عن الإسلام السياسي الذي يُقَطّع شرايين حياة المشرق العربي (1)

دجلة والفرات، أهم شرايين حياة المشرق العربي وهلاله الخصيب، حُجبت نصف مياهما حتى الآن تركيا وإيران، ببناء السدود والأنفاق ومحطات الضخ وتحويل الروافد عنهما.

ورث النظامان “الإسلاميان” لكل من تركيا وإيران سياسة التعطيش هذه من سلفَيهما الجمهوري – العلماني والملكي. مضى حكم “الإخوان المسلمين” في تركيا في المخطّط نفسه الذي بدأ تنفيذه الحكم الأتاتوركي، وبالشراكة الكاملة مع كيان الإحتلال الصهيوني، كما هو مُعلَن؛ ثم أقدم هذا الحكم، وأيضاً بالشراكة الكاملة مع “إسرائيل”، على دعم مشروع “سد النهضة” الإثيوبي، مادياً وفنياً وعسكرياً، وهو الذي يهدّد مصر خاصةً، كما السودان، في شريان حياتهما الأساس، النيل.

وعلى المنوال نفسه، لم تمضِ إيران “الثورة الإسلامية” في السياسة نفسها التي أرساها عهد الشاه فحسب، بل أضافت إليها نوعياً، بمشروعٍ روّجت له بريطانيا لجرّ مياه نهر القارون عبر أنابيب إلى قَطَر والكويت، في تشابهٍ لافت مع مشروع “أنابيب السلام” الأميركي – التركي – “الإسرائيلي”. كل ذلك وحماسة الإسلاميين من العرب، من مريدي الدولتين القوميَّتين باللُبُوس الإسلامي المذهبي – أداة الطموح الإمبراطوري – لا تخفت ولا تهتزّ جرّاء تهديد هاتين الدولتين لأهم أسس الحياة في بلادنا.

دجلة والفرات و”الإخوة في الإسلام”

منذ شهر آب/ أغسطس من العام الماضي (2020)، كانت المياه الواردة من تركيا وإيران، عبر دجلة والفرات خصوصاً، قد انخفضت بنسبة 50% نتيجةً للمشاريع المائية العديدة، من سدودٍ وأنفاق ومحطات ضخ، التي أقامتها تركيا وإيران في أعالي النهرين وعلى روافدهما، وفقاً لوزير الموارد المائية العراقي، مهدي الحمداني[1]. يبلغ إجمالي إستهلاك المياه في العراق نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، بينما تُقَدَّر كمية مياه الأنهار الواردة، في المواسم الجيدة، بنحو 77 مليار متر مكعب، وفي مواسم الجفاف نحو 44 مليار متر مكعب؛ علماً أن نقص مليار متر مكعب واحد من حصة العراق المائية يعني خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من حيز الإنتاج[2].

وفقاً للتوقعات الواردة في دراسة “مؤشر الإجهاد المائي”، فإن ملامح الجفاف الشديد ستكون واضحةً جداً في عموم بلاد الرافدين، “مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحوّل نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود”. وتحذّر الدراسة من أن العراق “سيكون أرضاً بلا أنهار بحلول عام 2040، ولن يصل النهران العظيمان إلى المصب النهائي في الخليج العربي”[3].

غريبٌ كيف لا تجد هذه المسألة الحيوية مكانها الطبيعي في التحليلات “الجيو-استراتيجية” التي تُمطرنا بها يومياً الأقلام والأوجه الإعلامية لـ”المحاور” الإقليمية المتصارعة أو المتنافسة، المتحاربة بالواسطة حيناً، و”المتقاطعة” أو المتفاهمة أحياناً. كيف لمسألة المساس الخطير بأهم مقوّمات حياة المجتمعات والدول أن تحتل مرتبةً أدنى في سُلَّم الأولويات من سائر إستراتيجيات الصراع المترابطة، من عسكرية وطاقوية وتجارية وغيرها؟ كيف يُعمي الإنشغال بـ”أدبيات المحاور” عن الأعمال المادية الممنهجة طويلة الأمد التي يواظب عليها القطبَان “الإسلاميَّان” المذهبيَّان، والتي تنسف مقوّمات بقاء الدول والشعوب التي يراها القطبان “تابعةً”، في تصوّراتهما الإمبراطورية؟

