوري إشكالية بحدّ ذاتها يصعب التعامل معها، لأن الوضع الداخلي مشتت ومتناقض ربطاً بالطبيعة التكوينية الطائفية منها والدينية. يُضاف إليها سوء الوضع الاقتصادي والخدماتي والبنية التحتية، ما يجعل المشاكل الموجودة فوق طاقة النظام الحاكم وقدرته. ومن جهة أخرى، فإن العدو الاسرائيلي، المستعجل لتحصيل أعلى المكاسب خلال هذه الفرصة المتاحة، يسعى بدوره إلى تقسيم سوريا. وبهذه النقطة هو يتناقض مع الأميركي ويختلف معه. كذلك يريد الإسرائيلي المزيد من الاطمئنان على حدوده: فمن جهة لبنان يحاول فرض أمر واقع على حدوده الشمالية، وسوريا المقسّمة ستكون مريحة بالنسبة له.

تتكامل تلك العوامل مع مصالح دول أخرى وتتقاطع معها. فسوريا اليوم تمثل مسرحاً كبيراً، إن بالموقع أو الدور أو الوظيفة لعديد من الدول الطامحة بلعب أدوار في التطورات الجارية: للتركي مصلحة في التقسيم، فهذا سيتيح له ضمّ مناطق جديدة في الشمال السوري كما ضم لواء الإسكندرون سابقاً. والروسي لا يمانع من أي تغيير في الجغرافيا، شرط بقاء قواعده العسكرية على المتوسط. وكذلك الإيراني. أمّا الأميركي، فينحو دوماً صوب مصالح العدو ويعمل على تأمينها، وهذا يتطلب منه الحفاظ على قواعده الموجودة في الشمال والجنوب الشرقي من سوريا. الأوروبيون بدورهم لا تهمهم الجغرافيا إلّا من جانب منع تدفق اللاجئين إلى دولهم. وعليه نجد أن لا حل سريعاً للوضع السوري. وثمة احتمال كبير بأن يواجه الشرع صعوبات وضغوط قد تؤدي إلى رحيله، وبتوافر تقاطع مصالح دولية وإقليمية، لأنه في أي اتفاق خارجي سيكون هو الحلقة الأضعف.

ما نعيشه اليوم هو فعلياً “مشروع سايكس بيكو الحقيقي” برعاية وقيادة العدو الصهيوني الذي يسعى لتوفير “بوليصة تأمين” طويلة الأمد لوجوده في المنطقة

إن ما جرى ويجري اليوم في الجنوب السوري له أهداف متعددة. فهدف إسرائيل ليس حماية الدروز بل السيطرة على كل منطقة الجنوب، لتأمين ما تعتبره مصالحها الأمنيّة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أطماع تاريخية معروفة. وهذا ما تُعبّر عنه تل أبيب بشكل دائم وواضح وفي أكثر من مناسبة. لذلك تحجّجت بما يجري من اقتتال؛ هي شجّعته؛ للدخول مباشرة إلى الحقل السوري بهدف بعثرته. فالمخطط الإسرائيلي لم يخرج عن إطار تقسيم المنطقة​ إلى كانتونات طائفية وعرقية، تكون تل أبيب هي المسيطرة عليها. وبذلك نرى أن ما يجري في سوريا ربما سينطبق على لبنان، برغم أن الأميركي ليس لديه رغبة ولا مصلحة في زعزعة الاستقرار في لبنان ربطاً بأمن العدو الاسرائيلي. وهذا ما يعمل عليه بتحويل الزخم السياسي والعسكري الأميركي – الصهيوني المحقق حالياً إلى انجاز سياسي طويل الأمد، تكون ساحاته: فلسطين وسوريا ولبنان، وضمناً دول عربية في محاولة لإعادة تكوين عميقة للعلاقات القائمة في المنطقة وطبيعتها. وهذا هو منطق تحويل الأزمات إلى فرص جدّية تخدم المشروع الأميركي في المنطقة.

سايكس بيكو “الحقيقي”

الاعتداءات وعمليات القتل مستمرة في غزة وبعض مناطق الضفة الغربية. وخطة تصفية القضية الفلسطينية تمضي بخطى ثابتة. والمقاومة مستمرة وبقوة. التجويع أصبح السلاح الأمضى بحق أطفال غزة وسط صمت لا بل تواطؤ عربي ودولي. فلسطين أصبحت القضية المنسية. يسعى العدو الصهيوني  لتوفير “بوليصة تأمين” طويلة الأمد لوجوده في المنطقة، وذلك من خلال: ايران، منزوعة السلاح النووي، لا أدوار أبعد من حدودها. سوريا، خارج حلبة الصراع (وهذا تمّ). المقاومة في لبنان معطّلة ومحاصرة، وفي فلسطين مدمّرة. ما نعيشه اليوم هو فعلياً “مشروع سايكس بيكو الحقيقي”، الذي أوصى بتوزيع المنطقة إلى اقطاعات مذهبية وطائفية وعرقية على شكل دول وإمارات وممالك.. تعثر التطبيق في عدة أماكن، حاولت حركات التحرر الوطني خوض استحقاقات كسر الهيمنة والتخلص من التبعية، نجحت جزئياً وأخفقت كثيراً.. وها هو التاريخ يعيد نفسه بعد مئة عام برعاية وقيادة دولة الإرهاب والعنصرية.. فهل سينجح؟

(يتبع: المواجهة المطلوبة…)

 

 

Print Friendly, PDF & Email
حسن خليل

أكاديمي وكاتب سياسي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  تداعيات غزة.. إعادة إحياء القضية الفلسطينية