إنتهى الطلاق بين لندن والإتحاد الأوروبي بإتفاق على إنفصال ودي، ومع ذلك، فإن ما جرى كان عملية إقتلاع صعبة ومكلفة تتقطع بنتيجتها جسور تواصل وقرابة، وتندثر تربة خصبة جامعة بين البر والجزيرة. أما الفاتورة التي قد تترتب على الإنفصال، فلن تصيب المملكة المتحدة بل القارة القديمة كلها، ذلك أن التجمع الذي أصابه الإنفصال هو حوض سياسي وإقتصادي ضخم يتجاوز عدد سكانه النصف مليار نسمة ويضطلع بدور محوري في دورة الحياة العالمية.
وعلى المقلب الآخر من القارة، بلغ التوتر أقصاه بين عدد من دول الإتحاد الأوروبي ولا سيما فرنسا واليونان وبين الجار الشرقي، تركيا التي تشغل نحو 23 الف كيلومتر من ارض القارة، ما اضفى المزيد من المصاعب أمام الرغبة التركية في دخول “جنة العضوية الأوروبية”، وبقي حب أنقرة الجامح لبروكسيل عشقاً ممنوعاً.. ومن طرف واحد!
لندن خرجت من الإتحاد، وأنقرة عجزت عن دخوله، الأولى، رأت أنه يحد من طموحها وحريتها ويسلبها مالها وسيادتها؛ الثانية، وجدت نفسها “شحاذاً” منبوذاً على أبواب أوروبا، فالتقت هذه الدولة وتلك، ولو من موقعين مختلفين، على ما يمكن تسميتها “العقدة الأوروبية”، فسعت كل واحدة منهما إلى البحث عن مصالحها خارج وصاية بروكسيل، وتعزيز موقعها من دون الحاجة إلى الوجود داخل المؤسسات الأوروبية، لا بل دفعت هذه العقدة والعلاقة الحائرة والمرتبكة مع الإتحاد، إلى تقارب بريطاني ـ تركي بحثاً عن مشتركات وذلك “نكاية بالنادي الأوروبي” وإنطلاقاً من مبدأ “عدو عدوي.. صديقي” وتأمينا لمصالح خاصة كانت مُحرمة على هذين البلدين في زمن إنضمام بريطانيا إلى العائلة الأوروبية وما يتطلبه ذلك من ضرورات عدم المس بالمزاج الأوروبي العام.
يرى بعض الخبراء أن تحسن العلاقات بين البلدين أسبابه عديدة ويتداخل فيها السياسي بالتجاري والأمني، وبالأخص أن بريطانيا تريد أن تفتح آفاق تعاون تعوّض إنفصالها عن الإتحاد الأوروبي، بينما تريد تركيا إيجاد بدائل محتملة لتراجع مكانتها السياسية والاقتصادية في أوروبا، لذا كانت تركيا أول وجهة لبريطانيا بعد خروجها من الإتحاد. وتملثت ذروة هذا الالتقاء بتوقيع البلدين إتفاق التجارة الحرة بينهما يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 2020، أي قبل أسبوع من خروج بريطانيا رسمياً من النادي الأوروبي، بموجب إتفاق البريكست.
لم يأتِ توقيع الإتفاق التجاري من الفراغ. بريطانيا كانت دوماً تدافع عن موقف تركيا في عز خلاف الأخيرة مع الإتحاد الأوروبي، ولم يسبق أن سجلت لندن رفضها دخول تركيا الإتحاد، على عكس دول أوروبية أخرى. كذلك كانت بريطانيا أول دولة أوروبية تعلن إدانتها للمحاولة الإنقلابية الفاشلة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عام 2016 وإعتبرتها إنقلابا على الشرعية. وهذا الموقف البريطاني، ساهم في توثيق التعاون مع تركيا، ولم يتم تسجيل أي مواجهة دبلوماسية بين البلدين منذ تلك الأزمة، برغم مطبات كثيرة هزت العلاقات الأوروبية التركية. كما أن التوقيع على الإتفاقية يعني أن الطرفين استطاعا أن يتجاوزا الخلافات السياسية مع كل من الإتحاد الأوروبي وأميركا، وتحديداً تلك الناجمة عن شراء تركيا المنظومة الدفاعية الروسية (إس 400)، وكذلك سياستها تجاه اليونان في شرق المتوسط، وإصرار أنقرة على أن تحافظ على حقوقها في حقول الغاز هناك.