“الرافدان” والإحتلال الأوروبي

إثر إنهيار الإمبراطورية العثمانية، قسّم الإحتلال الفرنسي-البريطاني أراضي المشرق العربي، التي غنمها من “الرجل المريض” و”الثورة العربية” المخدوعة، وأقام على أشلاء البلاد دولاً “أهدى” بعض أراضيها للدولة التركية الناشئة. بذلك، “ضُمّ أكثر من 40 ألف كيلومتر مربع إلى تركيا من الأراضي السورية، ومنها حوض نهر الفرات”.[4] فبموجب معاهدة “سيفر” (1920) بين “الحلفاء” الغربيين وتركيا:

“إحتفظت تركيا بأراضٍ عربية هي: حوض نهرَي سيحان وجيحان (كيليكيا) ومنحدرات المياه على سفوح طوروس الجنوبية (بلاد مرعش وديار بكر). ثم عقدت الحكومة التركية مع فرنسا، بصفتها الدولة المنتدبة على سورية، اتفاقية أنقرة (1920) تخلّت فيها فرنسا لتركيا عن أراضٍ جديدة شملت عينتاب، كّلس، أورفه، ماردين، جزيرة ابن عمرو. وفي عام (1939) غنمت تركيا لواء إسكندرون بالاتفاق مع فرنسا. وتشكّل منطقة الاسكندرونة حوضًا مائيًا مهمًا، تتوسطه بحيرة العمق، وتنتهي إليه ثلاثة أنهار هي: عفرين، الأسود، العاصي. وهكذا سيطرت تركيا على أعالي دجلة والفرات، وعلى مجمل حوضي سيحان وجيحان فضلاً عن أنهار قويق، الذهب، الساجور، بليخ، الخابور (والثلاثة الأخيرة هي من روافد الفرات في سورية)”.[5]

المُحتلّون الأوروبيون أعطوا تركيا الحديثة “هدية” خطيرة، تضمن أن تأخذ العلاقات العربية المشرقية-التركية منحىً صراعياً خطيراً متمادياً في الزمن، بأن تسيطر الأخيرة على منابع وبعض روافد دجلة والفرات، أهم شرايين حياة الهلال الخصيب.

الدور الأميركي-“الإسرائيلي” في المشاريع المائية التركية

مشروعَا “جنوب شرق الأناضول” أو الـ”غاب” (GAP) و”أنابيب السلام” هما محور المشاريع المائية التركية-“الإسرائيلية” للتحكّم في مياه المشرق. العناصر الرئيسية لمشروع الـ”غاب” هي نحو 22 سدّاً و19 محطة طاقة كهرومائية، ومناطق زراعية وصناعية (تتملّك “إسرائيل” فيها أراضٍ وتستثمر فيها، إلى جانب “دولة قطر”)، وقنواتٍ وأنفاق ومحطّات ضخ لتحويل المياه إلى الداخل التركي، بعيداً عن حوضَي دجلة والفرات. أنشأت تركيا بدايةً سدّ “كيبان” على نهر الفرات عام 1974، ثم سدّ “قرقايا” عام 1986، فـ”سد أتاتورك” الضخم عام 1990؛

“وفي عام 1994 “أكملت تركيا المرحلة الأولى من مشروع لأطول نفق إروائي من نوعه في العالم، نفق أورفة، الذي يأخذ المياه من خزّان سدّ أتاتورك إلى مسافة بعيدة لإرواء أراضٍ تقع خارج نطاق حوض الفرات.. (ثم بَنَت) سدّ “بيره جك” وسدّ “قرقاميش”، حيث سيتاح لتركيا بعد اكتمال هذين السدّين التحكّم شبه المطلق بمياه النهر. أمّا على نهر دجلة فقد أنجزت تركيا في عام 1997 سدَّي “كيرال كيزي” و”دجلة” على روافد النهر”.[6]

وقد لا يكون آخر سد تنشئه تركيا في إطار مشروع الـ”غاب” هو سدّ “إليسو” الضخم، على المجرى الرئيس لنهر دجلة (أُعلن عن إنطلاق المشروع عام 1997 وبدأ تشغيل السد في أيار/ مايو 2020) ونتائجه المباشرة تتلخّص بـ”تشريد نحو 80 ألف شخص من 199 قرية”، فضلاً عن “خطورة السد على الزراعة العراقية، وكذلك التسبب بالعطش لملايين السكان”[7]. وعموماً، فإن تلويث المنشآت الصناعية والزراعية في أعالي الرافدين للمياه الواردة إلى سوريا والعراق يهدّد حياة الملايين، حيث كان “أكثر من 24 ألفاً” من سكّان البصرة قد أصيبوا بالتسمّم، عام 2018، عبر المياه الآتية من سد “إليسو”، لتكتظّ بهم المستشفيات والمستوصفات[8]؛ وذلك على سبيل المثال فقط.

أما “مشروع أنابيب السلام”، الذي “قُدِّمت فكرته للمرة الأولى في شباط/فبراير 1987، أثناء زيارة تورغوت أوزال رئيس الوزراء التركي آنذاك للولايات المتحدة الأميركية”[9]، فيتلخّص بضخّ مياه نهرَي سيحان وجيحان، اللذان ينبعان من كيليلكية السورية السليبة ويصبّان في خليج لواء الإسكندرون السليب، “عبر أنبوبَين ضخمَين، أحدهما غربي” يُفترض أن يعبر سوريا إلى فلسطين المحتلة، والآخر “شرقي، ينقل المياه إلى الخليج العربي”[10]. وقد صرّح وزير الأشغال العامة والإسكان التركي، جنكيز التن كايا، في حديث بثّته القناة الثانية في التلفزيون التركي بتاريخ 13/12/1990، عن مشروعٍ لتزويد “إسرائيل” بمياه سيحان وجيحان عبر الأنابيب، “إضافةً إلى توفّر رغبةً قوية لدى تركيا لمقايضة البترول (العربي) بالمياه”، بما يتّفق مع تصريح الرئيس التركي سليمان ديميريل عند افتتاح “سد أتاتورك” في تموز/يوليو من عام 1992، حين قال: “إن منابع مياه (دجلة والفرات وسيحان وجيحان) ملك لتركية، كما أن النفط ملك للعرب، ونظراً لأننا لا نقول إن لنا الحق في نصف نفطكم، فلا يجوز لهم أن يطالبوا بما هو لنا”.[11]

كيف يُعمي الإنشغال بـ”أدبيات المحاور” عن الأعمال المادية الممنهجة طويلة الأمد التي يواظب عليها القطبَان “الإسلاميَّان” المذهبيَّان، والتي تنسف مقوّمات بقاء الدول والشعوب التي يراها القطبان “تابعةً”، في تصوّراتهما الإمبراطورية؟

ومن المعروف أن تركيا قد صدّرت بالفعل بعض مياه النهرين السوريَّين، سيحان وجيحان، إلى “إسرائيل” عبر “قاطرات” بحرية، عبارة عن بالونات مياه عائمة تجرّها سفن (سبق أن إقترح النائب اللبناني الأسبق، محمد قباني، إستيراد المياه إلى “قصر المياه”، لبنان، عبرها).