لم يأتِ توقيع الإتفاق التجاري من الفراغ. بريطانيا كانت دوماً تدافع عن موقف تركيا في عز خلاف الأخيرة مع الإتحاد الأوروبي، ولم يسبق أن سجلت لندن رفضها دخول تركيا الإتحاد، على عكس دول أوروبية أخرى. كذلك كانت بريطانيا أول دولة أوروبية تعلن إدانتها للمحاولة الإنقلابية الفاشلة على أردوغان
وفور توقيع إتفاقية التجارة الحرة البريطانية التركية، إنتشرت أرقام حول قيمة التجارة السلعية بين البلدين، وهي تصل إلى نحو 25 مليار دولار عام 2019، بينما يقول معهد الإحصاء التركي إن حجم التبادل التجاري بحدود 16.2 مليار دولار، منها 10.8 مليارات دولار، صادرات سلعية تركية لبريطانيا، ونحو 5.4 مليارات دولار، واردات سلعية لتركيا من بريطانيا.. وبذلك يكون الميزان التجاري لصالح تركيا بتحقيق فائض تجاري بنحو 5 مليارات دولار. وفي المقابل، لن تكون لندن في موقف المتفرج في هذه الإتفاقية، فهي تنظر إلى السوق التركي باعتباره واحدًا من أكبر الأسواق في منطقة الشرق الأوسط، نظرًا لكبر عدد السكان، الذي يزيد عن 83 مليون نسمة. كما يعطي دلالة لقدرة بريطانيا على إستعادة الأسواق التي كانت توفرها لها عضويتها بالإتحاد الأوروبي، وهي بذلك تبرهن على أنها يمكنها تجاوز العقبات التي يتصورها البعض، نتيجة خروجها من الإتحاد الأوروبي، من خلال العمل وفق نفس الأدوات؛ التجارة الحرة، والإنفتاح على الأسواق والإقتصاديات الخارجية.
وقد تسمح الإتفاقية بزيادة الإستثمارات البريطانية في تركيا التي تملك مزايا أخرى، ومنها رخص اليد العاملة. وتعمل في تركيا 2500 شركة بريطانية في مجالات مختلفة أهمها الطاقة والإتصالات والقطاع المالي وبحجم إسثمارات يصل إلى عشرة مليارات دولار.
واذا كان الإتفاق له طابع إقتصادي بشكل أكبر، إلا أن جوانبه السياسية لا تخفى على أحد.. ففي الوقت الذي يحاول البعض حشد الدول الأوروبية ضد تركيا بسبب سياستها في ليبيا ومنطقة شرق المتوسط، نجد أن تركيا نجحت في إيجاد مصالح مشتركة، مع بريطانيا إحدى الدول الخمس الكبرى. وتالياً فإن الإتفاق يعكس الإلتقاء الموضوعي بين أنقرة ولندن في نسج علاقات متشابكة مع الإتحاد الأوروبي، أو ما يمكن تسميته بـ”الخندق الواحد” أمام أوروبا.
ونظرًا إلى الأهمية الجيوستراتيجية لتركيا لقربها من أوروبا وشرق المتوسط وبلاد الشام والشرق الأوسط، فإن بريطانيا قد تتطلع إلى إستخدام هذا الموقع للحفاظ على نفوذها الإقليمي والإنطلاق منه نحو آسيا الساحة العالمية الكبرى والواعدة، في العقود المقبلة.
من المستفيد ومن المتضرر من هذا التقارب؟
لا شك في ان حكومة أردوغان التي تواجه مشكلات إقتصادية داخلية، ستجد نفسها المستفيد الاول، اذ ستجد حليفاً سياسياً وإقتصادياً مهماً، إذ انعكس الإتفاق ايجابا على سعر صرف الليرة التركية، وكذلك في البورصات. الامر نفسه ينطبق على حكومة بوريس جونسون التي فاقمت جائحة كورونا مشكلاتها الاقتصادية، فضلاً عن ارتدادات الطلاق مع أوروبا سلباً على الناتج العام لبريطانيا، مع التذكير بأن جونسون غالباً ما يتباهى بأن جده الأكبر لأبيه، علي كمال، كان وزيراً سابقاً للداخلية في زمن السلطنة العثمانية!.