يفيد الباحث عوني السبعاوي أن “مشروع أنابيب السلام هو أحد نتائج مؤتمر المياه في الشرق الأوسط، الذي عقده مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية التابع لجامعة جورج تاون الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1986. وكان قد أُعلن عن نتائج دراسة المشروع في حزيران/ يونيو 1987″. يضع السبعاوي مشروعَي الـ”غاب” و”أنابيب السلام” في إطار “الطروحات الأميركية حول النظام الدولي الجديد، الذي تُعَدّ التسوية الشاملة في المنطقة على المستوى السياسي والإقتصادي جزءاً منه”- أي إعادة صياغة “الشرق الأوسط” سياسياً، عبر تمكين تركيا و”إسرائيل” من المنطقة بإقتصادها ومواردها الطبيعية، وفي مقدّمها الماء – وذلك بالإستناد إلى خلاصات أبحاث أجرتها شركات ومراكز دراسات في جامعاتٍ أميركية، “وورقتي العمل التركية والإسرائيلية في المؤتمر الدولي للمياه الذي عُقد في فيينا عام 1992”[12].

وفقاً لبعض المصادر، فإن من ضمن ما كُشِف من وثائق السفارة الأميركية في طهران بعد إقتحامها عام 1979، تقارير مخابراتية تتضمّن “توصيات تقّدمت بها واشنطن إلى حكومة عدنان مندرس (التركية)، دعتها فيها إلى بناء سدود كبيرة على الفرات ودجلة، لتستخدمها مستقبلاً كسلاح فعّال” ضد سوريا[13]. وفي تأكيدٍ إضافيٍّ على الطبيعة العدوانية للمشاريع المائية التركية، جاء في تقريرٍ لرئاسة أركان الجيش التركي، حول سيناريوهات الحرب مع سوريا، أن إنشاءات مشروع الـ”غاب” تؤمّن “رجحان الكفّة بشكل واضح، في النواحي التقنية والجغرافية والطبوغرافية، لصالح تركيا”. ذلك أن “سلسلة السدود التي بنتها تركيا على نهر الفرات في إطار مشروع (غاب) وملحقاته، مع أقنية الري المتصلة بالسدود، الممتدة لآلاف الكيلومترات على طول السهول وعرضها، ومئات البحريات الصغيرة، ستكون عاملاً حاسماً في تغيير البيئة الجغرافية للمنطقة (بشكلٍ) يمنع أي تقدم برّي للمدرّعات السورية”[14].

أما الدور الصهيوني في مشاريع المياه التركية، فهو مُعلَن. من أنقرة، كان وزير التجارة والصناعة “الإسرائيلي” قد صرّح، في 25/3/1998، أن “تركيا وإسرائيل ستتعاونان في مشروع جنوبي شرق الأناضول، وأن إسرائيل ستضع خبراتها في مجالَي الزراعة والري في خدمة هذا المشروع، حيث تمتلك تكنولوجيا متقدمة في هذين المجالين”[15].

ثمة على الأقل 67 شركة ومؤسسة “إسرائيلية” تعمل في مشروع الـ”غاب” منذ عام 1995″، وتشتري الأراضي على ضفاف نهر مناوغات، الذي تطمح دولة العدو في شراء مياهه.. بعد زيارة الرئيس “الإسرائيلي” عازر وايزمان لتركيا عام 1988، إذ خصّص جزءاً كبيراً من زيارته للبحث في مسألة الإستثمار اليهودي في المشروع. وبقيت البعثة الفنية المرافقة لوايزمان تعمل في منطقة المشروع”. وكان من الهيئات الرسمية المنخرطة بالمشروع “وزارة الزراعة والتنمية الريفية الإسرائيلية، ووزارة التعاون والتنمية الزراعية الإسرائيلية (CINADCO)، ووزارة الخارجية الإسرائيلية، ومركز التعاون الزراعي الدولي الإسرائيلي (MASHAV)”، فضلاً عن شركات “نان” (NAAN) و”نتيفيم” (NATIVIM) و “فيتريشين” (FITTERATION) “الإسرائيلية”.[16]

وكان الصحافي في جريدة “المستقبل” اللبنانية، أحمد أبو هدبة، قد رصد ما تناقلته وسائل إعلامٍ تركية وأجنبية حول النشاط الاستخباري الصهيوني الواسع في منطقة مشروع الـ”غاب”، والذي “يختفي وراء الكثير من أسماء الشركات والمشاريع المشاركة فيه”، ناقلاً عن صحيفة “أفران سان” التركية مثلاً “أن الموساد الإسرائيلي يحرّك جميع الشركات الإسرائيلية في مشروع الغاب، من خلال جمع الخبراء والمستشارين المشرفين عليها، حيث اتبعت إسرائيل مثل هذا الأسلوب في أفريقيا سابقاً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي”.[17]

إقرأ على موقع 180  عالم ما بعد أميركا وحرب أوكرانيا.. إنّه "فخّ توسيديدس"!

“الإخوان” ماضون في السياسة نفسها

عند وصول “الإخوان المسلمين” إلى السلطة في تركيا (تحت مسمّى “حزب العدالة والتنمية”)، كان ثمة من يراهن في سوريا خاصةً وعموم العالم العربي على تحوّل نوعي في السياسة التركية؛ وغذّت هذا الرهان ما يمكن تسميتها بعملية التضليل الإستراتيجي الكبرى التي قام بها “الإخوان”: من الخطابات “النارية” أو بالأحرى العَراضات الكلامية حول “إسرائيل، على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى التلويح بتغيير العقيدة “الأطلسية” للجيش التركي، والترويج المحموم لكتاب وزير الخارجية التركي سابقاً، أحمد داوُد أوغلو، “العمق الإستراتيجي”، وتنظيره لسياسة “صفر مشاكل” مع محيط تركيا، أو إستدارة الأخيرة شرقاً. في هذا السياق، ساد وهمٌ بأنه بات من الممكن التفاهم مع “الإخوة في الإسلام”، الذين باتوا حاكمين في تركيا، حول السياسة المائية. وشُرِّعَت الأبواب أمام عبور الأشخاص والبضائع من تركيا إلى سوريا خاصةً، وصولاً إلى الربط بالسكك الحديدية، والسماح للصادرات التركية المدعومة لمختلف السلع بإغراق السوق المحليةً – أي قُدِّم الأمن والإقتصاد السوريَّين قرابين لتركيا – ربما على أمل أن تكفّ الأخيرة عن كونها مصدر تهديدٍ عسكري ومائي.

الإستباحة الإقتصادية التركية-الصهيونية لبلادنا، والتي وجدت شركاء لها من بعض حكومات دول الخليج العربي، تقوم بجزءٍ كبيرٍ منها على مشاريع مصادرة مياهنا؛ وربما في المستقبل غير البعيد، ستكون الإستباحة هذه على جثة الهلال الخصيب، بعد قطع شرايينه المائية كلياً

غير أن تركيا “إستدارت شرقاً” بالفعل، ولكن ليس بمنطق “صفر مشاكل”. ففي عهد “الإخوان”، وبالتوازي مع التنامي المضطرد للعلاقات الإقتصادية- التجارية والتقنية وغيرها- وأيضاً العلاقات الأمنيّة التركية مع “إسرائيل”، مضت أنقرة في مشاريعها المائية الإجرامية تجاه سوريا والعراق. وحين دُقّت طبول الحرب، مطلع العقد الثاني من الألفية، بات أردوغان يتحدّث صراحةً عن أن الموصل وكركوك وربما حلب أيضاً مدن تركية، وأنه “سيصلّي في الجامع الأموي” في دمشق بعد أن يطيح إسلاميّوه بحكومتها، بقيادة غرف عملياتٍ فيها ضبّاط غربيين من حلف شمال الأطلسي.