ويراهن الطرفان على رفع حجم المبادلات التجارية بينهما والقفز فوق حاجز 20 مليار جنيه إسترليني، على أن تتم مضاعفة الرقم خلال السنوات الخمس المقبلة. ويعمل الطرفان على تحصين هذا التعاون بالانطلاق نحو مجالات أخرى أكثر حساسية، خصوصاً في القطاع العسكري، حيث عقدت تركيا وبريطانيا قبل ثلاث سنوات صفقة دفاعية بقيمة 120 مليون دولار، للمساهمة في برنامج تطوير طائرات حربية تركية (أبرم الإتفاق بين شركتي “بي إيه إي سيستمز” البريطانية و”توركيش آيروسبيس إندستريس” التركية).
وتعوّل بريطانيا على هذه الصفقة من أجل الترويج لصناعتها الدفاعية، كما تتوقع تركيا أن تساعدها في تطوير قدرات سلاحها الجوي، في إطار سعي الجيش التركي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في تصنيع المعدات الحربية ولا سيما الدرونات. ومعلوم انه بعدما فرضت كندا حظراً على تصدير أجزاء من قطع تصنيع الطائرات بدون طيار التركية “البيرقدار” بسبب استخدام أذربيجان لها ضد أرمينيا في حرب القوقاز، حلّت شركة بريطانية محل الكندية في توفير هذه الأجزاء.
أنقرة ولندن تنفخان خدودهما ليس إلا، ذلك أن الزمن تغير والعالم تغير، فتركيا لم تعد السلطنة العثمانية، وبريطانيا لم تعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والتاريخ لن يعود إلى الوراء.. ولن تعود دولتا بريطانيا وتركيا إلى ما كانتا عليه قبل عقود من الزمن
أما المتضرر الأكبر من هذا التقارب فهو حتماً، الإتحاد الأوروبي، ذلك أن التوصل إلى صفقة تبادل حر مع دولة من حجم بريطانيا سيؤدي إلى إضعاف الموقف الأوروبي في التعامل مع تركيا، لا سيما وأن الحوار بين الطرفين تجدّد من أجل التوصل إلى إتفاق مقبول بين بروكسيل وأنقرة. وإذا كانت بعض دول الإتحاد مثل أسوج وبلغاريا تسعى إلى انضمام تركيا إلى الإتحاد كبديل وازن يعوّض خسارة بريطانيا، فإن مثل هذه الدعوة قد تفاقم الخلاف بين الأوروبيين ما بين مؤيد ورافض. ولا شك أن فرنسا واليونان الجار اللدود لتركيا هما في طليعة الرافضين. وأكثر ما يقلق اليونانيين ليس الإقتصاد، ولكن توسيع التعاون التركي البريطاني في المجالات السياسية والإستراتيجية والعسكرية والتقنية. وتخشى أثينا خصوصاً من تقارير أمنية تفيد أن القوات البريطانية ستتمركز في ميناء ميكولايف الأوكراني على البحر الأسود، الأمر الذي يثير مخاوف يونانية من تحالف تركي بريطاني أوكراني في البحر الأسود ضد روسيا ويضر بأثينا. وقال وزير الخارجية الأوكراني ديميترو كوليبا لإذاعة “بي بي سي” إنه إذا هبطت القوات البريطانية هناك وبقيت “فلن نمانع أيضاً”.
ولعل السبب الآخر لغضب اليونان هو إعتماد لندن لهجة معتدلة، في الأزمة الأخيرة في شرق البحر المتوسط بين تركيا واليونان، وحفاظها على مسافة من هذا الصراع على عكس الدول الأوروبية الأخرى.