في سياق الإستدارة-الإستباحة التركية شرقاً، يتناول الباحث في الشؤون التركية، عبد القادر عبد اللي، الأهمية الإقتصادية الإستراتيجية لمشروع الـ”غاب”، لافتاً إلى “نوعية المشاريع والمحاصيل والمنتجات” في المشروع، كـ”الصناعات (الغذائية) المعتمدة على الحبوب.. والصناعات الحيوانية والجلدية.. ومنتجات اللحوم والحليب ومشتقاته، والصناعات المتعلقة بمواد البناء (و)البيوت مسبقة الصنع.. وأنابيب الري”، وصناعات أخرى كالورق والطباعة ومواد التغليف والتعبئة”.[18] واللافت للإنتباه في المسألة، فضلاً عن الشراكة الكاملة في المشروع مع كيان الإحتلال الصهيوني، أن “إتفاقات أردوغان مع الدوحة لحظت إستثمارات قطرية في مختلف الأقاليم التركية، وفي رأسها منطقة «غاب»، حيث التربة المؤاتية والمياه الوافرة. وستركّز قطر على إقامة مؤسسات ومشاريع صناعية متصلة بالغذاء والزراعة في هذه المنطقة، ليتم تصدير إنتاجها إلى دول الخليج العربية”.[19]

الإستباحة الإقتصادية التركية-الصهيونية لبلادنا، والتي وجدت شركاء لها من بعض حكومات دول الخليج العربي، تقوم بجزءٍ كبيرٍ منها على مشاريع مصادرة مياهنا؛ وربما في المستقبل غير البعيد، ستكون الإستباحة هذه على جثة الهلال الخصيب، بعد قطع شرايينه المائية كلياً.

 

تركيا –”إسرائيل” و”سد النهضة”

ليس غريباً على مَن أقام كيانه السياسي على الإبادة الجماعية أن يعمل منهجياً على ضرب أهم مقوّمات الحياة لمجتمعاتٍ بأسرها؛ لكن الغريب حماسة الحكم “الإخواني” في تركيا على الذهاب بعيداً- بالمعنيين الحرفي والمجازي- مع شركائه الصهاينة، للمساس بشريان حياة وادي النيل: يتّضح أن الصراع على الهيمنة الإقليمية يستأهل قطع شرايين حياة مجتمعاتٍ غالبية أهلها من “الإخوة في الإسلام”.

في حين كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر يبحث مع الإتحاد السوفياتي بناء السد العالي على النيل، “أوصت واشنطن الحكومة الأثيوبية (1957) ببناء العديد من السدود على النيل الأزرق، ونهرين آخرين يغذّيان النيل بحوالى 72 مليار متر مكعب من المياه، ليكون ذلك سلاحاً استراتيجياً ضد مصر”، وفقاً للباحث التركي حسني محلي[20]. في هذا السياق، أجرى مكتب الإستصلاح الزراعي الأميركي دراساتٍ عدّة، بين عامي 1956 و1964، حدّد بموجبها 26 موقعاً لإنشاء السدود في إثيوبيا، أهمّها أربعة مواقع على المجرى الرئيسي للنيل الأزرق، هي “كارادوبي، مابيل، مانديا، وسد الحدود (النهضة).. وجاءت الدراسات الأميركية إثر الاتفاقية الرسمية التي وقّعتها واشنطن مع أديس أبابا عام 1957؛ ورافق ذلك رفضٌ أثيوبي لعرض عبد الناصر بتشكيل هيئة فنية مشتركة لدول نهر النيل”[21]. إلى ذلك، يتوقّع محلي أن دول منابع النيل الأبيض “لن تتأخر ببناء سدود مماثلة (لسد النهضة)، مع إستمرار الغزو الصّهيونيّ ومنظّمات اللوبي اليهودي” لها، ودخول “إسرائيل” بقوة على خط الإستثمارات الإقتصادية والأمنية والعسكرية فيها.[22]

لافتٌ هو التطابق بين نهجَي إثيوبيا وتركيا في تهديد أهم أسس حياة دول المصبّ؛ حيث كانت إثيوبيا قد أعلنت في جريدتها الرسمية “أثيوبيان هيرالد، في 26/2/1956، أنها “ستحتفظ لنفسها بحق استخدام موارد مياه نهر النيل وتصرفاته في الإقليم الأثيوبي لصالح شعب أثيوبيا، بغض النظر عن درجة إستخدام الدول الأخرى المستفيدة من هذه المياه، أو مدى سعيها وراءها”.[23] والمقاربة الإثيوبية الراهنة لمسألة “سد النهضة”، خلف المناورات والتضليل والمماطلة، ما زالت هي نفسها، خاصةً لجهة عدم إعتبارها المياه بمثابة حق أساسي يعادل الحق في الحياة، بل سلعةً تُشترى وتُباع- إسوةً بالموقف التركي من مياه أنهار الهلال الخصيب- مع إنشائها “البنك الإثيوبي لتصدير مياه النيل الأزرق”، والذي تشترك فيه “إسرائيل”[24]. وليس أبلغ في توصيف حجم الخطر الذي يمثّله “سد النهضة” على وادي النيل من حقيقة أن السعة الكاملة للسد تتجاوز كمية الوارد المائي لمصر من مياه النيل في عامٍ كامل.

معاهدة الدفاع التركية-الإثيوبية

قد تكون تركيا الفاعل الخارجي الأكثر نفوذاً في إثيوبيا، بعدما باتت المستثمر الأجنبي الأول فيها، في مجالات متعدّدة تشمل الصناعات الإستخراجية المعدنية والهيدروكاربونية، والإنشاءات الإستراتيجية- وأهمها “سد النهضة”، والصناعات الحربية والتدريب لقوات الجيش والأمن والشرطة؛ فضلاً عن معاهدةٍ دفاعيةٍ إلتزمت تركيا بموجبها “الدفاع” عن السد الذي يهدّد حياة مصر والسودان.

في زيارته لأديس أبابا عام 2015، وقّع أردوغان مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد العديد من إتفاقيات التعاون الإقتصادي والعسكري ذات الطابع الإستراتيجي. قد تكون أبرز الإتفاقيات التركية-الإثيوبية إتفاقيةً للدفاع المشترك، تقدّم تركيا بموجبها الدعم الفني واللوجستي لزيادة القدرات العسكرية الإثيوبية، مع نقل تكنولوجيات دفاعٍ جديدةٍ لإثيوبيا، وتحديث أصولها العسكرية، وإرساء تعاون متبادل بين شركات الصناعات الحربية للبلدين، فضلاً عن بيع شحنات أسلحة لأديس أبابا بقيمة مليار دولار. وفقاً للبيان الختامي لإتفاق الدفاع المشترك، لا تنقل تركيا خبرتها في بناء السدود إلى إثيوبيا فحسب، بل تلتزم الدفاع عن “سد النهضة” ضد أي تهديد، وتنصب رادارات تركية للإنذار المبكّر، وتزّود إثيوبيا بنظام صواريخ تركية-“إسرائيلية” للدفاع الجوي والصاروخي[25], [26].

حول النقطة الأخيرة، كان موقع “ديبكا” الإسرائيلي قد ذكر، في تموز/ يوليو 2019، أن “إسرائيل” نشرت منظومة الصواريخ “Spyder-MR” حول “سد النهضة”. كذلك، أوردت مصادر أنه إلى جانب الصواريخ “الإسرائيلية” المذكورة، تعاقدت حكومة إثيوبيا مع شركات “إسرائيلية” متخصّصة في مجالات قواعد البيانات والإتصالات، لبناء شبكات التحكّم الخاصة بالسد[27]، ليصبح “مفتاح النيل” في يد الصهاينة!

(*) الجزء الثاني: إيران ومياه العرب

المصادر والمراجع:

[1] مقابلة لوزير الموارد المائية العراقي، مهدي الحمداني، مع وكالة فرانس برس، 26 آب/ أغسطس 2020.