كذلك بدت روسيا غاضبة من النشاط البريطاني-التركي المشترك مع أوكرانيا، وعبّرت عن ذلك الكاتبة والصحافية الروسية كسينيا لوجينوفا في مقال لها نشرته صحيفة “إزفيستيا”، وقالت فيه: “قررت بريطانيا وتركيا إنشاء تحالف غير رسمي مع أوكرانيا، يهدف لمنع روسيا من تحقيق مكاسب في البحر الأسود” وحتى “لا يتحول بحيرة روسية”. واشارت إلى أن لندن ستمول مشاريع “إعادة دمج” القرم في أوكرانيا. وقد إنضمت أنقرة إلى “منصة القرم”، وهي عبارة عن إتحاد دولي من شأنه أن يساعد كييف على إعادة شبه الجزيرة التي لم تعترف أنقرة بضم روسيا لها. ولفتت إلى الاهتمام الخاص بالعمل مع تتار القرم المرتبطين بأواصر تاريخية مع الأتراك، من أجل تشجيع نشاطهم السياسي والدفاع عن حقوق الإنسان في تلك المنطقة.
ويبدو أن بريطانيا بعد خروجها من الإتحاد الأوروبي سترفع سقف موقفها مع روسيا، خاصة أن بريطانيا، كدولة غير قطبية، تحاول شق طريقها إلى الجغرافيا السياسية في القطب الشمالي من خلال محاولة تقويض الهيمنة الروسية على تلك المنطقة.
وفي السابق، كان يعتبر خروج بريطانيا الخصم الألد لروسيا، من الإتحاد الأوروبي، مكسباً مهماً لموسكو التي تعتبر أن الإتحاد الضعيف، سياسياً وعسكرياً، يخدم مصالحها، وقد يكون وسيلتها لإعادة فرض نفوذها في بلدان شرق أوروبا. ولم يكن سراً أن الحكومة الروسية حاولت التأثير على المصير السياسي للعديد من الحكومات في الإتحاد الأوروبي، عن طريق دعمها لأحزاب يمينية متطرفة للفوز في الإنتخابات أو على الأقل حتى يكون لها ثقلها السياسي في ترسيم سياسات تلك الدول.
كما أن موسكو إستفادت من الخلاف الأوروبي التركي ومن الخلاف الأميركي التركي، في محاولة منها لجذب أنقرة نحوها خطوة خطوة، لكن الغرام المستجد بين أنقرة ولندن، لا شك أنه يقض ليالي الكرملين، لا سيما بعد وصول الديموقراطي جو بايدن إلى البيت الابيض وهو الذي يرى في أنقرة حليفاً مهماً وضرورياً في حلف “الناتو”، ولو أن بايدن يمتلك وجهات نظر مختلفة إزاء قضايا داخلية في تركيا فضلاً عن موقفه النافر من المسألة الكردية.
من جهته، يدرك أردوغان أنه لا يستطيع تحمّل كلفة تدهور علاقات بلده مع الولايات المتحدة، وتُعتبر تصريحاته التصالحية مع إسرائيل مؤخراً خطوة باتجاه إصلاح العلاقات مع إدارة بايدن.
وفي هذا السياق، يوضح الأكاديمي التركي عطا أتون، في مقال له على موقع “Haber7” أن بريطانيا تحاول الآن تحويل الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة، الذي استمر على مدى السنوات الماضية إلى فرصة، ساعية للدخول في الوقت ذاته إلى المنطقة. ورأى أن بريطانيا أيضا، وعبر دولة قطر، تسعى جاهدة لخرق الحصار الاقتصادي الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه على تركيا.
ومثلما تحاول بريطانيا الإفادة من تركيا لتحقيق أحلام عفا عليها الزمن، يحاول أردوغان توظيف هذا التقارب خدمة لطموحاته التوسعية في شرق المتوسط والقوقاز وشمال سوريا وشمال أفريقيا ولا سيما في ليبيا حيث خط التماس المباشر الأبرز مع الأوروبيين.
لكن أنقرة ولندن تنفخان خدودهما ليس إلا، ذلك أن الزمن تغير والعالم تغير، فتركيا لم تعد السلطنة العثمانية، وبريطانيا لم تعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والتاريخ لن يعود إلى الوراء.. ولن تعود دولتا بريطانيا وتركيا إلى ما كانتا عليه قبل عقود من الزمن.