[2] مناف الجنابي، موقع “الجزيرة”، “العراق بلا أنهار عام 2040″، 14/1/2019

[3] المرجع نفسه

[4] إبراهيم أحمد سعيد، “تحديات الأمن المائي العربي”، مجلة جامعة دمشق، المجلد 31، العدد 1+2، 2015، ص 513.

[5] محمد زنبوعه، “الأمن المائي العربي”، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإقتصادية والقانونية، العدد الأول، 2007، ص 184.

[6] أسماء الحافظ، “نهر القارون سلاح بيد إيران لتركيع العراق”، موقع “الجديدة”، فيينا، 24 مايو/أيار 2011؛ http://aljadidah.com/2011/05/

[7] سكاي نيوز عربية، “سد إليسو.. مشروع يشرّد آلاف الأتراك ويهدد العراق بالعطش”، 19 أيار/مايو 2020.

[8] موقع قناة “الحرّة”، “إنخفاض مخيف في مياه دجلة والفرات: إيران وتركيا تهددان العراق بالموت عطشاً”، 26 آب/ أغسطس 2020.

[9] محمد زنبوعه، المرجع السابق، ص 191.

[10] المرجع نفسه

[11] عدنان حميدان وخلف الجراد، “الأمن المائي العربي ومسألة المياه في الوطن العربي”، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإقتصادية والقانونية، المجلد 22، العدد الثاني، 2006، ص 25-26.

[12] عوني السبعاوي، “إسرائيل ومشاريع المياه التركية: مستقبل الجوار المائي العربي”، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1998.

[13] حسني محلي، ” أثيوبيا وتركيا: من النيل إلى الفرات، و”إسرائيل” تنتظر”، “الميادين نت”، 24 حزيران/ يونيو 2020.

[14] عوني السبعاوي، “تركيا والكيان الصهيوني: ميادين الشراكة الاستراتيجية”، مجلة “الفكر السياسي” الصادرة عن إتحاد الكتاب العرب في دمشق، العدد 15

[15] محمد زنبوعة، المرجع السابق، ص 186.

[16] الطلبة السوريون القوميون الإجتماعيون، “الشراكة التركية – “الإسرئيلية” في مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) ودوره في تدمير العراق وسوريا”، http://www.ssnpstudents.com؛ عن الموقع الرسمي للجيش اللبناني، http://www.lebarmy.gov.lb/article.asp?ln=ar&id=2901

[17] أحمد أبو هدبة، “الشراكة التركية ـ الإسرائيلية في مشروع “الغاب” التركي”، صحيفة “المستقبل”، 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2003.

[18] أحمد أبو هدبة، المرجع السابق.

[19] محمد نور الدين، “مشروع «غاب» سوري بمياه تركية، وقطر «تقتحم» جنوب شرق الأناضول”، جريدة “السفير”، 16 شباط/ فبراير 2010.

[20] حسني محلي، المرجع السابق.

[21] عباس الزين، “من هرتزل إلى نتنياهو: خلفيات الدور “الإسرائيلي” في “سد النهضة””، “الميادين نت”؛ نُظِر في 29/7/2020.

[22] حسني محلي، المرجع السابق.

[23] محمد زنبوعه، المرجع السابق، ص 187.

[24] عباس الزين، المرجع السابق.

[25] جهاد عودة، “المشروع التركي الإثيوبي الإسرائيلي لحصار مصر”، “صدى البلد”، 19 حزيران/ يونيو 2020.

[26] Mahmoud al-Batakoushi, “Erdogan and Abiy Ahmed: Turkey and Ethiopia use Trident to fight Egypt”, The Reference, March 19th 2020;

[27] “المشاركون في تعطيش مصر: تعرّف على الشركات المساهمة في بناء سدّ النهضة”، صحيفة “العربي الجديد”، 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2019

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لبنان وحدوده الجنوبيّة.. في تهافت الخطاب "السّيادي"